الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ} (79)

قوله : { لاَّ يَمَسُّهُ } : في " لا " هذه وجهان ، أحدهما : أنها نافيةٌ فالضمةُ في " لا يَمَسُّه " ضمةُ إعرابٍ ، وعلى هذا القولِ ففي الجملةِ وجهان ، أحدهما : أنَّ محلَّها الجرُّ صفةً ل " كتاب " والمرادُ ب " كتاب " : إمَّا اللوحُ المحفوظُ ، والمُطهَّرون حينئذٍ الملائكةُ أو المرادُ به المصاحف ، والمرادُ بالمُطهَّرين المكلَّفون كلُّهم . والثاني : أن محلَّها الرفعُ صفةً لقرآنِ ، والمرادُ بالمطهَّرينِ الملائكةُ فقط أي : لا يَطَّلع عليه أو لا يَمَسُّ لَوْحَه . لا بُدَّ من أحد هَذَيْن التجوُّزَيْن ؛ لأن نسبةَ المسِّ إلى المعاني حقيقةً متعذَّرٌ . ويؤيِّد كونَ هذه نفياً قراءةُ عبد الله " ما يَمَسُّه " ب " ما " النافيةِ .

والثاني من الوجهين الأوَّلَيْن : أنها ناهيةٌ ، والفعلُ بعدها مجزومٌ ؛ لأنه لو فُكَّ عن الإِدغامِ لظهر ذلك فيه كقولِه : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } [ آل عمران : 174 ] ولكنه أَدْغم ، ولَمَّا أُدْغِمَ حُرِّك آخرُه بالضمِّ لأجلِ هاء ضميرِ المذكرِ الغائبِ ، ولم يَحْفَظْ سيبويه في نحوِ هذا إلاَّ الضمَّ . وفي الحديث : " إنَّا لم نَرُدُّه عليك إلاَّ أننا حُرُمٌ " وإن كان القياسُ يَقْتضي جوازَ فَتْحِه تخفيفاً ، وبهذا الذي ذكرْتُه يظهر فسادُ رَدَِّنْ رَدَّ : بأنَّ هذا لو كان نَهْياً لكان يُقال : " لا يَمَسَّه " بالفتح ؛ لأنه خَفي عليه جوازُ ضَمِّ ما قبل الهاءِ في هذا النحوِ ، لا سيما على رأيِ سيبويه فإنه لا يُجيز غيرَه . وقد ضَعَّفَ ابنُ عطية كونَه نهياً : بأنه إذا كان خبراً فهو في موضعِ الصفةِ ، وقولُه بعد ذلك " تنْزيلٌ " صفةٌ فإذا جعلناه نَهْياً كان أجنبياً معترضاً بين الصفاتِ وذلك لا يَحْسُن في رَصْفِ الكلامِ فتدبَّرْه . وفي حرف ابن مسعود " ما يمسُّه " انتهى .

وليس فيما ذكرَه ضَعْفٌ لهذا القول ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أنَّ " تنزيل " صفةٌ ، بل هو خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو تنزيلٌ فلا يَلْزَم ما ذَكرَه من الاعتراضِ . ولَئِنْ سَلَّمْنَا أنه صفةٌ ف " لا يَمَسُّه " صفةٌ أيضاً ، فيُعْترض علينا : بأنه طلبٌ . فيُجاب : بأنه على إضمارِ القولِ أي : مقولٌ فيه : لا يمسُّه ، كما قالوا ذلك في قوله : " فتنةً لا تصيبَنَّ " على أنَّ " لا تصيبنَّ " نَهْيٌ وهو كقولِه :

جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيْتَ الذئبَ قطّ ***

وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنفال ، وهذه المسألةُ يتعلَّقُ بها خلافُ العلماء في مَسِّ المُحْدِث المصحفَ ، وهو مبنيٌّ على هذا ، وسيأتي تحقيقُه بأشبعَ مِنْ هذا في كتاب " أحكام القرآن " إن شاء الله تعالى إتمامَه .

وقرأ العامَّةُ " المُطَهَّرون " بتخفيف الطاء وتشديد الهاء مفتوحةً اسمَ مفعول ، وعن سلمان الفارسي كذلك ، إلاَّ أنه بكسرِ الهاء اسمَ فاعلٍ أي : المُطَهِّرون أنفسَهم ، فحذف مفعولَه . ونافع وأبو عمروٍ في رواية عنهما وعيسى بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة اسم مَفعول من أطهر . وزيد والحسن وعبد الله بن عون وسلمان أيضاً " المُطَّهِّرُوْن " بتشديدِ الطاءِ والهاءِ المكسورةِ ، وأصلُه المتطهِّرون فأُدْغِم . وقد قُرىءَ بهذا الأصلِ أيضاً .