روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ} (79)

وقوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } إما صفة بعد صفة لكتاب مراداً به اللوح ، فالمراد بالمطهرون الملائكة عليهم السلام أي المطهرون المنزهون عن كدر الطبيعة ودنس الحظوظ النفسية ، وقيل : عن كدر الأجسام ودنس الهيولى والطهارة عليهما طهارة معنوية ، ونفى مسه كناية عن لازمه وهو نفي الاطلاع عليه وعلى ما فيه ، وإما صفة أخرى لقرآن .

والمراد بالمطهرون المطهرون عن الحدث الأصغر والحدث الأكبر بحمل الطهارة على الشرعية ، والمعنى لا ينبغي أن يمس القرآن إلا من هو على طهارة من الناس فالنفي هنا نظير ما في قوله تعالى : { الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } [ النور : 3 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه " الحديث وهو بمعنى النهي بل أبلغ من النهي الصريح ، وهذا أحد أوجه ذكروها للعدول عن جعل لا ناهية ، وثانيها : أن المتبادر كون الجملة صفة والأصل فيها أن تكون خبرية ولا داعي لاعتبار الإنشائية وارتكاب التأويل ، وثالثها : أن المتبادر من الضمة أنها إعراب فالحمل على غيره فيه إلباس ، ورابعها : أن عبد الله قرأ ما يمسه وهي تؤيد أن لا نافية وكون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام مروى من عدة طرق عن ابن عباس ، وكذا أخرجه جماعة عن أنس . وقتادة . وابن جبير . ومجاهد . وأبي العالية . وغيرهم إلا أن في بعض الآثار عن بعض هؤلاء ما هو ظاهر في أن الضمير في { لاَّ يَمَسُّهُ } مع كون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام راجع إلى القرآن .

أخرج عبد بن حميد . وابن جرير عن قتادة أنه قال : في الآية ذاك عند رب العالمين لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس ، والمنافق الرجس ، وأخرجاهما . وابن المنذر . والبيهقي في المعرفة عن الحبر قال : في الآية الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا الملائكة ، ويشير إليه ما أخرج ابن المنذر عن النعيمي قال : قال مالك : أحسن ما سمعت في هذه الآية { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } أنها بمنزلة الآية التي في عبس { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَة مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِى سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [ عبس : 11 16 ] وكون المراد بهم المطهرين من الأحداث مروى عن محمد الباقر على آبائه وعليه السلام . وعطاء . وطاوس . وسالم .

وأخرج سعيد بن منصور . وابن أبي شيبة في «المصنف » . وابن المنذر . والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن زيد قال : كنا مع سلمان يعني الفارسي رضي الله تعالى عنه فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا فخرج إلينا فقلنا لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن ؟ فقال : سلوني فإني لست أمسه إنما يمسه المطهرون ثم تلا { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } ، وقيل : الجملة صفة لقرآن ، والمراد بالمطهرون المطهرون من الكفر ، والمس مجاز عن الطلب كاللمس في قوله تعالى : { أَنَاْ لَمَسْنَا السماء } [ الجن : 8 ] أي لا يطلبه إلا المطهرون من الكفر ، ولم أر هذا مروياً عن أحد من السلف ، والنفي عليه على ظاهره ، ورجح جمع جعل الجملة وصفاً للقرآن لأن الكلام مسوق لحرمته وتعظيمه لا لشأن الكتاب المكنون ، وإن كان في تعظيمه تعظيمه . وصحح الإمام جعلها وصفاً للكتاب وفيه نظر وعلى الوصفية للقرآن ذهب من ذهب إلى اختيار تفسير المطهرين بالمطهرين عن الحدث الأكبر والأصغر .

وفي «الأحكام » للجلال السيوطي استدل الشافعي بالآية على منع المحدث من مس المصحف وهو ظاهر في اختيار ذلك ، والاحتمال جعل الجملة صفة للكتاب المكنون أو للقرآن ، وكون المراد بالمطهرين الملائكة المقربين عليهم السلام على ما سمعت عن ابن عباس . وقتادة عدل الأكثرون عن الاستدلال بها على ذلك إلى الاستدلال بالأخبار ، فقد أخرج الإمام مالك . وعبد الرزاق . وابن أبي داود . وابن المنذر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يمس القرآن إلا طاهر " إلى غير ذلك ، وقال بعضهم : يجوز أن يؤخذ منع مس غير الطاهر القرآن من الآية على الاحتمالين الآخرين أيضاً ، وذلك لأنها أفادت تعظيم شأن القرآن وكونه كريماً ، والمس بغير طهر مخل بتعظيمه فتأباه الآية وهو كما ترى ، وأطال الإمام الكلام في هذا المقام بما لا يخفى حاله على من راجعه ، نعم لا شك في دلالة الآية على عظم شأن القرآن ومقتضى ذلك الاعتناء بشأنه ولا ينحصر الاعتناء بمنع غير الطاهر عن مسه بل يكون بأشياء كثيرة كالإكثار من تلاوته والوضوء لها وأن لا يقرأه الشخص وهو متنجس الفم فإنه مكروه .

وقيل : حرام كالمس باليد المتنجسة ، وكون القراءة في مكان نظيف ، والقارىء مستقبل القبلة متخشعاً بسكينة ووقار مطرقاً رأسه ، والاستياك لقراءته ، والترتيل ، والتدبر ، والبكاء ، أو التباكي ، وتحسين الصوت بالقراءة وأن لا يتخذه معيشة ، وأن يحافظ على أن لا ينسى آية أوتيها منه ، فقد أخرج أبو داود وغيره «عرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها ، وأن لا يجامع بحضرته فإن أراد ستره ، وأن لا يضع غيره من الكتب السماوية وغيرها فوقه ، وأن لا يقلب أوراقه بأصبع عليها بزاق ينفصل منه شيء فقد قيل : بكفر من يفعل ذلك ، إلى أمور أخر مذكورة في محالها ، وفي وجوب كون القارىء طاهراً من الأحداث خلاف ، فعن ابن عباس في رواية أنه يجوز للجنب قراءة القرآن ، وروي ذلك أيضاً عن الإمام أبي حنيفة ، وعن ابن عمر أحبّ إلي أن لا يقرأ إلا طاهر وكأنهم اعتبروه كسائر الأذكار والفرق مثل الشمس ظاهر .

وقرأ عيسى { المطهرون } اسم مفعول مخففاً من أطهر ، ورويت عن نافع . وأبي عمرو ، وقرأ سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه { المطهرون } بتخفيف الطاء وتشديد الهاء وكسرها اسم فاعل من طهر أي { المطهرون } أنفسهم ، أو غيرهم بالاستغفار لهم والإلهام ، وعنه أيضاً { المطهرون } بتشديدهما وأصله المتطهرون فأدغم التاء بعد إبدالها في الطاء ؛ ورويت عن الحسن . وعبد الله بن عون ، وقرئ المتطهرون على الأصل .

ومما قاله السادة أرباب الإشارة : متعلقاً ببعض هذه السورة الكريمة وقيل : في قوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } [ الواقعة : 79 ] إن فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن لم يكن طاهر النفس من حدث الميل إلى صغائر الشهوات وهو الحدث الأصغر ومن حدث الميل إلى كبائر الشهوات وهو الحدث الأكبر أن يمس بيد نفسه وفكره معاني القرآن الكريم كما لا ينبغي لمن لم يكن طاهر البدن من الحدثين المعروفين في البدن أن يمس بيد بدنه وجسده ألفاظه المكتوبة ، وقيل : أيضاً يجوز أن يقال المعنى لا يصل إلى أدنى حقائق أسرار القرآن الكريم إلا المطهرون من أرجاس الشهوات وأنجاس المخالفات .

وإذا كانت هذه الجملة صفة للكتاب المكنون المراد منه اللوح المحفوظ وأريد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام ، وكان المعنى لا يطلع عليه إلا الملائكة عليهم السلام كان في ذلك ردّ على من يزعم أن الأولياء يرون اللوح المحفوظ ويطلعون على ما فيه ، وحمل المطهرين على ما يعم الملائكة والأولياء الذين طهرت نفوسهم وقدست ذواتهم حتى التحقوا بالملائكة عليهم السلام لا ينفع في البحث مع أهل الشرع فإن مدار استدلالاتهم على الأحكام الشرعية الظواهر على أنه لم يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو هو أنه نظر يوماً وهو بين أصحابه إلى اللوح المحفوظ واطلع على شيء مما فيه ، وقال لهم : إني رأيت اللوح المحفوظ واطلعت على كذا وكذا فيه ، وكذلك لم يسمع عن أجلة أصحابه الخلفاء الراشدين أنه وقع لهم ذلك ، وقد وقعت بينهم مسائل اختلفوا فيها وطال نزاعهم في تحقيقها إلى أن كاد يغم هلال الحق فيها ولم يراجع أحد منهم لكشفها اللوح المحفوظ .

وذكر بعض العلماء أن سدرة المنتهى ينتهي علم من تحتها إليها وأن اللوح فوقها بكثير ، وبكل من ذلك نطقت الآثار ، وهو يشعر بعدم اطلاع الأولياء على اللوح ، ومع هذا كله من ادعى وقوع الاطلاع فعليه البيان وأنى به ، وهذا الذي سمعت مبني على ما نطقت به الأخبار في صفة اللوح المحفوظ وأنه جسم كتب فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وأما إذا قيل فيه غير ذلك انجر البحث إلى وراء ما سمعت ، واتسعت الدائرة .

ومن ذلك قولهم : إن الألواح أربعة ، لوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول ، ولوح القدر أي لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول وهو المسمى باللوح المحفوظ ، ولوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم شكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه ، والثاني بمثابة قلبه ، ولوح الهيولى القابل للصورة في عالم الشهادة ويقولون أيضاً ما يقولون وينشد المنتصر له قوله

: وإذا لم تر الهلال فسلم *** لأناس رأوه بالأبصار

هذا ولا تظنن أن نفي رؤيتهم للوح المحفوظ نفي لكراماتهم الكشفية وإلهاماتهم الغيبية معاذ الله تعالى من ذلك ، وطرق اطلاع الله تعالى من شاء من أوليائه على من شاء من علمه غير منحصر بإراءته اللوح المحفوظ ثم إن الإمكان مما لا نزاع فيه وليس الكلام إلا في الوقوع ، وورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجلة أصحابه كالصديق .

والفاروق . وذي النورين . وباب مدينة العلم . والنقطة التي تحت الباء رضي الله تعالى عنهم أجمعين ، والله تعالى أعلم .