السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ} (79)

وقوله تعالى : { لا يمسه } خبر بمعنى النهي ولو كان باقياً على خبرتيه لزم منه الخلف لأنّ غير المطهر يمسه وخبر الله تعالى لا يقع فيه خلف لأنّ المراد بقوله تعالى : { إلا المطهرون } لا المحدثون وهو قول عطاء وطاوس وسالم والقاسم وأكثر أهل العلم وبه قال مالك والشافعي رضي الله عنهما ؛ وقال ابن عادل : والصحيح أنّ المراد بالكتاب : المصحف الذي بأيدينا لما روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم «لا يمس القرآن إلا طاهر » ، وقال ابن عمر قال النبيّ صلى الله عليه وسلم «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر » وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالمصحف { لا يمسه إلا المطهرون } فقام فاغتسل وأسلم ، وعلى هذا قال قتادة وغيره معناه لا يمسه إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس انتهى .

وقال ابن عباس : { مكنون } محفوظ عن الباطل والكتاب هنا كتاب في السماء ، وقال جابر : هو اللوح المحفوظ ، أي : لقوله تعالى : { بل هو قرآن مجيد 21 في لوح محفوظ } [ البروج : 21 22 ] وقال عكرمة : التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ، وقال السدي : الزبور وقيل : لا من «لا يمسه » نافية والضمة في لا يمسه ضمة إعراب وعلى هذا ففي الجملة وجهان : أحدهما : أن محلها الجرّ صفة لكتاب ، والمراد به : إمّا اللوح المحفوظ والمطهرون حينئذ الملائكة ، أو المراد به المصحف والمراد بالمطهرون الملائكة كلهم ، والثاني : محلها رفع صفة لقرآن والمراد بالمطهرين : الملائكة فقط أي : لا يطلع عليه ، لأنّ نسبة المس إلى المعاني متعذرة وقيل : إنها ناهية والفعل بعدها مجزوم لأنه لو فك عن الإدغام لظهر ذلك فيه كقوله تعالى : { لم يمسسهم سوء } [ آل عمران : 174 ] ولكنه أدغم ، ولما أدغم حرّك بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب ، وفي الحديث : «إنا لم نرده عليكما إلا أنا حرم » بضم الدال ، وإن كان القياس يقتضي جواز فتحها تخفيفاً ، وبهذا ظهر فساد رد من رد بأنّ هذا لو كان نهياً كان يقال لا يمسه بالفتح لأنه خفي عليه وانضم ما قبل الهاء في هذا التحويل لا يجوّز سيبويه غيره .

واختلفوا في المس المذكور في الآية فقال أنس وسعيد بن جبير : لا يمس ذلك إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة وقال أبو العالية وابن زيد : هم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم ، وقال الكلبي : هم السفرة الكرام البررة وهذا كله قول واحد وهو اختيار مالك ، وقال الحسن : هم الملائكة الموصوفون في سورة عبس في قوله تعالى : { صحف مكرمة 13 مرفوعة مطهرة 14 بأيدي سفرة 15 كرام بررة } [ عبس : 13 16 ] وقيل : معنى لا يمسه لا ينزل به إلا المطهرون أي : إلا الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء ولا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون ، ولو كان المراد طهر الحدث لقال المتطهرون أو المطهرون بتشديد الطاء ومن قال بالأوّل قال : المطهرون يعني المتطهرون .

تنبيه : اختلف العلماء في مس المصحف وحمله على غير وضوء فالجمهور على المنع من مسه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم وهو مذهب عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي ، وأما الحمل فلأنه أبلغ من المس سواء حمله بعلاقته أم في كمه أم على رأسه وسواء مس نفس الأسطر أم ما بينها أم الحواشي أم الجلد أم العلاقة أم الخريطة أم الصندوق إذا كان المصحف فيهما ، وسواء مس بأعضاء الوضوء أم بغيرها ؛ وقال جماعة بجواز مسه وحمله واحتجوا بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل كتاباً فيه قرآن ، وهرقل محدث يمسه هو وأصحابه ، وبأنّ الصبيان يحملون الألواح محدثين بلا إنكار ، وبأنه إذا لم تحرم القراءة فالحمل والمس أولى ، وبأنه يجوز حمله في أمتعة .

وأجيب عن الأوّل : بأنّ ذلك الكتاب كان فيه آيتان ولا يسمى مصحفاً ولا ما في معناه وبأنه لو كان كتاباً قد تضمن مع القرآن دعاء إلى الإسلام فلم يكن القرآن بانفراده مقصوداً فجاز تغليباً للمقصود فيه ، وعن الثاني : بأنه أبيح للصبيان للضرورة لأنهم غير مكلفين ، وعن الثالث : بأن القراءة أبيحت للحاجة وعسر الوضوء لها كل وقت وبأنا لا نسلم الأولوية المذكورة بدليل أن الكافر لا يمنع من القراءة ويمنع من حمل المصحف ومسه ، وعن الرابع : بأن جواز حمل المصحف في الأمتعة محله إذا لم يكن المصحف مقصود بالحمل .

وقال آخرون بحرمة المس دون الحمل واحتجوا بأنّ المحرم يحرم عليه مس الطيب دون حمله ، وأجيب عنه : بأنه غير صحيح لأنّ حمل المصحف أبلغ في الاستيلاء عليه من مسه ، فلما حرم الأدنى كان تحريم الأعلى أولى ولأن تحريم المصحف إنما هو لحرمته فاستوى فيه مسه وحمله بخلاف طيب المحرم فإنّ تحريمه مقصور على الاستمتاع به وليس في حمله استمتاع به ، ولو لف كمه على يده وقلب به أوراق المصحف حرم عليه لأنّ القلب يقع باليد لا بالكم بخلاف قلب ذلك بعود ، ويحرم كتب شيء من القرآن أو من أسماءه تعالى بنجس أو على نجس ومسه به إذا كان غير معفو عنه ، ولو خاف على المصحف من حرق أو غرق أو وقوع نجاسة عليه أو وقوعه في يد كافر جاز حمله مع الحدث بل يجب ذلك صيانة للمصحف ، ولو لم يجد من يودعه المصحف وعجز عن الوضوء فله حمله مع الحدث ويلزمه أن يتيمم إن وجد التراب ولا يجوز المسافرة بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم للنهي عنه في الصحيحين ، وخرج المصحف غيره نحو كتب الفقه والحديث وكتب التفسير ، فلا يحرم حملها ولا مسها إلا أن يكون القرآن أكثر من التفسير أو مساوياً له فيحرم الحمل والمس لأنه حينئذ في معنى المصحف وفي ذلك زيادة ذكرتها في شرح المنهاج وغيره .