الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ} (79)

الخامسة- قوله تعالى : " لا يمسه إلا المطهرون " اختلف في معنى " لا يمسه " هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى ؟ وكذلك اختلف في " المطهرون " من هم ؟ فقال أنس وسعيد وابن جبير : لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة . وكذا قال أبو العالية وابن زيد : إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم ، فجبريل النازل به مطهر ، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون . الكلبي : هم السفرة الكرام البررة . وهذا كله قول واحد ، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال : أحسن ما سمعت في قوله " لا يمسه إلا المطهرون " أنها بمنزلة الآية التي في " عبس وتولى " [ عبس : 1 ] : " فمن شاء ذكره . في صحف مكرمة . مرفوعة مطهرة . بأيدي سفرة . كرام بررة{[14674]} " [ عبس : 13 ] يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة " عبس " . وقيل : معنى " لا يمسه " لا ينزل به " إلا المطهرون " أي الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء . وقيل : لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون . وقيل : إن إسرافيل هو الموكل بذلك ، حكاه القشيري . ابن العربي : وهذا باطل لأن الملائكة لا تناله في وقت ولا تصل إليه بحال ، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال . وأما من قال : إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل ، وهو اختيار مالك . وقيل : المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا ، وهو الأظهر . وقد روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته : ( من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قَيْل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد ) وكان في كتابه : ألا يمس القرآن إلا طاهر . وقال ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر ) . وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة : " لا يمسه إلا المطهرون " فقام واغتسل وأسلم . وقد مضى في أول سورة " طه{[14675]} " .

وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره : " لا يمسه إلا المطهرون " من الأحداث والأنجاس . الكلبي : من الشرك . الربيع بن أنس : من الذنوب والخطايا . وقيل : معنى " لا يمسه " لا يقرؤه " إلا المطهرون " إلا الموحدون ، قاله محمد بن فضيل وعبدة . قال عكرمة : كان ابن عباس ينهي أن يمكن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن وقال الفراء : لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون ، أي المؤمنون بالقرآن . ابن العربي : وهو اختيار البخاري ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ) . وقال الحسين بن الفضل : لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق . وقال أبو بكر الوراق : لا يوفق للعمل به إلا السعداء . وقيل : المعنى لا يمس ثوابه إلا المؤمنون . ورواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم . ثم قيل : ظاهر الآية خبر عن الشرع ، أي لا يمسه إلا المطهرون شرعا ، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع ، وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي . وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر . وقد مضى هذا المعنى في سورة " البقرة{[14676]} " . المهدوي : يجوز أن يكون أمرا وتكون ضمة السين ضمة إعراب . ويجوز أن يكون نهيا وتكون ضمة بناء السين ضمة بناء والفعل مجزوم .

السادسة- واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء ، فالجمهور على المنع من مسه لحديث عمرو بن حزم . وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد ، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي . واختلفت الرواية عن أبي حنيفة ، فروي عنه أنه يمسه المحدث ، وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما . وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه ، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر . ابن العربي : وهذا إن سلمه مما يقوي الحجة عليه ، لأن حريم الممنوع ممنوع . وفيما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أقوى دليل عليه . وقال مالك : لا يحمله غير طاهر بعلاقة ولا على وسادة . وقال أبو حنيفة : لا بأس بذلك . ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسه بحائل . وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن علي أنه لا بأس بحمله ومسه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا ، إلا أن داود قال : لا يجوز للمشرك حمله . واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ، وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه . وفي مس الصبيان إياه على وجهين : أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ . والثاني الجواز ؛ لأنه لو منع لم يحفظ القرآن ؛ لأن تعلمه{[14677]} حال الصغر ، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة ؛ لأن النية لا تصح منه ، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا .


[14674]:راجع جـ 19 ص 213.
[14675]:راجع جـ 11 ص 163.
[14676]:راجع جـ 3 ص 91.
[14677]:في ب، ح، ز، س، هـ: "لأن حال تعلمه حال الصغر".