في «لا » هذه وجهان{[55081]} :
أحدهما : أنها نافية ، فالضمة في «لا يمسُّه » ضمة إعراب .
وعلى هذا القول ففي الجملة وجهان :
أحدهما : أن محلها الجر صفة ل «كتاب » ، والمراد به : إما اللوح المحفوظ ، و«المُطَهَّرون » حينئذ : الملائكة ، أو المراد به المصاحف ، والمراد ب «المطهرين » : المكلفون كلهم .
والثاني : أن محلها الرفع صفة ل «قرآن » . والمراد ب «المطهرين » : الملائكة فقط ، أي : لا يطلع عليه ، أو لا يمسّ لوحه ، لا بد من هذين التجوزين ؛ لأن نسبة المسّ إلى المعاني حقيقة متعذّر .
ويؤيد كون هذه نفياً{[55082]} قراءة عبد الله : «ما يمسّه » ب «ما » النافية .
الوجه الثاني : أنها ناهية ، والفعل بعدها مجزوم ؛ لأنه لو فكّ عن الإدغام لظهر ذلك فيه ، كقوله تعالى : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } [ آل عمران : 174 ] ولكنه أدغم ، ولما أدغم حرك آخره بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب .
ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا إلا الضم{[55083]} .
وفي الحديث : «إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عليك إلاَّ أنَّنَا حرمٌ »{[55084]} .
وإن كان القياس يقتضي جواز فتحه تخفيفاً ، وبهذا يظهر فساد من ردّ بأن هذا لو كان نهياً لكان يقال : «لا يمسّه » بالفتح ؛ لأنه خفي عليه جواز ضم ما قبل «الهاء » في هذا النحو ، لاسيما على رأي سيبويه ، فإنه لا يجيز غيره .
وقد ضعف ابن عطيَّة{[55085]} كونها نهياً بأنه إذا كان خبراً فهو في موضع الصفة ، وقوله بعد ذلك : «تَنْزِيل » صفة ، فإذا جعلناه نهياً كان أجنبيًّا معترضاً بين الصِّفات ، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره ، وفي حرف ابن مسعود : «ما يمسه » . انتهى .
وليس فيما ذكره ما يقتضي تضعيف هذا القول ؛ لأنا لا نسلّم أن «تنزيل » صفة ، بل هو خبر مبتدأ محذوف ، أي : «هو تنزيل » فلا يلزم ما ذكره من الاعتراض .
ولئن سلّمنا أنه صفة ف «لا يمسّه » صفة أيضاً ، فإن اعترض علينا بأنه طلب فيجاب بأنه على إضمار القول ، أي : نقول فيه : «لا يمسّه » كما قالوا ذلك في قوله : { فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ } [ الأنفال : 25 ] على أن «لا تُصِيبن » نهي .
وهو كقوله{[55086]} : [ مشطور الرجز ]
جَاءُوا بمَذْقٍ هَلْ رأيْت الذِّئْبَ قَط{[55087]} ؟ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدم تحقيقه في «الأنفال » .
وهذه الآية يتعلق بها خلاف العلماء في مس المُحْدث المصحف ، وهو مبني على هذا .
وقرأ العامة : «المُطَهَّرُونَ » بتخفيف الطَّاء ، وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول .
وعن سلمان الفارسي{[55088]} كذلك إلا أنه يكسر الهاء ، اسم فاعل ، أي : المطهرون أنفسهم ، فحذف مفعوله .
ونافع وأبو عمرو في رواية{[55089]} عنهما ، وعيسى بسكون الطاء ، وفتح الهاء خفيفة اسم مفعول من «أطْهَر زيد » .
والحسن وعبد الله بن عوف وسلمان أيضاً{[55090]} : «المطَّهِّرون » بتشديد الطَّاء والهاء المكسورة ، وأصله : «المُتطهرون » فأدغم .
وقد قرئ بهذا على الأصل أيضاً .
فصل في تحرير المسّ المذكور في الآية{[55091]}
اختلفوا في المسّ المذكور في الآية ، هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى ؟ وكذلك اختلفوا في المطهرون مَنْ هم ؟ .
فقال أنس وسعيد بن جبير : لا يمسّ ذلك إلاَّ المطهرون من الذنوب وهم الملائكة{[55092]} .
وقال أبو العالية وابن زيد : هم الذين طهروا من الذنوب كالرّسل من الملائكة ، والرسل من بني آدم{[55093]} .
وقال الكلبي : هم السَّفرة ، الكِرَام البررة{[55094]} ، وهذا كله قول واحد ، وهو اختيار مالك .
وقال الحسن : هم الملائكة الموصوفون في{[55095]} سورة «عبس » في قوله تعالى : { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [ عبس : 13 - 16 ] .
وقيل : معنى «لا يمسّه » لا ينزل به إلا المطهرون ، يعني : الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء ، ولا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلاَّ الملائكة المطهرون .
ولو كان المراد طهر الحدث لقال : المتطهرون أو المطهرون بتشديد «الطاء » .
والصحيح أن المراد بالكتاب : المصحف الذي بأيدينا ؛ لما روى مالك وغيره : أن في كتاب عمرو بن حزم : «لا يمسّ القرآنَ إلاَّ طاهرٌ » .
وقال ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تمسَّ القُرآنَ إلاَّ وأنْتَ طاهرٌ »{[55096]} .
وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه ، وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } فقام واغتسل ، وأسلم .
وعلى هذا قال قتادة وغيره : معناه : لا يمسه إلا المطهّرون من الأحداث والأنجاس .
وقال الكلبي : من الشِّرْك{[55097]} .
وقال الربيع بن أنس : من الذنوب والخطايا{[55098]} .
وقال محمد بن فضيل وعبدة : لا يقرؤه إلا المطهرون ، أي : إلاَّ الموحدون .
قال عكرمة : وكان ابن عباس ينهى أن يمكن اليهود والنصارى من قراءته{[55099]} .
وقال الفراء{[55100]} : لا يجد نفعه وطعمه وبركته إلا المطهرون ، أي : المؤمنون بالقرآن ، وقال الحسين بن الفضل : معناه : لا يعرف تفسيره وتأويله إلاَّ من طهَّره الله من الشِّرْك والنفاق .
وقال أبو بكر الورَّاقُ : لا يوفق للعمل به إلا السُّعداء .
وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المعنى : لا يمسّ ثوابه إلا المؤمنون{[55101]} .
اختلف العلماء في مسِّ المصحف على غير وضوء{[55102]} .
فالجمهور على المَنْع من مسِّه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم ، وهو مذهب علي ، وابن مسعود ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وعطاء ، والزهري ، والنخعي والحكم وحماد ، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشَّافعي .
واختلفت الرواية عن أبي حنيفة .
فروي عنه أنه يمسّه المحدث ، وهذا مروي عن ابن عباس والشعبي وغيرهما ، وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه ، وما ليس بمكتوب .
وأمَّا [ الكتاب ] {[55103]} فلا يمسّه إلاَّ طاهر .
قال ابن العربي{[55104]} : وهذا يقوي الحجة عليه ؛ لأن جِرْمَ الممنوع ممنوع ، وكتاب عمرو بن حزم أقوى دليل عليه .
وقال مالك : لا يحمله غير طاهر بعلامة ، ولا على وسادة .
وقال أبو حنيفة : لا بأس بذلك .
وروي عن الحكم وحماد وداود بن علي : أنه لا بأس بحمله ومسّه للمسلم والكافر طاهراً أو محدثاً ، إلاَّ أن داود قال : لا يجوز للمشرك حمله ، واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى «قيصر » ، ولا حجة فيه لأنه موضع ضرورة .
والمراد بالقرآن : المصحف ، سمي قرآناً لقرب الجوار على الاتِّساع ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو . أراد به المصحف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.