اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ} (79)

قوله : { لاَّ يَمَسُّهُ } .

في «لا » هذه وجهان{[55081]} :

أحدهما : أنها نافية ، فالضمة في «لا يمسُّه » ضمة إعراب .

وعلى هذا القول ففي الجملة وجهان :

أحدهما : أن محلها الجر صفة ل «كتاب » ، والمراد به : إما اللوح المحفوظ ، و«المُطَهَّرون » حينئذ : الملائكة ، أو المراد به المصاحف ، والمراد ب «المطهرين » : المكلفون كلهم .

والثاني : أن محلها الرفع صفة ل «قرآن » . والمراد ب «المطهرين » : الملائكة فقط ، أي : لا يطلع عليه ، أو لا يمسّ لوحه ، لا بد من هذين التجوزين ؛ لأن نسبة المسّ إلى المعاني حقيقة متعذّر .

ويؤيد كون هذه نفياً{[55082]} قراءة عبد الله : «ما يمسّه » ب «ما » النافية .

الوجه الثاني : أنها ناهية ، والفعل بعدها مجزوم ؛ لأنه لو فكّ عن الإدغام لظهر ذلك فيه ، كقوله تعالى : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } [ آل عمران : 174 ] ولكنه أدغم ، ولما أدغم حرك آخره بالضم لأجل هاء ضمير المذكر الغائب .

ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا إلا الضم{[55083]} .

وفي الحديث : «إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عليك إلاَّ أنَّنَا حرمٌ »{[55084]} .

وإن كان القياس يقتضي جواز فتحه تخفيفاً ، وبهذا يظهر فساد من ردّ بأن هذا لو كان نهياً لكان يقال : «لا يمسّه » بالفتح ؛ لأنه خفي عليه جواز ضم ما قبل «الهاء » في هذا النحو ، لاسيما على رأي سيبويه ، فإنه لا يجيز غيره .

وقد ضعف ابن عطيَّة{[55085]} كونها نهياً بأنه إذا كان خبراً فهو في موضع الصفة ، وقوله بعد ذلك : «تَنْزِيل » صفة ، فإذا جعلناه نهياً كان أجنبيًّا معترضاً بين الصِّفات ، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره ، وفي حرف ابن مسعود : «ما يمسه » . انتهى .

وليس فيما ذكره ما يقتضي تضعيف هذا القول ؛ لأنا لا نسلّم أن «تنزيل » صفة ، بل هو خبر مبتدأ محذوف ، أي : «هو تنزيل » فلا يلزم ما ذكره من الاعتراض .

ولئن سلّمنا أنه صفة ف «لا يمسّه » صفة أيضاً ، فإن اعترض علينا بأنه طلب فيجاب بأنه على إضمار القول ، أي : نقول فيه : «لا يمسّه » كما قالوا ذلك في قوله : { فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ } [ الأنفال : 25 ] على أن «لا تُصِيبن » نهي .

وهو كقوله{[55086]} : [ مشطور الرجز ]

جَاءُوا بمَذْقٍ هَلْ رأيْت الذِّئْبَ قَط{[55087]} ؟ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقد تقدم تحقيقه في «الأنفال » .

وهذه الآية يتعلق بها خلاف العلماء في مس المُحْدث المصحف ، وهو مبني على هذا .

وقرأ العامة : «المُطَهَّرُونَ » بتخفيف الطَّاء ، وتشديد الهاء مفتوحة اسم مفعول .

وعن سلمان الفارسي{[55088]} كذلك إلا أنه يكسر الهاء ، اسم فاعل ، أي : المطهرون أنفسهم ، فحذف مفعوله .

ونافع وأبو عمرو في رواية{[55089]} عنهما ، وعيسى بسكون الطاء ، وفتح الهاء خفيفة اسم مفعول من «أطْهَر زيد » .

والحسن وعبد الله بن عوف وسلمان أيضاً{[55090]} : «المطَّهِّرون » بتشديد الطَّاء والهاء المكسورة ، وأصله : «المُتطهرون » فأدغم .

وقد قرئ بهذا على الأصل أيضاً .

فصل في تحرير المسّ المذكور في الآية{[55091]}

اختلفوا في المسّ المذكور في الآية ، هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى ؟ وكذلك اختلفوا في المطهرون مَنْ هم ؟ .

فقال أنس وسعيد بن جبير : لا يمسّ ذلك إلاَّ المطهرون من الذنوب وهم الملائكة{[55092]} .

وقال أبو العالية وابن زيد : هم الذين طهروا من الذنوب كالرّسل من الملائكة ، والرسل من بني آدم{[55093]} .

وقال الكلبي : هم السَّفرة ، الكِرَام البررة{[55094]} ، وهذا كله قول واحد ، وهو اختيار مالك .

وقال الحسن : هم الملائكة الموصوفون في{[55095]} سورة «عبس » في قوله تعالى : { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [ عبس : 13 - 16 ] .

وقيل : معنى «لا يمسّه » لا ينزل به إلا المطهرون ، يعني : الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء ، ولا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلاَّ الملائكة المطهرون .

ولو كان المراد طهر الحدث لقال : المتطهرون أو المطهرون بتشديد «الطاء » .

والصحيح أن المراد بالكتاب : المصحف الذي بأيدينا ؛ لما روى مالك وغيره : أن في كتاب عمرو بن حزم : «لا يمسّ القرآنَ إلاَّ طاهرٌ » .

وقال ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تمسَّ القُرآنَ إلاَّ وأنْتَ طاهرٌ »{[55096]} .

وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه ، وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } فقام واغتسل ، وأسلم .

وعلى هذا قال قتادة وغيره : معناه : لا يمسه إلا المطهّرون من الأحداث والأنجاس .

وقال الكلبي : من الشِّرْك{[55097]} .

وقال الربيع بن أنس : من الذنوب والخطايا{[55098]} .

وقال محمد بن فضيل وعبدة : لا يقرؤه إلا المطهرون ، أي : إلاَّ الموحدون .

قال عكرمة : وكان ابن عباس ينهى أن يمكن اليهود والنصارى من قراءته{[55099]} .

وقال الفراء{[55100]} : لا يجد نفعه وطعمه وبركته إلا المطهرون ، أي : المؤمنون بالقرآن ، وقال الحسين بن الفضل : معناه : لا يعرف تفسيره وتأويله إلاَّ من طهَّره الله من الشِّرْك والنفاق .

وقال أبو بكر الورَّاقُ : لا يوفق للعمل به إلا السُّعداء .

وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المعنى : لا يمسّ ثوابه إلا المؤمنون{[55101]} .

فصل في مس المصحف لغير المتوضئ

اختلف العلماء في مسِّ المصحف على غير وضوء{[55102]} .

فالجمهور على المَنْع من مسِّه على غير طهارة لحديث عمرو بن حزم ، وهو مذهب علي ، وابن مسعود ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وعطاء ، والزهري ، والنخعي والحكم وحماد ، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشَّافعي .

واختلفت الرواية عن أبي حنيفة .

فروي عنه أنه يمسّه المحدث ، وهذا مروي عن ابن عباس والشعبي وغيرهما ، وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه ، وما ليس بمكتوب .

وأمَّا [ الكتاب ] {[55103]} فلا يمسّه إلاَّ طاهر .

قال ابن العربي{[55104]} : وهذا يقوي الحجة عليه ؛ لأن جِرْمَ الممنوع ممنوع ، وكتاب عمرو بن حزم أقوى دليل عليه .

وقال مالك : لا يحمله غير طاهر بعلامة ، ولا على وسادة .

وقال أبو حنيفة : لا بأس بذلك .

وروي عن الحكم وحماد وداود بن علي : أنه لا بأس بحمله ومسّه للمسلم والكافر طاهراً أو محدثاً ، إلاَّ أن داود قال : لا يجوز للمشرك حمله ، واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى «قيصر » ، ولا حجة فيه لأنه موضع ضرورة .

والمراد بالقرآن : المصحف ، سمي قرآناً لقرب الجوار على الاتِّساع ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو . أراد به المصحف .


[55081]:ينظر: الدر المصون 6/267.
[55082]:ينظر: المحرر الوجيز 5/252، والبحر المحيط 8/213، والدر المصون 6/267.
[55083]:ينظر: الكتاب 2/159.
[55084]:تقدم.
[55085]:ينظر: المحرر الوجيز 5/252.
[55086]:ينظر: الدر المصون 6/268.
[55087]:تقدم.
[55088]:ينظر: المحرر الوجيز 5/252، والبحر المحيط 8/214، والدر المصون 6/268.
[55089]:ينظر السابق.
[55090]:السابق.
[55091]:ينظر: القرطبي 17/146.
[55092]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/659 - 66) عن سعيد بن جبير.
[55093]:ينظر المصدر السابق وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/232) عن الربيع بن أنس مثله وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[55094]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/289) والقرطبي (17/146).
[55095]:ذكره القرطبي (17/146).
[55096]:تقدم تخريجه.
[55097]:ذكره القرطبي (17/146) عن الكلبي.
[55098]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/232) وعزاه إلى ابن المنذر وعبد بن حميد.
[55099]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/146).
[55100]:ينظر: معاني القرآن للفراء 3/130.
[55101]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/146).
[55102]:ينظر: القرطبي 17/147.
[55103]:في ب: كتابه.
[55104]:ينظر: أحكام القرآن ص 1739.