هذه الآيات الكريمات مشتملات على المحرمات بالنسب ، والمحرمات بالرضاع ، والمحرمات بالصهر ، والمحرمات بالجمع ، وعلى المحللات من النساء . فأما المحرمات في النسب فهن السبع اللاتي ذكرهن الله .
الأم يدخل فيها كل من لها عليك ولادة ، وإن بعدت ، ويدخل في البنت كل من لك عليها ولادة ، والأخوات الشقيقات ، أو لأب أو لأم . والعمة : كل أخت لأبيك أو لجدك وإن علا .
والخالة : كل أخت لأمك ، أو جدتك وإن علت وارثة أم لا . وبنات الأخ وبنات الأخت أي : وإن نزلت .
فهؤلاء هن المحرمات من النسب بإجماع العلماء كما هو نص الآية الكريمة وما عداهن فيدخل في قوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وذلك كبنت العمة والعم وبنت الخال والخالة .
وأما المحرمات بالرضاع فقد ذكر الله منهن الأم والأخت . وفي ذلك تحريم الأم مع أن اللبن ليس لها ، إنما هو لصاحب اللبن ، دل بتنبيهه على أن صاحب اللبن يكون أبا للمرتضع فإذا ثبتت الأبوة والأمومة ثبت ما هو فرع عنهما كإخوتهما وأصولهم وفروعهم{[204]} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " فينتشر التحريم من جهة المرضعة ومن له اللبن كما ينتشر في الأقارب ، وفي الطفل المرتضع إلى ذريته فقط . لكن بشرط أن يكون الرضاع خمس رضعات في الحولين كما بينت السنة .
وأما المحرمات بالصهر فهن أربع . حلائل الآباء وإن علوا ، وحلائل الأبناء وإن نزلوا ، وارثين أو محجوبين . وأمهات الزوجة وإن علون ، فهؤلاء الثلاث يحرمن بمجرد العقد .
والرابعة : الربيبة وهي بنت زوجته وإن نزلت ، فهذه لا تحرم حتى يدخل بزوجته كما قال هنا { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } الآية .
وقد قال الجمهور : إن قوله : { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } قيد خرج مخرج الغالب لا مفهوم له ، فإن الربيبة تحرم ولو لم تكن في حجره ولكن للتقييد بذلك فائدتان :
إحداهما : فيه التنبيه على الحكمة في تحريم الربيبة وأنها كانت بمنزلة البنت فمن المستقبح إباحتها .
والثانية : فيه دلالة على جواز الخلوة بالربيبة وأنها بمنزلة من هي في حجره من بناته ونحوهن . والله أعلم .
وأما المحرمات بالجمع فقد ذكر الله الجمع بين الأختين وحرمه وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، فكل امرأتين بينهما رحم محرم لو قدر إحداهما ذكرًا والأخرى أنثى حرمت عليه فإنه يحرم الجمع بينهما ، وذلك لما في ذلك من أسباب التقاطع بين الأرحام .
ثم بين - سبحانه - بعض من يحرم نكاحن من الأقارب فقال تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت } وليس المراد بقوله { حُرِّمَتْ } تحريم ذاتهن ، لأن الحرمة لا تتعلق بالذوات وإنما تتعلق بأفعال المكلفين . فالكلام على حذف مضاف أى حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم . . الخ وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله ، معنى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } تحريم نكاحن لقوله . { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } ولأن تحريم نكاحن هو الذى يفهم من تحريمهن ، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها . ومن تحريم لحم الخنزير تحريم أكله .
وقد ذكر - سبحانه - فى هذه الحملة الكريمة أربع طوائف من الأقارب يحرم نكاحهن .
أما الطائفة الأولى : طائفة الأمهات من النسب . أى حرم الله عليكم نكاح أمهاتكم من النسب ، ويعم هذا التحريم أيضا الجدات سواء أكن من جهة الأب أم من جهة الأم ، لأنه إذا كان يحرم نكاح العمة أو الخالة فمن الأولى أن يكون نكاح الجدة محرما ، إذ الأم هى طريق الوصول فى القرابة إلى هؤلاء . وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح الجدات .
والطائفة الثانية : هى طائفة الفروع من النساء ، وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله { وَبَنَاتُكُمْ } بالعطف على أمهاتكم .
أى حرم الله عليكم نكاح أمهاتكم ونكاح بناتكم .
والبنت هى كل امرأة لك عليها ولادة سواء أكانت بنتا مباشرة أم بواسطة فتشمل حرمة النكاح البنات وبنات الأبناء وبنات البنات وإن نزلن .
وقد انعقد الإِجمال على تحريم الفروع من النساء مهما تكن طبقتهن .
والطائفة الثالثة : هى طائفة فروع الأبوين . وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله { وَأَخَوَاتُكُمْ } ثم بقوله ، { وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت } بالعطف على { وَأُمَّهَاتُكُمُ } .
أى وحرم الله عليكم نكاح أخواتكم سواء أكن شقيقات أم غير شقيقات وحرم عليكم أيضا نكاح بنات إخوانكم وبنات أخواتكم من أى وجه يكن .
والطائفة الرابعة : هى طائفة العمات والخالات . وقد ثبت تحريم نكاحهن بقوله - تعالى - { وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ } بالعطف على { أُمَّهَاتُكُمْ } .
أى حرم الله عليكم نكاح عماتكم وخالاتكم كما حرم عليكم نكاح أمهاتكم وبناتكم .
والعمة : هى كل امرأة شاركت أباك مهما علا فى أصليه أو فى أحدهما .
والخالة : هى كل امرأة شاركت أمك مهما علت فى أصليها أو فى أحدهما .
وإذن فالعمات والخالات يشملن عمات الأب والأم ، وخالات الأب والأم ، وعمات الجد والجدة ، وخالات الجد والجدة ، لأن هؤلاء يطلق عليهن عرفا اسم العمة والخالة .
تلك هى الطوائف الأربع اللاتى يحرم نكاحهن من الأقارب ، وإن هذا التحريم يتناسب مع الفطرة التى فطر الله الناس عليها ، ويتفق مع العقول السليمة التى تحب مكارم الأخلاق ، وذلك لأن شريعة الإِسلام قد نوهت بمنزلة القرابة القريبة للإِنسان ، وأضفت عليها الكثيرة من ألوان الوقار والاحترام ؛ والزواج وما يصاحبه من شهوات ومداعبات ورضا واختلاف يتنافى مع ما أسبغه الله - تعالى - على هذه القوابة القريبة من وقار ومن عواطف شريفه .
ولأن التجارب العلمية قد أثبتت أن التلاقح بين سلائل متباعدة الأصول غالبا ما ينتج نسلا قويا ، أما التلاقح بين السلائل المتحدة فى أصولها القريبة فإنه غالبا ما ينتج نسلا ضعيفا .
ثم بين - سبحانه - النساء اللائي يحرم الزواج بهن لأسباب أخرى سوى القرابة فقال - تعالى - { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة } .
أى : وحرم الله - عليكم نكاح أمهاتكم اللاتى أرضعنكم ، وحرم عليكم - أيضا نكاح أخواتكم من الرضاعة .
والأم من الرضاع : هى كل امرأة أرضعتك ؛ وكذلك كل امرأة انتسبت إلى تلك المرضعة بالأمومة من جهة النسب أو من جهة الرضاع .
والأخت من الرضاع : هى التى التقيت انت وهى على ثدى واحد .
قال القرطبى : وهى الأخت لأب وأم . وهى التى أرضعتها أمك بلبان أبيك ، سواء أرضعتها معك أو رضعت قبلك أو بعدك والأخت من الأب دون الأم ، وهى التى أرضعتها زوجة أبيك . والأخت من الأم دون الأب وهى التى أرضعتها أمك بلبان رجل آخر .
هذا ، وظاهر قوله - تعالى - { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة } يقتضى أن مطلق الرضاع محرم للنكاح . وبذلك قال المالكية والأحناف :
ويرى الشافعية والحنابلة أن الرضاع المحرم هو الذى يبلغ خمس رضعات . واستدلوا بما رواه مسلم وغيره عن عائشة - رضى الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحرم المصة ولا المصتان " وفى رواية عنها انه قال :
" لا تحرم الرضعة والرضعتان ، والمصة والمصتان " .
كذلك ظاهر هذه الجملة الكريمة يقتضى أن الرضاع يحرم النكاح ولو فى سن الكبر ، إلا أن جمهور العلماء يرون أن الرضاع المحرم هو ما كان قبل بلوغ الحولين أما ما كان بعد بلوغ الحولين فلا يحرم ولا يكون الرضيع ابنا من الرضاعة وذلك لقوله - تعالى - { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } وأخرج الترمذى عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء ، وكان قبل الفطام " .
قال ابن كثير عند تفسيره لقوله - تعالى - { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة } .
أى : كما يحرم عليك نكاح أمك التى ولدتك كذلك يحرم عليك نكاح أمك التى أرضعتك .
ولهذا ثبت فى الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة " وفى لفظ المسلم : " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " .
ومن الحكم التى ذكرها العلماء من وراء تحريم النكاح بسبب الرضاعة : أن المولود يتكون جسمه من جسم المرأة التى أرضعته فيكون جزءاً منها ، كما أنه جزء من أمه التى حملته . وإذا كانت هذه قد غذته بدمها وهو فى بطنها فإن تلك قد غذته بلبانها وهو فى حجرها ، فكان من التكريم لهذه الأم من الرضاع أن تعامل معاملة الحقيقة ، وأن يعامل كل من التقيا على ثدى امرأة واحدة معاملة الإِخوة من حيث التكريم وحرمة النكاح بينهم .
هذا ، ومن أراد المزيد من المعرفة لأحكام الرضاع فليرجع الى كتب الفقه .
ثم ذكر - سبحانه - نوعا ثالثا من المحرمات لغير سبب القرابة فقال : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ } .
أى : وكذلك حرم الله عليكم نكاح أمهات زوجاتكم سواء أكن أمهات مباشرات أم جدات ، لأن كلمة الأم تشمل الجدات ، ولإِجماع الفقهاء على ذلك .
قال الآلوسى : والمراد بالنساء المعقود عليهن وعلى الإِطلاق ، سواء أكن مدخولا بهن أم لا . وهو مجمع عليه عند الأئمة الأربعة ، لكن يشترط أن يكون النكاح صحيحا . أما إذا كان فاسدا فلا تحرم الأم إلا إذا وطئ ابنتها . فقد أخرج البيهقى فى سننه وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالابنة أو لم يدخل . وإذا تزوج الأم ولم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الإِبنة " .
ثم بين - سبحانه - نوعا رابعا من المحرمات لغير سبب القرابة فقال تعالى - { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } .
وقوله { وَرَبَائِبُكُمُ } جمع ربيبة . وهى بنت أمرأة الرجل من غيره . وسميت بذلك لأن الزوج فى أغلب الأحوال يربها أى يربيها فى حجره ويعطف عليها .
والحجور : جمع حجر - بالفتح والكسر مع سكون الجيم - وهو ما يحويه مجتمع الرجلين للجالس المتربع . والمراد به هنا معنى مجازى وهو الحضانة والكفالة والعطف . يقال : فلان فى حجر فلان أى فى كنفه ومنعته ورعايته .
ومقتضى ظاهر الجملة الكريمة أن الربيبة لا يحرم نكاحها على زوج أمها إلا بشرطين :
وثانيهما : أن يكون الزوج قد دخل بأمها .
أما عن الشرط الأول فلم يأخذ به جمهور العلماء ، وقالوا : إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب والعادة ، إذ الغالب كون البنت مع الأم عند الزوج ، لا أنه شرط فى التحريم فهم يرون أن نكاح الربيبة حرام على زوج أمها سواء أكانت فى حجره أم لم تكن قالوا : وفائدة هذا القيد تقوية علة الحرمة أو أنه ذكر للتشنيع عليهم ، إذ أن نكاحها محرم عليهم فى جميع الصور إلا أنه يكون أشد قبحا فى حالة وجودها فى حجره هذا رأى عامة الصحابة والفقهاء .
ولكنه هناك رواية عن مالك بن أوس عن على بن أبى طالب أنه قال : الربيبة لا يحرم نكاحها على زوج الأم إلا إذا كانت فى حجره أخذا بظاهر الآية الكريمة . وقد أخذ بذلك داود الظاهرى وأشياعه .
وأصحاب الرأى الأول لم يعثدوا بهذه الرواية المروية عن على - رضى الله عنه - وأما عن الشرط الثانى - وهو أن يكون الزوج قد دخل بأم الربيبة - فقد أخذ به العلماء إلا أنهم اختلفوا فى معنى الدخول فقال بعضهم : معناه الوطء والجماع . وقال بعضهم : معناه التمتع كاللمس والقبلة ، فلو حصل منه مع الأم ما يشبه ذلك حرم عليه نكاح ابنتها من غيره .
قال القرطبى ما ملخصه : اتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم ، وإن لم تكن الربيبة فى حجره . وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا : لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون فى حجر المتزوج بأمها . ثم قال وقوله - تعالى - { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } يعنى الأمهات { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } يعنى فى نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم .
وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها . واختلفوا فى معنى الدخول بالأمهات الذى يقع به التحريم للربائب . فروى عن ابن عباس أنه قال : الدخول : الجماع . واتفق مالك والثورى وأبو حنيفة على أنه إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الأب والإبن ، وهو أحد قولى الشافعى . . .
والحكمة فى تحريم الربائب على أزواج أمهاتهن أنهن حينئذ يشبهن البنات الصلبيات بالنسبة لهؤلاء الأزواج ، بسبب ما يجدنه منهم من رعاية وتربية فى العادة ، ولأنه لو أبيح للرجل أن يتزوج ببنت امرأته التى دخل بها ، لأدى ذلك إلى تقطيع الأرحام بين الأمر وابنتها .
ولأدى ذلك أيضا إلى الانصراف عن رعاية هؤلاء الربائب خشية الرغبة فى الزواج بواحدة منهن .
ثم بين - سبحانه - نوعا خامسا من المحارم فقال . تعالى - : { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } .
والحلائل : جمع حليلة وهى الزوجة . وسميت بذلك لحلها للزوج وحل الزوج لها ، فكلاهما حلال لصاحبه . ويقال للزوج حليل .
أى : وحرم الله - تعالى - عليكم نكاح زوجات أبنائكم الذين هم من أصلابكم . أى : من ظهوركم .
وقال - سبحانه - { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ } بدون تقييد بالدخول . للاشارة إلى أن حليلة الابن تحرم على الأب بمجرد عقد الابن عليها .
قال القرطبى : أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء ، وما عقد عليه الأبناء على الآباء سواء أكان مع العقد وطء أو لم يكن : لقوله - تعالى - : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } وقوله - تعالى - : { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } . وقيد الله الأبناء بالذين هم من الأصلاب ، ليخرج الابن المتبنى . فهذا تحل زوجته للرجل الذى تبناه .
وقد كان العرب يعتبرون الابن بالتبنى كأولادهم من ظهورهم ، ويحرمون زوجة الابن بالتبنى على من تبناه . وقد سمى القرآن الأبناء بالتبنى أدعياء فقال - تعالى - :
{ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِي السبيل ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ } ثم أبطل القرآن ما كان عليه أهل الجاهلية فى شأن الابن المتبنى ، فأباح للرجل أن يتزوج من زوجة الابن الذى تبناه بعد فراقه عنها .
وقد أمر الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج بزينب بنت جحش بعد أن طلقها زوجها زيد بن حارثة ، وكان زيد قد تبناه النبي صلى الله عليه وسلم فقال المشركون : تزوج محمد امرأة ابنه فأنزل الله - تعالى - { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } فإن قيل : إن قيد { مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } . يخرج الابن من الرضاع كما أخرج الابن بالتبنى ؟ فالجواب على ذلك : أن الابن بالرضاع حرمت حليلته على أبيه من الرضاع بقول النبى صلى الله عليه وسلم : " يرحم من الرضاع ما يرحم من النسب " .
ثم بين - سبحانه - نوعا سادسا من المحرمات فقال - تعالى - : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } .
قال ابن كثير والمعنى : وحرم عليكم الجمع بين الأختين معا فى التزويج إلا ما كان منكم فى جاهليتكم فقد عفونا عنه وغفرناه .
فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل لأنه استثنى مما سلف وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديما وحديثا على أنه يرحم الجمع بين الأختين فى النكاح . ومن أسلم وتحت أختام خير فيمسك إحداهما ويطل الأخرى لا محالة ، فقد روى الإِمام أحمد عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال : أسلمت وعندى امرأتان أختان فأمرنى النبى صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما .
وكما أنه يحرم الجمع بين الأختين فى عصمة رجل واحد ، فكذلك يحرم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها أو ابنة أخيها أو ابنة أختها لنهى النبى - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقد جاء فى صحيح مسلم وفى سنن أبى داود والترمذى والنسائى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ، ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها " .
وفى رواية الطبرانى أنه قال : " فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم " .
والسر فى تحريم هذا النوع من النكاح أنه يؤدى إلى تقطيع الأرحام - كما جاء فى الحديث الشريف - إذا من شأن الضرائر أن يكون بينهن من الكراهية وتبادل الأذى ما هو مشاهد ومعلوم . فكان من رحمة الله بعباده أن حرم عليهم هذه الأنواع من الأنكحة السابقة صيانة للأسرة من التمزق والتشتت ، وحماية لها من الضعف والوهن ، وسمواً بها عن مواطن الريبة والغيرة والفساد وقد عفا - سبحانه - عما حدث من هذه الأنكحة الفاسدة فى الجاهلية أو قبل نزول هذه الآية الكريمة بتحريمها ، لأنه - سبحانه - كان وما زال غفارا للذنوب ، ستارا للعيوب ، رحيما بعباده ، ومن رحمته بهم أنه يعذبهم من غير نذير ، ولا يؤاخذهم على ما اكتسبوا إلا بعد بيان واضح .
والفقرة الثالثة في هذا الدرس ، تتناول سائر أنواع المحرمات من النساء . وهي خطوة في تنظيم الأسرة ، وفي تنظيم المجتمع على السواء :
( حرمت عليكم أمهاتكم ، وبناتكم ، وأخواتكم ، وعماتكم ، وخالاتكم ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة ، وأمهات نسائكم ، وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم - وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ، وأن تجمعوا بين الأختين - إلا ما قد سلف - إن الله كان غفورا رحيما ) . ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم - كتاب الله عليكم - وأحل لكم ما وراء ذلكم . . . ) . .
والمحارم - أي اللواتي يحرم الزواج منهن - معروفة في جميع الأمم ، البدائية والمترقية على السواء . وقد تعددت أسباب التحريم ، وطبقات المحارم عند شتى الأمم ، واتسعت دائرتها في الشعوب البدائية ، ثم ضاقت في الشعوب المترقية .
والمحرمات في الإسلام هي هذه الطبقات المبينة في هذه الآية والآية التي قبلها ، والآية التي بعدها . . وبعضها محرمة تحريما مؤبدا ، وبعضها محرمة تحريما مؤقتا . . وبعضها بسبب النسب ، وبعضها بسبب الرضاعة ، وبعضها بسبب المصاهرة .
وقد الغى الإسلام كل أنواع القيود الأخرى ، التي عرفتها المجتمعات البشرية الأخرى . كالقيود التي ترجع إلى اختلاف الأجناس البشرية وألوانها وقومياتها . والقيود التي ترجع إلى اختلاف الطبقات ومقاماتها الاجتماعية في الجنس الواحد والوطن الواحد . .
والمحرمات بالقرابة في شريعة الإسلام أربع طبقات :
أولاها : أصوله مهما علوا . فيحرم عليه التزوج من أمه وجداته من جهة أبيه أو من جهة أمه مهما علون : ( حرمت عليكم أمهاتكم ) . .
وثانيتها : فروعه مهما نزلوا . فيحرم عليه التزوج ببناته وبنات أولاده ذكورهم وإناثهم مهما نزلوا : ( وبناتكم ) . .
وثالثتها : فروع أبويه مهما نزلوا . فيحرم عليه التزوج بأخته وببنات إخوته وأخواته وببنات أولاد إخوته وأخواته : ( وأخواتكم ) . . ( وبنات الأخ ، وبنات الأخت ) . .
ورابعتها : الفروع المباشرة لأجداده . فيحرم عليه التزوج بعمته وخالته ، وعمة أبيه وعمة جده لأبيه أو أمه ، وعمة أمه وعمة جدته لأبيه أو أمه . . ( وعماتكم وخالاتكم ) . . أما الفروع غير المباشرة للأجداد فيحل الزواج بهم . ولذلك يباح التزاوج بين أولاد الأعمام والعمات وأولاد الأخوال والخالات .
والمحرمات بالمصاهرة خمس : 1 - أصول الزوجة مهما علون . فيحرم على الرجل الزواج بأم زوجته ، وجداتها من جهة أبيها أو من جهة أمها مهما علون . ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على الزوجة : سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل : ( وأمهات نسائكم ) . .
2- فروع الزوجة مهما نزلن . فيحرم على الرجل الزواج ببنت زوجته ، وبنات أولادها ، ذكورا كانوا أم إناثا مهما نزلوا . ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة : ( وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن . فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ) . .
3- زوجات الأب والأجداد من الجهتين - مهما علوا - فيحرم على الرجل الزواج بزوجة أبيه ، وزوجة أحد أجداده لأبيه أو أمه مهما علوا . . ( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ) . . أي ما سلف في الجاهلية من هذا النكاح وقد كانت تجيزه . .
4- زوجات الابناء ، وأبناء الأولاد مهما نزلوا . فيحرم على الرجل الزواج بامرأة ابنه من صلبه ، وامرأة ابن ابنه ، أو ابن بنته مهما نزل : ( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) . . وذلك إبطالا لعادة الجاهليةفي تحريم زوجة الابن المتبني . وتحديده بابن الصلب . ودعوة أبناء التبني إلى آبائهم - كما جاء في سورة الأحزاب .
5- أخت الزوجة . . وهذه تحرم تحريما مؤقتا ، ما دامت الزوجة حية وفي عصمة الرجل . والمحرم هو الجمع بين الأختين في وقت واحد : ( وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ) . . أي ما سلف من هذا النكاح في الجاهلية وقد كانت تجيزه . .
ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب والصهر . وهذه تشمل تسع محارم :
1- الأم من الرضاع وأصولها مهما علون : ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ) .
2- البنت من الرضاع وبناتها مهما نزلن [ وبنت الرجل من الرضاع هي من أرضعتها زوجته وهي في عصمته ] .
3- الأخت من الرضاع ، وبناتها مهما نزلن ( وأخواتكم من الرضاعة ) .
4- العمة والخالة من الرضاع [ والخالة من الرضاع هي أخت المرضع . والعمة من الرضاع هي أخت زوجها ] .
5- أم الزوجة من الرضاع [ وهي التي أرضعت الزوجة في طفولتها ] وأصول هذه الأم مهما علون . ويسري هذا التحريم بمجرد العقد على المرأة - كما في النسب .
6- بنت الزوجة من الرضاع [ وهي من كانت الزوجة قد أرضعتها قبل أن تتزوج بالرجل ] وبنات أولادها مهما نزلوا . ولا يسري هذا التحريم إلا بعد الدخول بالزوجة .
7- زوجة الأب أو الجد من الرضاع مهما علا [ والأب من الرضاع هو من رضع الطفل من زوجته . فلا يحرم على هذا الطفل الزواج بمن أرضعته فحسب ، وهي أمه من الرضاع . بل يحرم عليه كذلك الزواج بضرتها التي تعتبر زوجة أبيه من الرضاع ] .
8- زوجة الابن من الرضاع مهما نزل .
9- الجمع بين المرأة وأختها من الرضاع ، أو عمتها أو خالتها من الرضاع ، أو أية امرأة أخرى ذات رحم محرم منها من ناحية الرضاع . .
والنوع الأول والثالث من هذه المحرمات ورد تحريمهما نصا في الآية . أما سائر هذه المحرمات فهي تطبيق للحديث النبوي : " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " . . [ أخرجه الشيخان ] . .
هذه هي المحرمات في الشريعة الإسلامية ، ولم يذكر النص علة للتحريم - لا عامة ولا خاصة - فكل ما يذكر من علل ، إنما هو استنباط ورأي وتقدير . .
فقد تكون هناك علة عامة . وقد تكون هناك علل خاصة بكل نوع من أنواع المحارم . وقد تكون هناك علل مشتركة بين بعض المحارم .
إن الزواج بين الأقارب يضوي الذرية ، ويضعفها مع امتداد الزمن . لأن استعدادات الضعف الوراثية قد تتركز وتتأصل في الذرية . على عكس ما إذا تركت الفرصة للتلقيح الدائم بدماء أجنبية جديدة ، تضاف استعداداتها الممتازة ، فتجدد حيوية الأجيال واستعداداتها .
أو يقال : إن بعض الطبقات المحرمة كالأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت . وكذلك نظائرهن من الرضاعة . وأمهات النساء ، وبنات الزوجات - الربائب والحجور - يراد أن تكون العلاقة بهن علاقة رعاية وعطف ، واحترام وتوقير ، فلا تتعرض لما قد يجد في الحياة الزوجية من خلافات تؤدي إلى الطلاق والانفصال - مع رواسب هذه الانفصال - فتخدش المشاعر التي يراد لها الدوام .
أو يقال : إن بعض هذه الطبقات كالربائب في الحجور ، والأخت مع الأخت ، وأم الزوجة وزوجة الأب . . لا يراد خدش المشاعر البنوية أو الأخوية فيها . فالأم التي تحس أن ابنتها قد تزاحمها في زوجها ، والبنت والأخت كذلك ، لا تستبقي عاطفتها البريئة تجاه بنتها التي تشاركها حياتها ، أو أختها التي تتصل بها ، أو أمها ، وهي أمها ! وكذلك الأب الذي يشعر أن إبنه قد يخلفه على زوجته . والابن الذي يشعر أن أباه الراحل أو المطلق غريم له ، لأنه سبقه على زوجته ! ومثله يقال في حلائل الأبناء الذين من الأصلاب ، بالنسبة لما بين الابن والأب من علاقة لا يجوز أن تشاب !
أو يقال : إن علاقة الزواج جعلت التوسيع نطاق الأسرة ، ومدها إلى ما وراء رابطة القرابة . ومن ثم فلا ضرورة لها بين الأقارب الأقربين ، الذين تضمهم آصرة القرابة القريبة . ومن ثم حرم الزواج من هؤلاء لانتفاء الحكمة فيه ، ولم يبح من القريبات إلا من بعدت صلته ، حتى ليكاد أن يفلت من رباط القرابة .
وأيا ما كانت العلة ، فنحن نسلم بأن اختيار الله لا بد وراءه حكمة ، ولا بد فيه مصلحة . وسواء علمنا أو جهلنا ، فإن هذا لا يؤثر في الأمر شيئا ، ولا ينقص من وجوب الطاعة والتنفيذ ، مع الرضى والقبول . فالإيمان لا يتحقق في قلب ، ما لم يحتكم إلى شريعة الله ، ثم لا يجد في صدره حرجا منها ويسلم بها تسليما .
ثم تبقى كلمة أخيرة عامة عن هذه المحارم ، ونص التشريع القرآني المبين لها :
إن هذه المحرمات كانت محرمة في عرف الجاهلية - فيما عدا حالتين اثنتين : ما نكح الآباء من النساء ، والجمع بين الأختين . فقد كانتا جائزتين - على كراهة من المجتمع الجاهلي . .
ولكن الإسلام - وهو يحرم هذه المحارم كلها - لم يستند إلى عرف الجاهلية في تحريمها . إنما حرمها ابتداء ، مستندا إلى سلطانه الخاص . وجاء النص : حرمت عليكم أمهاتكم . . إلخ . .
والأمر في هذا ليس أمر شكليات ؛ إنما هو أمر هذا الدين كله . وإدراك العقدة في هذا الأمر هو إدراك لهذا الدين كله ، وللأصل الذي يقوم عليه : أصل الألوهية وإخلاصها لله وحده . .
إن هذا الدين يقرر أن التحليل والتحريم هو من شأن الله وحده ، لأنهما أخص خصائص الألوهية . فلا تحريم ولا تحليل بغير سلطان من الله . فالله - وحده - هو الذي يحل للناس ما يحل ، ويحرم على الناس ما يحرم . وليس لأحد غيره أن يشرع في هذا وذاك ، وليس لأحد أن يدعي هذا الحق . لأن هذا مرادف تماما لدعوى الألوهية !
ومن ثم فإن الجاهلية تحرم أو تحلل ، فيصدر هذا التحريم والتحليل عنها باطلا بطلانا أصليا ، غير قابل للتصحيح ، لأنه لا وجود له منذ الابتداء . فإذا جاء الإسلام إلى ما أحلت الجاهلية أو حرمت ، فهو يحكم ابتداء ببطلانه كلية بطلانا أصليا ، ويعتبره كله غير قائم . بما أنه صادر من جهة لا تملك إصداره - لأنها ليست إلها - ثم يأخذ هو في إنشاء أحكامه إنشاء . فإذا أحل شيئا كانت الجاهلية أو حرم شيئا كانت الجاهلية تحرمه فهو ينشيء هذه الأحكام ابتداء . ولا يعتبر هذا منه اعتمادا لأحكام الجاهلية التي أبطلها كلها ، لأنها هي باطلة ، ثم تصدر من الجهة التي تملك وحدها إصدار هذه الأحكام . . وهي الله . .
هذه النظرية الإسلامية في الحل والحرمة تشمل كل شيء في الحياة الإنسانية ، ولا يخرج عن نطاقها شيء في هذه الحياة . . إنه ليس لأحد غير الله أن يحل أو يحرم ، في نكاح ، ولا في طعام ، ولا في شراب ، ولا في لباس ، ولا في حركة ، ولا في عمل ، ولا في عقد ، ولا في تعامل ، ولا في ارتباط ، ولا في عرف ، ولا في وضع . . إلا أن يستمد سلطانه من الله ، حسب شريعة الله .
وكل جهة أخرى تحرم أو تحلل شيئا في حياة البشر - كبر أم صغر - تصدر أحكامها باطلة بطلانا أصليا ، غير قابل للتصحيح المستأنف . وليس مجيء هذه الأحكام في الشريعة الإسلامية تصحيحا واعتمادا لما كان منها في الجاهلية . إنما هو إنشاء مبتدأ لهذه الأحكام ، مستند إلى المصدر الذي يملك إنشاء الأحكام .
وهكذا أنشأ الإسلام أحكامه في الحل والحرمة ، وهكذا أقام الإسلام أوضاعه وأنظمته . وهكذا نظم الإسلام شعائره وتقاليده . مستندا في إنشائها إلى سلطانه الخاص .
لقد عني القرآن بتقرير هذه النظرية ، وكرر الجدل مع الجاهليين في كل ما حرموه وما حللوه . . عني بتقرير المبدأ . فكان يسأل في استنكار : ( قل : من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟ ) . . ( قل : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) . . ( قال : لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير . . إلخ ) . .
وكان يردهم بهذه الاستنكارات إلى ذلك المبدأ الأساسي . وهو أن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده . وليس ذلك لأحد من البشر . . لا فرد ولا طبقة ولا أمة ، ولا الناس أجمعين . . إلا بسلطان من الله . وفق شريعة الله . . والتحليل والتحريم - أي الحظر والإباحة - هو الشريعة ، وهو الدين . فالذي يحلل ويحرم هو صاحب الدين الذي يدين الناس . فإن كان الذي يحرم ويحلل هو الله ، فالناس إذن يدينون لله ، وهم إذن في دين الله . وإن كان الذي يحرم أو يحلل أحدا غير الله ، فالناس إذن يدينون لهذا الأحد ؛ وهم إذن في دينه لا في دين الله .
والمسألة على هذا الوضع هي مسألة الألوهية وخصائصها . وهي مسألة الدين ومفهومه . وهي مسألة الإيمان وحدوده . . فلينظر المسلمون في أنحاء الأرض أين هم من هذا الأمر ؟ أين هم من الدين ؟ وأين هم من الإسلام . . إن كانوا ما يزالون يصرون على ادعائهم للإسلام ! ! !
ويليه الجزء الخامس مبدوءا بقوله تعالى : والمحصنات من النساء .
هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب ، وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان بن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : حُرمت عليكم سبع نَسَبًا ، وسبع صِهْرًا ، وقرأ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ } الآية .
وحدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء{[6909]} عن عُمَير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : يحرم من النسب سبع ومن الصهر سبع ، ثم قرأ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ } فهن{[6910]} النسب .
وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم قوله تعالى : { وبناتكم } ؛ فإنها بنت فتدخل في العموم ، كما هو مذهب أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد بن حنبل . وقد حُكيَ عن الشافعي شيء في إباحتها ؛ لأنها ليست بنتًا شرعية ، فكما لم تدخل في قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } فإنها لا ترث بالإجماع ، فكذلك لا تدخل في هذه الآية . والله أعلم .
وقوله : { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ } أي كما تحرم{[6911]} عليك أمك التي ولدتك ، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك ؛ ولهذا روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث مالك بن أنس ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرضاعة تحرم ما تحرّم الولادة " ، وفي لفظ لمسلم : " يَحْرُم من الرضاعة ما يَحْرُم من النسب " {[6912]} .
وقد قال بعض الفقهاء : كما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع إلا في أربع صور . وقال بعضهم : ست صور ، هي{[6913]} مذكورة في كتب الفروع . والتحقيق أنه لا يستثنى شيء من ذلك ؛ لأنه يوجد مثل بعضها في النسب ، وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر ، فلا يرد{[6914]} على الحديث شيء أصلا البتة ، ولله الحمد .
ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة ، فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الآية . وهذا قول مالك ، ويحكى عن ابن عمر ، وإليه ذهب سعيد بن المُسَيَّب ، وعُرْوَة بن الزبير ، والزُّهْرِي .
وقال آخرون : لا يحرم أقل من ثلاث رضعات لما ثبت في صحيح مسلم ، من طريق هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تُحرِّم المصةُ والمصتان " {[6915]} .
وقال قتادة ، عن أبي الخليل ، عن عبد الله بن الحارث ، عن أم الفضل قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تُحرم الرَّضْعَة ولا الرضعتان ، والمصَّة{[6916]} ولا المصتان " ، وفي لفظ آخر : " لا تحرم الإمْلاجَة ولا الإملاجتان " رواه مسلم{[6917]} .
وممن ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد ، وأبو ثور . ويحكى{[6918]} عن علي ، وعائشة ، وأم الفضل ، وابن الزبير ، وسليمان بن يسار ، وسعيد بن جبير ، رحمهم الله .
وقال آخرون : لا يحرم أقل من خمس رضعات ، لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عَمْرة{[6919]} عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان فيما أنزل [ الله ]{[6920]} من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن . ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى لله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن .
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة نحو ذلك{[6921]} .
وفي حديث سَهْلة بنت سهيل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تُرضِع مولى أبي حذيفة خمس رضعات{[6922]} وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يُرْضع خمس رضعات . وبهذا قال الشافعي ، رحمه الله [ تعالى ]{[6923]} وأصحابه . ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور . وكما{[6924]} قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة ، عند قوله : { يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ الآية : 233 ] .
واختلفوا : هل يحرم لبن الفَحْل ، كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم ؟ وإنما يختص الرضاع بالأم فقط ، ولا ينتشر إلى ناحية الأب كما هو لبعض السلف ؟ على قولين ، {[6925]} تحرير هذا كله في كتاب " الأحكام الكبير " .
وقوله : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أما{[6926]} أم المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها ، سواء دخل بها أو لم يدخل . وأما الربيبة وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد على أمها حتى يدخل بها ، فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج بنتها ، ولهذا قال : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [ أي ]{[6927]} في تزويجهن ، فهذا خاص بالربائب وحدهن .
وقد فهم بعضُهم عود الضمير إلى الأمهات [ و ]{[6928]} الربائب فقال : لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها ؛ لقوله : { فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ }
وقال{[6929]} ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن سعيد عن قتادة ، عن خِلاس بن عَمْرو ، عن علي ، رضي الله عنه ، في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ، أيتزوج أمها ؟ قال : هي بمنزلة الربيبة .
وحدثنا ابن بشار حدثنا يحيى بن{[6930]} سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت قال : إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها .
وفي رواية عن قتادة ، عن سعيد ، عن زيد بن ثابت ؛ أنه كان يقول : إذا ماتت عنده وأخذ ميراثها كُره أن يخلف على أمها ، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل .
وقال ابن المنذر : حدثنا إسحاق ، عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : أخبرني أبو بكر بن حفص ، عن مسلم بن{[6931]} عويمر الأجدع أن{[6932]} بكر بن كنانة أخبره أن أباه أنكحه امرأة بالطائف قال : فلم أجامعها حتى توفي عَمي عن أمها ، وأمها ذات مال كثير ، فقال أبي : هل لك في أمها ؟ قال : فسألت ابن عباس وأخبرته الخبر{[6933]} فقال : انكح أمها . قال : فسألت ابن عمر فقال : لا تنكحها . فأخبرت أبي ما قال ابن عباس وما قال ابن عمر ، فكتب إلى معاوية وأخبره في كتابه بما قال ابن عُمَر وابن عباس فكتب معاوية : إني لا أحلّ ما حَرم الله ، ولا أحرم ما أحل [ الله ] {[6934]} وأنت وذاك والنساء سواها كثير . فلم ينه{[6935]} ولم يأذن لي ، فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحها{[6936]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن سِمَاك بن الفضل ، عن رجل ، عن عبد الله بن الزبير قال : الربيبة والأم سواء ، لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة . وفي{[6937]} إسناده رجل مبهم{[6938]} لم يسم .
وقال ابن جريج{[6939]} أخبرني عكرمة بن خالد أن مجاهدًا قال له : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ } أراد{[6940]} بهما الدخول جميعًا{[6941]} فهذا القول مروى كما ترى عن علي ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، ومجاهد ، وابن جبير{[6942]} وابن عباس ، وقد توقف فيه معاوية ، وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني ، فيما نقله الرافعي عن العبادي . [ وقد خالفه جمهور العلماء من السلف والخلف ، فرأوا أن الربيبة لا تحرم بمجرد العقد على الأم ، وإنها لا تحرم إلا بالدخول بالأم ، بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد على الربيبة ]{[6943]} .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن محمد بن هارون بن عَزْرة{[6944]} حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه كان يقول إذا طلق الرجل امرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل{[6945]} له أمها ، أنه قال : إنها مبهمة ، فكرهها .
ثم قال : ورُويَ عن ابن مسعود ، وعمران بن حُصَين ، ومسروق ، وطاوس ، وعكرمة ، وعطاء ، والحسن ، ومكحول ، وابن سيرين ، وقتادة ، والزهري نحو ذلك . وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة ، وجمهور الفقهاء قديمًا وحديثًا ، ولله الحمد والمنة .
قال{[6946]} ابن جرير : والصواب ، أعنى قَوْلَ من قال : " الأم من المبهمات " ؛ لأن الله لم يشرط{[6947]} معهن الدخول كما شرط ذلك مع أمهات الربائب ، مع أن ذلك أيضًا إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه . وقد روي بذلك أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر ، غير أنَّ في إسناده نظرًا ، وهو ما حدثني به المثنى ، حدثنا حبان بن موسى ، حدثنا ابن المبارك ، أخبرنا المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها ، دخل بالبنت أو لم يدخل ، وإذا تزوج الأم{[6948]} فلم يدخل بها ثم طلقها ، فإن شاء تزوج الابنة{[6949]} .
ثم قال : وهذا الخبر ، وإن كان في إسناده ما فيه ، فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مُسْتَغْنى عن الاستشهاد على صحته بغيره .
وأما قوله : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ } فجمهور{[6950]} الأئمة على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره ، قالوا : وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب ، فلا مفهوم له كقوله تعالى : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [ النور : 33 ]
وفي الصحيحين أن أم حَبيبة قالت : يا رسول الله ، انكح أختي بنت أبي سفيان - وفي لفظ لمسلم : عزة بنت أبي سفيان - قال : " أو تحبين ذلك ؟ " قالت : نعم ، لَسْتُ لك بمُخْليَة ، وأحب من شاركني في خير أختي . قال : " فإن ذلك لا يَحل{[6951]} لي " . قالت : فإنا نُحَدثُ أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة . قال{[6952]} بنْتَ أم سلمة ؟ " قالت{[6953]} نعم . قال : إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حَلَّتْ لي ، إنها لبنت{[6954]} أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثُوَيْبَة فلا تَعْرضْن علي بناتكن ولا أخواتكن " . وفي رواية للبخاري : " إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي " {[6955]} .
فجعل المناط في التحريم مجرد تزويجه أم سلمة وحكم بالتحريم لذلك ، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف . وقد قيل بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل ، فإذا لم يكن كذلك فلا تحرم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا هشام - يعني ابن يوسف - عن ابن جريج ، حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة ، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان قال : كانت عندي امرأة فتوفيت ، وقد ولدت لي ، فوجِدْت عليها ، فلقيني علي بن أبي طالب فقال : مالك ؟ فقلت : توفيت المرأة . فقال علي : لها ابنة ؟ قلت : نعم ، وهي بالطائف . قال : كانت في حجرك ؟ قلت : لا هي بالطائف قال : فانكحها . قلت : فأين قول الله [ عز وجل ]{[6956]} { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ } قال : إنها لم تكن في حجْرك ، إنما ذلك إذا كانت في حجرك .
هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب ، على شرط مسلم ، وهو قول غريب جدًّا ، وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه . وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك ، رحمه الله ، واختاره ابن حزم ، وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عَرَض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية ، رحمه الله ، فاستشكله ، وتوقف في ذلك ، والله أعلم{[6957]} .
وقال ابن المنذر : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا الأثرم ، عن أبي عبيدة قوله : { اللاتِي فِي حُجُورِكُم } قال : في بيوتكم .
وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس ، عن ابن شهاب : أن عمر بن الخطاب سُئلَ عن المرأة وبنتها{[6958]} من ملك اليمين توطأ إحداهما بعد الأخرى ؟ فقال عمر : ما أحب أن أخبرهما جميعًا . يريد أن أطَأهُمَا جميعا بملك يميني . وهذا منقطع .
وقال سُنَيد بن داود في تفسيره : حدثنا أبو الأحوص ، عن طارق بن عبد الرحمن عن قيس قال : قلت لابن عباس : أيقع الرجل على امرأة وابنتها مملوكين{[6959]} له ؟ فقال : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، ولم{[6960]} أكن لأفعله .
قال الشيخ أبو عُمَر بن عبد البر ، رحمه الله : لا خلاف بين العلماء أنَّه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وابنتها{[6961]} من ملك اليمين ، لأن الله حرم ذلك في النكاح ، قال : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ } وملك اليمين هم{[6962]} تبع للنكاح ، إلا ما روي عن عُمَر وابن عباس ، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم . وروى{[6963]} هشام عن قتادة : بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطون كثيرة . وكذا قال قتادة عن أبي العالية .
ومعنى قوله تعالى : { اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } أي : نكحتموهن . قاله ابن عباس وغير واحد .
وقال ابن جريج عن عطاء : هو أن تهدى إليه فيكشف ويفتش ويجلس بين رجليها . قلت : أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها . قال : هو سواء ، وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها .
وقال ابن جرير : وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا يُحرم{[6964]} ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومُبَاشرتها أو قبل{[6965]} النظر إلى فرجها بشهوة ، ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع .
وقوله : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } أي : وحُرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم ، يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يَتَبَنَونهم في الجاهلية ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ [ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ]{[6966]} } الآية [ الأحزاب : 37 ] .
وقال ابن جُرَيْج : سألت عطاء عن قوله : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } قال : كنا نُحَدِّث ، والله أعلم ، أن رسول الله{[6967]} صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد ، قال{[6968]} المشركون بمكة في ذلك ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[6969]} { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } ونزلت : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } [ الأحزاب : 4 ] . ونزلت : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا الجرح{[6970]} بن الحارث ، عن الأشعث ، عن الحسن بن محمد{[6971]} أن هؤلاء الآيات مبهمات : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ } { أُمَّهَاتُ نِسَائِكُم } ثم قال : وروي عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول نحو ذلك .
قلت : معنى{[6972]} مبهمات : أي عامة في المدخول بها وغير المدخول ، فتحرم{[6973]} بمجرد العقد عليها ، وهذا متفق عليه . فإن قيل : فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرضاعة ، كما هو قول الجمهور ، ومن الناس من يحكيه إجماعا وليس من صلبه ؟ فالجواب من قوله صلى الله عليه وسلم : " يَحْرُم من الرّضاع{[6974]} ما يحرم من النسب " .
وقوله : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ [ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ]{[6975]} } أي : وحرم عليكم الجمع بين الأختين معًا في التزويج ، وكذا في ملك اليمين إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عن ذلك وغفرناه . فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل ولا استثناء فيما{[6976]} سلف ، كما قال : { لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى } [ الدخان : 56 ] فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت{[6977]} أبدا . وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديمًا وحديثًا على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح ، ومن أسلم وتحته أختان خير ، فيمسك إحداهما{[6978]} ويطلق الأخرى لا محالة .
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لَهِيعة عن أبي وهْب الجيْشاني عن الضحاك بن فيروز ، عن أبيه قال : أسلمت وعندي امرأتان أختان ، فأمَرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما{[6979]} .
ثم رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، من حديث ابن لهيعة . وأخرجه أبو داود والترمذي أيضًا من حديث يزيد بن أبي حبيب ، كلاهما عن أبي وهب الجَيْشاني . قال الترمذي : واسمه ديلم بن الهُوشَع ، عن الضحاك بن فيروز الديلمي ، عن أبيه ، به وفي لفظ للترمذي : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اختر أيتهما{[6980]} شئت " . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن{[6981]} .
وقد رواه ابن ماجه أيضا بإسناد آخر فقال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، عن أبي وهب الجيشاني عن أبي خراش الرُّعَيْني{[6982]} قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أختان تَزَوجْتُهما في الجاهلية ، فقال : " إذا رَجَعْتَ فَطلقْ إحداهما{[6983]} " {[6984]} .
قلت : فيحتمل أن أبا خراش هذا هو الضحاك بن فيروز ، ويحتمل أن يكون غيره ، فيكون أبو{[6985]} وهب قد رواه عن اثنين ، عن فيروز الديلمي ، والله أعلم .
وقال ابن مَرْدويه : حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن يحيى ، حدثنا أحمد بن يحيى الخولاني{[6986]} حدثنا هيثم بن خارجة ، حدثنا يحيى بن إسحاق ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فَرْوة عن رُزَيق{[6987]} بن حكيم ، عن كثير بن مرة ، عن الديلمي قال : قلت : يا رسول الله ، إن تحتي أختين ؟ قال : " طَلق أيهما شئت " {[6988]} .
فالديلمي المذكور أولا هو الضحاك بن فيروز الديلمي [ رضي الله عنه ]{[6989]} قال أبو زرعة الدمشقي : كان يصحب عبد الملك بن مروان ، والثاني هو أبو فيروز الديلمي ، رضي الله عنه ، وكان من جملة الأمراء باليمن الذين ولوا قتل الأسود العنسي{[6990]} المتنبئ لعنه الله .
وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضا لعموم الآية ، وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن عبد الله بن أبي عنبة - أو عتبة عن ابن مسعود : أنه سئل عن الرجل يجمع بين{[6991]} الأختين ، فكرهه ، فقال له - يعني السائل - : يقول الله عز وجل : { إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فقال له ابن مسعود : وبعيرك مما ملكت يمينك .
وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم ، وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك . قال الإمام مالك ، عن ابن شهاب ، عن قَبيصة بن ذُؤيب : أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين ، هل يجمع بينهما ؟ فقال عثمان : أحلتهما آية وحَرمتهما آية ، وما كنت لأصنع ذلك ، فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن ذلك فقال : لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا . قال مالك : قال ابن شهاب : أرَاه علي بن أبي طالب : قال : وبلغني عن الزبير بن العوام مثل ذلك .
قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر النَّمَري ، رحمه الله ، في كتابه " الاستذكار " : إنما كني قبيصة بن ذُؤيب عن علي بن أبي طالب ، لصحبته عبد الملك بن مروان ، وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه .
ثم قال أبو عمر ، رحمه الله : حدثني خلف بن أحمد ، رحمه الله ، قراءة عليه : أن خلف بن مطرف حدثهم : حدثنا أيوب بن سليمان وسعيد{[6992]} بن سليمان ومحمد بن عمر بن لبابة قالوا : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري{[6993]} عن موسى بن أيوب الغافقي ، حدثني عمي إياس بن عامر قال : سألت علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ]{[6994]} فقلت : إن لي أختين مما ملكت يميني ، اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولادًا ، ثم رغبت في الأخرى ، فما أصنع ؟ فقال علي ، رضي الله عنه : تعتق التي كنت تطَأُ ثم تطأ الأخرى . قلت : فإن ناسًا يقولون : بل تَزَوّجها ثم تطأ الأخرى . فقال علي : أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها أليس ترجع إليك ؟ لأن تعتقها أسلم لك . ثم أخذ علي بيدي فقال لي : إنه يحرم عليك ما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله عز وجل من الحرائر إلا العدد - أو قال : إلا الأربع - ويَحْرُم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب .
ثم قال أبو عمر : هذا الحديث رحلة{[6995]} لو لم يصب الرجل من أقصى المشرق أو المغرب{[6996]} إلى مكة غيره لما خابت رحلته{[6997]} .
قلت : وقد روي عن علي نحو ما تقدم{[6998]} عن عثمان ، وقال أبو بكر بن مردويه :
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن العباس ، حدثني محمد بن عبد الله بن المبارك المخرّمي{[6999]} حدثنا عبد الرحمن بن غَزْوان ، حدثنا سفيان ، عن عَمْرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال لي علي بن أبي طالب : حرمتهما آية وأحلتهما آية - يعني الأختين - قال ابن عباس : يحرمهن علي قرابتي منهن ، ولا يحرمهن على قرابة بعضهن من بعض - يعني الإماء - وكانت الجاهلية يحرمون ما تُحَرَّمون إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فلما جاء الإسلام أنزل الله [ عز وجل ]{[7000]} { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } يعني : في النكاح .
ثم قال أبو عمر : روى الإمام أحمد{[7001]} بن حنبل : حدثنا محمد بن سلمة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن ابن مسعود قال : يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد . وعن ابن سيرين والشعبي مثل ذلك .
قال أبو عمر ، رحمه الله : وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف ، منهم : ابن عباس ، ولكنهم اختلف عليهم ، ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ولا بالعراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام ولا المغرب ، إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونَفْي القياس ، وقد ترك من يعمل ذلك{[7002]} ما اجتمعنا عليه ، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ، كما لا يحل ذلك في النكاح . وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله [ تعالى ]{[7003]} { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ [ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ ] {[7004]} } إلى آخر الآية : أن النكاح وملك{[7005]} اليمين في هؤلاء كلهن سواء ، فكذلك يجب أن يكون نظرًا وقياسًا الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب . وكذلك هو عند جمهورهم ، وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها ، والله المحمود{[7006]} .
وقوله تعالى : { حرمت عليكم } الآية ، حكم الله به سبعاً من النسب ، وستاً من بين رضاع وصهر ، وألحقت السنة المأثورة سابعة ، وذلك الجمع بين المرأة وعمتها ، ومضى عليه الإجماع ، وروي عن الأنصار : مثل ذلك ، وجعل السابعة قوله تعالى : { والمحصنات من النساء } [ النساء : 24 ] ، وتحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه ، ويسميه أهل العلم – المبهم_أي لا باب فيه ، ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته ، وكذلك تحريم البنات والأخوات ، فالأم كل من ولدت المرء وإن علت والبنت كل من ولدها وإن سفلت ، والأخت كل من جمعه وإياها صلب أو بطن ، والعمة أخت الأب ، والخالة أخت الأم ، كذلك فيهما العموم والإبهام ، وكذلك عمة الأب وخالته ، وعمة الأم وخالتها ، وكذلك عمة العمة ، وأما خالة العمة فينظر ، فإن كانت العمة أخت أب لأم ، أو لأب وأم فلا تحل خالة العمة ، لأنها أخت الجدة ، وإن كانت العمة إنما هي أخت أب لأب فقط فخالتها أجنبية من بني أخيها ، تحل للرجال ، ويجمع بينها وبين النساء وكذلك عمة الخالة ينظر ، فإن كانت الخالة أخت أم لأب ، فعمتها حرام ، لأنها أخت جد ، وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتها أجنبية من بني أختها وكذلك في بنات الأخ وبنات الأخت العموم والإبهام ، سواء كانت الأخوة شقيقة . أو لأب أو لأم . وقرأ أو حيوة «من الرِّضاعة » بكسر الراء ، والرضاع يحرم ما يحرم النسب ، والمرضعة أم ، وما تقدم من أولادها وتأخر إخوة ، وفحل اللبن أب ، وما تقدم من أولاده وتأخر إخوة ، وقرأ ابن مسعود «اللاي » بكسر الياء ، وقرأ ابن هرمز «وأمهاتكم التي » بالإفراد ، كأنه من جهة الإبهام يقع مع الواحد والجماعة ، واختلف الناس في تأويل قوله تعالى : { وأمهات نسائكم } فقال جمهور أهل العلم : هي تامة العموم فيمن دخل بها أو لم يدخل ، فبالعقد على الابنة حرمت الأم ، وهذا مذهب جملة الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار ، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قيل له في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أيتزوج أمها ؟ قال : نعم ، هي بمنزلة الربيبة .
قال القاضي أبو محمد : يريد أن قوله تعالى : { من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } شرط في هذه ، وفي الربيبة وروي نحوه عن ابن عباس ، وروي عنه كقول الجمهور ، وروي عن زيد بن ثابت ، أنه كان يقول : إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها ، وإن طلقها قبل أن يدخل بها ، فإن شاء فعل ، وقال مجاهد : الدخول مراد في النازلتين ، وقول جمهور الناس مخالف لهذا القول ، وروي في ذلك عن زيد بن ثابت أنه قال : { أمهات نسائكم } مبهمة ، وإنما الشرط في الربائب ، وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أكان ابن عباس يقرأ «وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن » ؟ فقال لا تترأ ، قال حجاج : قلت لابن جريج : ما تترأ ؟ قال كأنه قال : لا لا ، يرد هذا القول من جهة الإعراب أن المجرورين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحداً ، ومعناه : إذا اختلفا في العامل ، وهذه الآية قد اختلف فيها جنس العامل .
الربيبة : بنت امرأة الرجل من غيره ، سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبته ، وربيبة : فعيلة بمعنى مفعولة ، وقوله تعالى : { اللائي في حجوركم } ذكر الأغلب في هذه الأمور ، إذ هي حالة الربيبة في الأكثر ، وهي محرمة وإن كانت في غير الحجر ، لأنها في حكم أنها في الحجر ، إلا ما روي عن علي أنه قال : تحل إذا لم تكن في الحجر وإن دخل بالأم ، إذا كانت بعيدة عنه ، ويقال : حِجَرْ بكسر الحاء وفتحها ، وهو مقدم ثوب الإنسان وما بين يديه منه في حالة اللبس ، ثم استعملت اللفظة في الحفظ والستر ، لأن اللابس إنما يحفظ طفلاً وما أشبهه بذلك الموضع من الثوب ، واختلف العلماء في معنى قوله : { دخلتم بهن } فقال ابن عباس وطاوس وابن دينار : الدخول في هذا الموضع الجماع ، فإن طلق الرجل بعد البناء وقبل الوطء ، فإن ابنتها له حلال وقال جمهور من العلماء منهم مالك بن أنس وعطاء بن أبي رباح وغيرهم : إن التجريد والتقبيل والمضاجعة وجميع أنواع التلذذ يحرم الابنة كما يحرمها الوطء ، والحلائل : جمع حليلة ، وهي الزوجة ، لأنها تحل مع الرجل حيث حل ، فهي فعيلة بمعنى فاعلة ، وذهب الزجاج وقوم : إلى أنها من لفظة الحلال ، فهي حليلة بمعنى محللة ، وقوله : { الذين من أصلابكم } تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب ، وكان عندهم أمراً كثيراً قوى الحكم ، قال عطاء ابن أبي رباح : يتحدث - والله أعلم - أنها نزلت في محمد عليه السلام حين تزوج امرأة زيد بن حارثة ، فقال المشركون : قد تزوج امرأة ابنه ، فنزلت الآية ، وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب بالإجماع المستند إلى قوله صلى الله عليه وسلم ، ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ){[3923]} ، وقوله تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } لفظ يعم الجمع بنكاح وبملك يمين ، وأجمعت الأمة على منع جمعهما بنكاح ، وأما بملك يمين ، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : أحلتهما آية ، وحرمتهما آية ، فأما أنا في خاصة نفسي فلا أرى الجمع بينهم حسناً ، وروي نحو هذا عن ابن عباس ، ذكره ابن المنذر ، وذكر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء ، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك ، وجعل مالكاً فيمن كرهه .
قال القاضي أبو محمد : ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك ، وكذلك الأم وبنتها ، ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء ، وتستقرأ الكراهية من قول مالك : إنه إذا وطىء واحدة ثم وطىء أخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما فلم يلزمه حدا . واختلف العلماء بعد القول بالمنع من الجمع بينهما بالوطء ، إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمرو والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ، ببيع أو عتق أو بأن يزوجها ، قال ابن المنذر : وفيها قول ثان لقتادة ، وهو أنه إن كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها ، ثم يمسك عنها حتى يستبرىء الأولى المحرمة ، ثم يغشى الثانية .
قال القاضي أبو محمد : ومذهب مالك رحمه الله ، إذا كان أختان عند رجل بملك ، فله أن يطأ أيتهما شاء ، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته ، فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله ، من إخراج عن الملك ، أو تزويج ، أو عتق إلى أجل ، أو إخدام طويل ، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى ، ولم يبق ذلك إلى أمانته ، لأنه متهم فيمن قد وطىء ، ولم يكن قبل متهماً إذا كان لم يطأ إلا الواحدة ، وإن كانت عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها ، ففيها في المذهب ثلاثة أقوال ، في النكاح الثالث من المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهيته لهذا النكاح ، إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء ، وذلك مكروه إلا في الحيض ، لأنه أمر غالب كثير ، وفي الباب بعينه قول آخر : إن النكاح لا ينعقد ، وقال أشهب في كتاب الاستبراء : عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة ، وثبت عن النبي صلى الله عليه أنه نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ، وأجمعت الأمة على ذلك وقد رأى بعض العلماء أن هذا الحديث ناسخ لعموم قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] وذلك لأن الحديث من المتواتر ، وكذلك قوله عليه السلام ، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ، قيل أيضاً إنه ناسخ ، وقوله تعالى : { إلا ما قد سلف } استثناء منقطع ، معناه لكن ما قد سلف من ذلك ووقع وأزاله الإسلام فإن الله يغفره ، والإسلام يجبّه .