ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم ، ومن بعده يعقوب ، قال تعالى منكرا عليهم : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ } أي : حضورا { إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } أي : مقدماته وأسبابه ، فقال لبنيه على وجه الاختبار ، ولتقر عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به : { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي } ؟ فأجابوه بما قرت به عينه فقالوا : { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا } فلا نشرك به شيئا ، ولا نعدل به أحدا ، { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فجمعوا بين التوحيد والعمل .
ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب ، لأنهم لم يوجدوا بعد ، فإذا لم يحضروا ، فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية ، لا باليهودية .
ثم أنكر القرآن الكريم على اليهود افتراءهم على يعقوب وزعمهم أنه كان على اليهودية التي أقاموا عليها تاركين دين الإِسلام فقال تعالى : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي } .
روى أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية ، فنزلت هذه الآية الكريمة .
والمعنى - ما كنتم - يا معشر اليهود - حاضرين وقت أن أشرف يعقوب على الموت ، ووقت أن قال لبنيه حينئذ { مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي } فكيف تدعون أنه كان على اليهودية التي أنتم عليها وأنه أوصى بها بنيه ؟ ومراد يعقوب - عليه السلام - من هذا السؤال أخذ الميثاق عليهم بالثبات على ملة أبيهم إبراهيم من بعده ، لكي يسعدوا في دنياهم وأخراهم ، وقد أجابوه بما يدل على رسوخ إيمانهم إذ قالوا : { نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } .
وهذا الجواب يتضمن أنهم متمسكون بملة إبراهيم - عليه السلام - وهي ملة لا تثليث فيها ولا تشبيه بمخلوق ، وإنما هي إفراد الله - تعالى - بالعبودية والاستسلام له بالخضوع والانقياد .
تلك كانت وصية إبراهيم لبنيه ووصية يعقوب لبنيه . . الوصية التي كررها يعقوب في آخر لحظة من لحظات حياته ؛ والتي كانت شغله الشاغل الذي لم يصرفه عنه الموت وسكراته ، فليسمعها بنو إسرائيل :
( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت . إذ قال لبنيه : ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ) . .
إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة ، قوي الإيحاء ، عميق التأثير . . ميت يحتضر . فما هي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار ؟ ما هو الشاغل الذي يعني خاطره وهو في سكرات الموت ؟ ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه ؟ ما هي التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلمها لهم في محضر ، يسجل فيه كل التفصيلات ؟ . .
إنها العقيدة . . هي التركة . وهي الذخر . وهي القضية الكبرى ، وهي الشغل الشاغل ، وهي الأمر الجلل ، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته :
هذا هو الأمر الذي جمعتكم من أجله . وهذه هي القضية التي أردت الاطمئنان عليها . وهذه هي الأمانة والذخر والتراث . .
( قالوا : نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق . إلها واحدا . ونحن له مسلمون )
إنهم يعرفون دينهم ويذكرونه . إنهم يتسلمون التراث ويصونونه . إنهم يطمئنون الوالد المحتضر ويريحونه .
وكذلك ظلت وصية إبراهيم لبنيه مرعية في أبناء يعقوب . وكذلك هم ينصون نصا صريحا على أنهم( مسلمون ) .
والقرآن يسأل بني إسرائيل : ( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ؟ ) . . فهذا هو الذي كان ، يشهد به الله ، ويقرره ، ويقطع به كل حجة لهم في التمويه والتضليل ؛ ويقطع به كل صلة حقيقية بينهم وبين أبيهم إسرائيل !
يقول تعالى محتجًّا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل ، وعلى الكفار من بني إسرائيل - وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم{[2840]} السلام - بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له ، فقال لهم : { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه .
قال النحاس : والعرب تسمي العم أبًا ، نقله القرطبي ، وقد استدل بهذه الآية من جعل الجد أبًا وحجب به الإخوة ، كما هو قول الصديق - حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير ، ثم قال البخاري : ولم يختلف عليه ، وإليه ذهبت عائشة أم المؤمنين ، وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء ، وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من علماء السلف والخلف ؛ وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الإخوة ؛ وحكى مالك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف ، واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي : أبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، ولتقريرها موضع آخر .
وقوله : { إِلَهًا وَاحِدًا } أي : نُوَحِّدُه بالألوهية ، ولا نشرك به شيئا غيره { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : مطيعون خاضعون كما قال تعالى : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وسلم } [ آل عمران : 83 ] والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة ، وإن تنوّعت شرائعهم واختلفت مناهجهم ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] . والآيات في هذا كثيرة والأحاديث ، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم : " نحن مَعْشَرَ الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد " {[2841]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{أمْ كُنْتُمْ شهَدَاءَ} أكنتم، ولكنه استفهم ب«أمْ» إذ كان استفهاما مستأنفا على كلام قد سبقه، كما قيل: {الم تَنْزِيل الكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبّ العَالَمِينَ أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}، وكذلك تفعل العرب في كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه تستفهم فيه ب«أمْ».
والشهداء جمع شهيد كما الشركاء جمع شريك، والخصماء جمع خصيم. وتأويل الكلام: أكنتم يا معشر اليهود والنصارى المكذّبين بمحمد صلى الله عليه وسلم، الجاحدين نبوّته، حضور يعقوب وشهوده إذ حضره الموت، أي أنكم لم تحضروا ذلك. فلا تدّعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل، وتنحلوهم اليهودية والنصرانية، فإني ابتعثت خليلي إبراهيم وولده إسحاق وإسماعيل وذرّيتهم بالحنيفية المسلمة، وبذلك وصوا بنيهم وبه عهدوا إلى أولادهم من بعدهم، فلو حضرتموهم فسمعتم منهم علمتم أنهم على غير ما تنحلوهم من الأديان والملل من بعدهم.
وهذه آيات نزلت تكذيبا من الله تعالى لليهود والنصارى في دعواهم في إبراهيم وولده يعقوب أنهم كانوا على ملتهم، فقال لهم في هذه الآية: {أمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ} فتعلموا ما قال لولده وقال له ولده. ثم أعلمهم ما قال لهم وما قالوا له.
{إذْ قالَ لِبَنِيهِ}: إذ قال يعقوب لبنيه. و«إذ» هذه مكرّرة إبدالاً من «إذْ» الأولى بمعنى: أم كنتم شهداء يعقوب إذ قال يعقوب لبنيه حين حضور موته.
{ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}: أيّ شيء تعبدون من بعدي، أي من بعد وفاتي. {قَالُوا نَعبدُ إلهَكَ}: قال بنوه له: نعبد معبودك الذي تعبده، ومعبود آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا، أي نخلص له العبادة ونوحد له الربوبية فلا نشرك به شيئا ولا نتخذ دونه ربا.
{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}: ونحن له خاضعون بالعبودية والطاعة.
ويحتمل قوله: {وَنَحْن لَه مُسْلِمُونَ} أن تكون بمعنى الحال، كأنهم قالوا: نعبد إلهك مسلمين له بطاعتنا وعبادتنا إياه...
وقيل: إنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق لأن إسماعيل كان أسنّ من إسحاق...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم في الآية دلالة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن الأخبار التي قالوا من غير نظر منه في كتبهم ولا سماع منهم ولا تعلم؛ دل أنه بالله علم، وعنه أخبر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
جرَوا كلهم -صلوات الله عليهم- على منهاج واحد في التوحيد والإسلام، وتوارثوا ذلك خَلَفًا عن سَلَف، فهم أهل بيت الزلفة، ومستحقو القربة، والمُطَهَّرون من قِبَل الله -على الحقيقة...
قوله جلّ ذكره: {إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}. لم يقولوا إلهنا مراعاة لخصوصية قَدْره، حيث سلموا له المزية، ورأوا أنفسهم ملحقين بمقامه، ثم أخبروا عن أنفسهم أنهم طُيَّع له بقولهم {ونحن له مسلمون}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الوجه أن تكون أم متصلة على أن يقدر قبلها محذوف، كأنه قيل: أتدّعون على الأنبياء اليهودية؟ {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت} يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، وقد علمتم ذلك، فما لكم تدّعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟...
{مَا تَعْبُدُونَ} أي شيء تعبدون؟ و {مَا} عامّ في كل شيء، فإذا علم فرق بما ومن، وكفاك دليلاً قول العلماء (من) لما يعقل. ولو قيل: من تعبدون، لم يعم إلا أولي العلم وحدهم. ويجوز أن يقال: {مَا تَعْبُدُونَ} سؤال عن صفة المعبود. كما تقول: ما زيد؟ تريد: أفقيه أم طبيب أم غير ذلك من الصفات؟...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ومعنى الآية حضر يعقوب مقدمات الموت، وإلا فلو حضر الموت لما أمكن أن يقول شيئاً...
وقدم يعقوب على جهة تقديم الأهم...
و {إذ قال} بدل من {إذ} الأولى، وعبر عن المعبود بما تجربة لهم، ولم يقل من لئلا يطرق لهم الاهتداء، وإنما أراد أن يختبرهم، وأيضاً فالمعبودات المتعارفة من دون الله تعالى جمادات كالأوثان والنار والشمس والحجارة فاستفهمهم عما يعبدون من هذه...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وظاهر الكلام أنه استفهم عن الذي يعبدون، أي العبادة المشروعة؟ وقال القفال: دعاهم إلى أن لا يتحرّوا في أعمالهم غير وجه الله تعالى، ولم يخف عليهم الاشتغال بعبادة الأصنام، وإنما خاف عليهم أن تشغلهم دنياهم. وفي إجابتهم له بإظهار الفعل تأكيد لما أجابوه به، إذ كان يجوز أن يقال: قالوا إلهك، فتصريحهم بالفعل تأكيد في الجواب أنه مطابق للسؤال، أعني في العامل الملفوظ به في السؤال. وإضافة الإله إلى يعقوب فيه دليل على اتحاد معبود السائل والمجيب لفظاً.
وفي قوله: وإله آبائك دليل على اتحاد المعبود أيضاً من حيث اللفظ، وإنما كرر لفظ وإله، لأنه لا يصح العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة جاره.
وبدأ أولاً بإضافة الإله إلى يعقوب، لأنه هو السائل، وقدم إبراهيم، لأنه الأصل، وقدم إسماعيل على إسحاق، لأنه أسنّ أو أفضل، لكون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذريته، وهو في عمود نسبه. واقتصر على هؤلاء، لأنهم كانوا خير الناس في أزمانهم، ولم يعم، لأن الناس كان لهم معبودون كثيرون دون الله.
وفائدة هذه الحال، أو البدل، هو التنصيص على أن معبودهم واحد فرد، إذ قد توهم إضافة الشيء إلى كثيرين تعداد ذلك المضاف، فنهض بهذه الحال أو البدل على نفي ذلك الإيهام.
{ونحن له مسلمون}: أي منقادون لما ذكر الجواب بالفعل الذي هو نعبد، لأن العبادة متجددة دائماً. ذكر هذه الجملة الإسمية المخبر عن المبتدأ فيها باسم الفاعل الدال على الثبوت، لأن الانقياد لا ينفكون عنه دائماً، وعنه تكون العبادة، فيكون قوله: {ونحن له مسلمون} أحد جملتي الجواب. فأجابوه بشيئين: أحدهما: الذي سأل عنه، والثاني: مؤكد لما أجابوا به، فيكون من باب الجواب المربي على السؤال.
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت...} ولم يقل: أم كنتم حضورا، لأن لفظ الشهادة تفيد الضبط والإحاطة بعلم الشيء.
فإن قلت: مفهوم الآية أنهم لو حضروا لذلك لصح لهم الاحتجاج به مع أنه حجة عليهم لأن يعقوب إنما أوصى بنيه بعبادة الله سبحانه وتعالى وتوحيده؟
فالجواب: أن المعنى: أم كنتم شهداء إذ قال ذلك، أم تقولون هذه المقالة وتدعون أنه أوصاهم (بغير ذلك).
قال ابن عرفة: لأن هذا الاستدلال على سبيل التقسيم عليهم والتنزل معهم على عادة المستدل، فأبطل قولهم بالدليل العقلي ثم احتج عليهم بالدليل السّمعي النّقلي فقيل لهم: أحضرتم لوصية يعقوب لبنيه، وتزعمون أنها كانت موافقة (لدعواكم)، أي ما لكم دليل عقلي ولا نقلي...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قرر سبحانه لبني إسرائيل أن أباهم يعقوب ممن أوصى بنيه بالإسلام قال مبكتاً لهم: {أم} فعلم قطعاً من ذكر حرف العطف أن المعطوف عليه محذوف كما قالوا في أحد التقادير في هذه الآية وفي {أمّن هو قانت آناء الليل} [الزمر: 9] في سورة الزمر فكان التقدير هنا لتوبيخهم وتقريعهم بأن أيّ شق اختاروه لزمهم به ما يكرهون: أكنتم غائبين عن هذه الوصية من إبراهيم ويعقوب عليهما السلام أم حاضرين وكنتم غائبين في أمر يعقوب عليه السلام خاصة.
أم {كنتم شهداء} الآية، أي أكنتم غائبين عن علم ذلك أم لا حين حكمتم بتخصيص أنفسكم بالجنة ليمنعكم ذلك عن مثل هذا الحكم؛ وعلى كل تقدير لا يضركم جهله، لأن عندكم في كتاب الله المنزل على نبيكم من الأمر بمثله عن الله ما يغنيكم عنه، وهو مانع لكم أيضاً من هذا الحكم على وجه قطعي؛ وفي ذلك إشارة إلى عدم وجوب التقيد بالآباء، وإرشاد إلى توسيع الفكر إلى المنعم الأول وهو رب الآباء للتقيد بأوامره والوقوف عند زواجره سواء [أكان] ذلك موافقاً لشرع الآباء [أم] مخالفاً.
ولما كان هذا لازماً لمضمون قوله تعالى: تلك أمة قد خلت} [البقرة: 134] أتبعه بها، أي فما لكم وللسؤال عنها في ادعائكم أنهم كانوا هوداً أو نصارى؟ كما سيأتي النص بالتوبيخ على ذلك وإتباعه مثل هذه الآية، لأنه إما أن يكون السؤال عن النسب أو عن العمل ولا ينفعكم شيء منهما، لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى، فليس السؤال عنهم حينئذ لمن عنده علم ما يأتي وما يذر إلا فضولاً، وفيه تنبيه على أنهم قطعوا أنفسهم عنهم، لأنهم لما لم يتبعوهم في الإسلام فصلوا ما بينهم وبينهم من الوصلة بالنسب وحصلت براءتهم منهم، لأن نسب الدين أعظم من نسب الماء والطين.
أو يقال وهو أحسن: لما ادعى أهل الكتاب أن الجنة خاصة بهم ورد ذلك سبحانه عليهم بأنها لمن أسلم محسناً وذكرهم بأحوال الخليل عليه السلام حتى ختم بأنه من رؤوس المتصفين بهذا الوصف وأنه أوصى بنيه به فكان كأنه قيل إنكاراً عليهم في دعواهم الاختصاص بالجنة وتقريراً لهم: أم كنتم شهداء لذلك منه حتى تكونوا ممن ائتمر بأمره في وصيته فتكونوا أهلاً للجنة أم كنتم شهداء يا بني يعقوب {إذ حضر يعقوب} صاحب نسبكم الأشهر {الموت} وهو على ما أوصى به إبراهيم بنيه {إذ قال} أي يعقوب {لبنيه}...
ولما كان مراده صلى الله عليه وسلم التعميم في كل شيء ليقع التخصيص موقعه فلا يحتاج إلى سؤال آخر عبر بما العامة للعاقل وغيره فقال: {ما تعبدون} ولو عبر بمن لم يفد جوابهم هذا التصريح ينفي عبادة شيء مما لا يعقل، وقيده بقوله: {من بعدي} لأن الخليفة كثيراً ما يخلف الغائب بسوء وإن كان مصلحاً في حضوره، وأدخل الجار لأن أعمارهم لا تستغرق الزمان.
{قالوا نعبد إلهك} الذي خلقك {وإله آبائك} الذي خلقهم وبقي بعدهم ويبقى بعد كل شيء ولا بعد له، كما كان قبل كل شيء ولا قبل له؛
ثم بينوا الآباء بقولهم: {إبراهيم} أي جدك {وإسماعيل} لأنه عم والعم صنو الأب فهو أب مجازاً {وإسحاق}...
ولما تقدم ذكر الإله في إضافتين بينوا أن المراد به فيهما واحد تحقيقاً للبراءة من الشرك وتسجيلاً على أهل الكتاب بتحتم بطلان قولهم فقالوا: {إلهاً واحداً} ثم أخبروا بعد توحيدهم الذي تقدم أنه معنى الإحسان في قوله: {وهو محسن} [البقرة: 112] بإخلاصهم في عبادتهم بقولهم {ونحن له} أي وحده لا للأب ولا غيره
{مسلمون} أي لا اختيار لنا معه بل نحن له كالجمل الأنف حيثما قادنا انقدنا، أي أم كنتم شهداء له في هذه الوصية لنشهد لكم بما شهدنا لبنيه الموجودين إذ ذاك من الإسلام فتكونوا من أهل الجنة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام في الآية ما معناه: خلاصة هذه الوصية عقيدة الوحدانية في العبادة وإسلام القلب لله تعالى والإخلاص له. وتكرار لفظ (الإسلام) في هذه الآيات يراد به تقرير حقيقة الدين. ذلك [بأن] العرب كانت تدعي أن لها دينا خاصا بها وأنه الحق، وإن اختلفت فيه القبائل والشعوب، ومنهم من كان ينتمي إلى إبراهيم على وثنيتهم، وكذلك اليهود والنصارى كل يدعي دينا خاصا به وأنه الحق، فبينت هذه الآيات أن هذه الدعاوى من التعصب للتقاليد وأن دين الله تعالى واحد في حقيقته، وروحه التوحيد والاستسلام لله تعالى والخضوع والإذعان لهداية الأنبياء. وبهذا كان يوصي النبيون أبناءهم وأممهم. فتبين أن دين الله تعالى واحد في كل أمة على لسان كل نبي... ولذلك قال في آية أخرى {43: 13 شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} فالتفرق في الدين ما جاء إلا من الجهل والتعصب للأهواء، والمحافظة على الحظوظ والمنافع المتبادلة بين المرؤوسين والرؤساء، فالقرآن يطالب الجميع بالاتفاق في الدين والاجتماع على أصليه: العقلي وهو التوحيد والبراءة من الشرك بأنواعه، والقلبي وهو الإسلام والإخلاص لله في جميع الأعمال... وعلم من هذا أن لفظ الإسلام والمسلمين في كلام إبراهيم وإسماعيل ويعقوب يراد به معناه الذي تقدم، فمن لم يكن متحققا بهذا المعنى فليس بمسلم أي ليس على دين الله القيم الذي كان عليه جميع أنبياء الله. وأما لفظ الإسلام في عرفنا اليوم فهو لقب يطلق على طوائف من الناس لهم مميزات دينية وعادية تميزهم عن سائر طوائف الناس الذين يلقبون بألقاب دينية أخرى.
ولا يشترط في إطلاق هذا اللقب العرفي عند أهله أن يكون المسلم خاضعا مسلما لدين الله مخلصا له أعماله، بل يطلقونه أيضا على من ابتدع فيه ما ليس منه، أو ما ينافيه، ومن فسق عنه واتخذ إلهه هواه. ومعنى الإسلام الذي دعا إليه القرآن تقوم به الحجة على المشركين، ويتعرف به اليهود والنصارى لأنه روح كل دين، وهو الذي دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، والدعوة إلى اللقب لا معنى لها. قال الأستاذ الإمام بعد تقريره هذا المعنى: وبه يظهر خطأ من خصص الرغبة عن ملة إبراهيم بالميل إلى اليهودية أو النصرانية...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة، قوي الإيحاء، عميق التأثير.. ميت يحتضر. فما هي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار؟ ما هو الشاغل الذي يعني خاطره وهو في سكرات الموت؟ ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه؟ ما هي التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلمها لهم في محضر، يسجل فيه كل التفصيلات؟...
إنها العقيدة.. هي التركة. وهي الذخر. وهي القضية الكبرى، وهي الشغل الشاغل، وهي الأمر الجلل، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته: (ما تعبدون من بعدي؟).. هذا هو الأمر الذي جمعتكم من أجله. وهذه هي القضية التي أردت الاطمئنان عليها. وهذه هي الأمانة والذخر والتراث..
(قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق. إلها واحدا. ونحن له مسلمون) إنهم يعرفون دينهم ويذكرونه. إنهم يتسلمون التراث ويصونونه. إنهم يطمئنون الوالد المحتضر ويريحونه. وكذلك ظلت وصية إبراهيم لبنيه مرعية في أبناء يعقوب. وكذلك هم ينصون نصا صريحا على أنهم (مسلمون).
والقرآن يسأل بني إسرائيل: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت؟).. فهذا هو الذي كان، يشهد به الله، ويقرره، ويقطع به كل حجة لهم في التمويه والتضليل؛ ويقطع به كل صلة حقيقية بينهم وبين أبيهم إسرائيل!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا تنويه بالحنيفية التي هي أساس الإسلام، وتمهيد لإبطال قولهم: {كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا} [البقرة: 135]... فلذلك جيء هنا بتفصيل وصية يعقوب إبطالاً لدعاوى اليهود ونقضاً لمعتقدهم الذي لا دليل عليه كما أنبأ به الإنكار في قوله: {أم كنتم شهداء}...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قال يعقوب أبو بني إسرائيل الذين غيروا وبدلوا، قال لبنيه: {ما تعبدون من بعدي} أي من الذي تعبدونه من بعدي؟، وعبر بما هنا دون من لأن ما يستفهم بها عن الماهية فيقال ما الإنسان، فالسؤال متجه إلى طلب حقيقة ما يعبدون من بعده أيستمرون على عبادة الله تعالى؟ قالوا مجيبين في غير تردد ولا تلكؤ: {نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا}.
ابتدأوا إجابتهم بما يدل على الأسوة والقدوة الحسنة وهي تدل على أنهم لا يغيرون ولا يبدلون بل هم مقتدون، ولذلك قالوا: {إلهك وإله آبائك} ولم يقولوا مثلا: نعبد الله وحده...
هذا وإن عد إسماعيل عليه السلام في آباء يعقوب يدل على أن إسماعيل وإسحاق، لا يفرق بينهما في نسب ولا دين كما يفعل الحاقدون من بني إسرائيل...
ونرى في ذكر الله سبحانه وتعالى مضافا إلى ضمير المخاطب يعقوب، ثم ذكره من بعد ذلك موصوفا بالوحدانية تصريح بالوحدانية في العبادة والامتناع عن إشراك غيره معه، وإشارة ثانية إلى الإتباع والقدوة والأخذ بالوصية التي أوصى بها إبراهيم ويعقوب، وفيها إثبات السلسلة الموحدة في أولاده في يعقوب عليه السلام، وأن هذا التوحيد هو الدين الذي اصطفاه الله تعالى لأنه دين الله تعالى، ولذا قال سبحانه: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون 25} [الأنبياء] ولقد ختم الأبناء المخلصون إجابة أبيهم، البر الرحيم، الذي ضرب به المثل في الصبر والشفقة بقولهم: {ونحن له مسلمون}، أي مخلصون قد سلمنا وجوهنا وقلوبنا له وحده، ولذا قدم قوله: {له} على {مسلمون} لما يدل عليه التقديم من معنى اختصاصه سبحانه بإسلام أنفسهم له تبارك وتعالى، وقد أكدوا إسلام أنفسهم له بالجملة الاسمية.