ثم فصل أوصاف التقوى . فقال { الصابرين } أنفسهم على ما يحبه الله من طاعته ، وعن معصيته ، وعلى أقداره المؤلمة ، { والصادقين } في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم { والمنفقين } مما رزقهم الله بأنواع النفقات على المحاويج من الأقارب وغيرهم { والمستغفرين بالأسحار } لما بين صفاتهم الحميدة ذكر احتقارهم لأنفسهم وأنهم لا يرون لأنفسهم ، حالا ولا مقاما ، بل يرون أنفسهم مذنبين مقصرين فيستغفرون ربهم ، ويتوقعون أوقات الإجابة وهي السحر ، قال الحسن : مدوا الصلاة إلى السحر ، ثم جلسوا يستغفرون ربهم . فتضمنت هذه الآيات حالة الناس في الدنيا وأنها متاع ينقضي ، ثم وصف الجنة وما فيها من النعيم وفاضل بينهما ، وفضل الآخرة على الدنيا تنبيها على أنه يجب إيثارها والعمل لها ، ووصف أهل الجنة وهم المتقون ، ثم فصل خصال التقوى ، فبهذه الخصال يزن العبد نفسه ، هل هو من أهل الجنة أم لا ؟
ثم وصفهم - سبحانه - بخمس صفات كريمة من شأنها أن تحمل العقلاء على التأسي بهم فقال : { الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار } .
وفي كل صفة من صفاتهم دليل على قوة إيمانهم ، وإذعانهم للحق حق الإذعان . فهم صابرون ، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس من أكبر البراهين على سلامة اليقين ، وقد حث القرآن أتباعه على التحلي بهذه الصفة في أكثر من سبعين موضعا . وهم صادقون ، والصدق من أكمل الصفات الإنسانية وأشرفها ، وقد أمر الله عباده أن يتحلوا به في كثير من آيات كتابه ، ومن ذلك قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } وهم قانتون ، والقانت هو المداوم على طاعة الله - تعالى - غير متململ منها ولا متبرم بها ، ولا خارج على حدودها . فالقنوت يصور الإذعان المطلق لرب العالمين .
وهم منفقون أموالهم في طاعة الله - تعالى - ، وبالطريقة التى شرعها وأمر بها . وهم مستغفرون بالأسحار . أى يسألون الله - تعالى - أن يغفر لهم خطاياهم فى كل وقت ، ولا سيما في الأسحار .
والأسحار جمع سحر وهو الوقت الذى يكون قبل الفجر . روى مسلم في صحيحه عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ينزل ربنا - عز وجل - إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول : أنا الملك من ذا الذى يدعوني فأستجيب له ، من ذا الذى يسألني فأعطيه ، من ذا الذى يستغفرني فأغفر له ، فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر " .
وخص وقت الأسحار بالذكر لأن النفس تكون فيه أصفى ، والقلب فيه أجمع ، ولأنه وقت يستلذ فيه الكثيرون النوم فإذا أعرض المؤمن عن تلك اللذة وأقبل على ذكر الله كانت الطاعة أكمل وأقرب إلى القبول .
وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد كشفت عن المشتهيات التي يميل إليها الناس في دنياهم بمقتضى فطرتهم ، وأرشدتهم إلى ما هو أسمى وأعلى وأبقى من ذلك وبشرتهم برضوان الله وجناته ، متى استقاموا على طريقه ، واستجابوا لتعاليمه ، { والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
( الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ )
وفي كل صفة من صفاتهم تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإنسانية وفي حياة الجماعة المسلمة :
في الصبر ترفع على الألم واستعلاء على الشكوى ، وثبات على تكاليف الدعوة ، وأداء لتكاليف الحق ، وتسليم لله واستسلام لما يريد بهم من الأمر ، وقبول لحكمه ورضاء . .
وفي الصدق اعتزاز بالحق الذي هو قوام الوجود ، وترفع عن الضعف ؛ فما الكذب إلا ضعف عن كلمة الحق ، اتقاء لضرر أو اجتلابا لمنفعة .
وفي القنوت لله أداء لحق الألوهية وواجب العبودية ؛ وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت لله الواحد الذي لا قنوت لسواه .
وفي الإنفاق تحرر من استذلال المال ؛ وانفلات من ربقة الشح ؛ وإعلاء لحقيقة الأخوة الإنسانية على شهوة اللذة الشخصية ؛ وتكافل بين الناس يليق بعالم يسكنه الناس !
والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالا رفافة ندية عميقة . . ولفظة " الأسحار " بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر . الفترة التي يصفو فيها الجو ويرق ويسكن ؛ وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيسة ! فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار ألقت تلك الظلال المنسابة في عالم النفس وفي ضمير الوجود سواء . وتلاقت روح الإنسان وروح الكون في الاتجاه لبارىء الكون وبارىء الإنسان .
هؤلاء الصابرون ، الصادقون ، القانتون ، المنفقون ، المستغفرون بالأسحار . . لهم ( رضوان من الله ) . . وهم أهل لهذا الرضوان : ظله الندي ومعناه الحاني . وهو خير من كل شهوة وخير من كل متاع . .
وهكذا يبدأ القرآن بالنفس البشرية من موضعها على الأرض . . وشيئا فشيئا يرف بها في آفاق وأضواء ، حتى ينتهي بها إلى الملإ الأعلى في يسر وهينة ، وفي رفق ورحمة . وفي اعتبار لكامل فطرتها وكامل نوازعها . وفي مراعاة لضعفها وعجزها ، وفي استجاشة لطاقاتها وأشواقها ، ودون ما كبت ولا إكراه . ودون ما وقف لجريان الحياة . . فطرة الله . ومنهج الله لهذه الفطرة . . ( والله بصير بالعباد ) . .
ثم قال : { الصَّابِرِين } أي : في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات { وَالصَّادِقِينَ } فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة
{ وَالقَانِتِينَ } والقنوت : الطاعة والخضوع{[4890]} { والْمُنفِقِينَ } أي : من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات ، وصلة الأرحام والقرابات ، وسد الخَلات ، ومواساة ذوي الحاجات { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار .
وقد قيل : إن يعقوب ، عليه السلام ، لما قال لبنيه : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } [ يوسف : 98 ] أنه أخرهم إلى وقت السحر . وثبت في الصحيحين وغيرهما من المساند{[4891]} والسنن ، من غير وجه ، عن جماعة من الصحابة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ينزلُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى سمَِاءِ الدُّنيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِر{[4892]} فيقولُ : هَلْ مِنْ سَائل فأعْطِيَه ؟ هَلْ مِنْ دَاع فَأسْتجيبَ له ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر فأغْفِرَ لَهُ ؟ " الحديث{[4893]} وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدارقطني في ذلك جزءًا على حدة{[4894]} فرواه من طرق متعددة .
وفي الصحيحين ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : مِنْ كُلِّ اللَّيلِ قَدْ أوْترَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم ، مِنْ أولِهِ وأوْسَطِهِ وآخِرِهِ ، فَانْتَهَى وِتره إلَى السّحَرِ{[4895]} .
وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ، ثم يقول : يا نافع ، هل جاء السَّحَر ؟ فإذا قال : نعم ، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح . رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن حُرَيْث بن أبي مطر ، عن إبراهيم بن حاطب ، عن أبيه قال : سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : ربّ أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر ، فاغفر لي . فنظرت فإذا ابن مسعود ، رضي الله عنه{[4896]} .
وروى ابن مَرْدُويه عن أنس بن مالك قال : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أنْ نستغفر في آخر السحر سبعين مرة .
{ الصّابِرِينَ وَالصّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ }
يعني بقوله : { الصّابِرِينَ } الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس . ويعني بالصادقين : الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الإقرار به وبرسوله ، وما جاء به من عنده بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه . ويعني بالقانتين : المطيعين له . وقد أتينا على الإبانة عن كل هذه الحروف ومعانيها بالشواهد على صحة ما قلنا فيها ، وبالإخبار عمن قال فيها قولاً فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع ، وقد كان قتادة يقول في ذلك بما :
حدثنا به بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { الصّابِرِينَ وَالصّادِقِينَ وَالقانِتِينَ وَالمُنفِقِينَ } الصادقين : فقوم صدقت أفواههم ، واستقامت قلوبهم وألسنتهم ، وصدقوا في السر والعلانية . والصابرين : قوم صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن محارمه . والقانتون : هم المطيعون لله .
وأما المنفقون : فهم المؤتون زكوات أموالهم ، وواضعوها على ما أمرهم الله بإتيانها ، والمنفقون أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم جلّ ثناؤه بإنفاقها فيها . وأما الصابرين والصادقين وسائر هذه الحروف فمخفوض ردّا على قوله : { الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا إنّنَا آمَنّا } والخفض في هذه الحروف يدلّ على أن قوله : { الّذِينَ يَقُولُونَ } خفض ردّا على قوله : { لِلّذِينَ اتّقَوْا عِندَ رَبّهِمْ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { والمُسْتَغْفِرِينَ بالأسْحارِ } .
اختلف أهل التأويل في القوم الذين هذه الصفة صفتهم ، فقال بعضهم : هم المصلون بالأسحار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَالمُسْتَغْفِرِينَ بالأسْحارِ } هم أهل الصلاة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة : { والمُسْتَغْفِرِينَ بالأسْحارِ } قال : يصلون بالأسحار .
وقال آخرون : هم المستغفرون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن حريث بن أبي مطر ، عن إبراهيم بن حاطب ، عن أبيه ، قال : سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : رب أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر فاغفر لي ! فنظرت فإذا ابن مسعود .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن قول الله عز وجل : { والمُسْتَغْفِرِينَ بالأسحارِ } قال : حدثني سليمان بن موسى ، قال : حدثنا نافع : أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاة ، ثم يقول : يا نافع أسحرنا ؟ فيقول : لا . فيعاود الصلاة ، فإذا قلت : نعم ، قعد يستغفر ويدعو حتى يصبح .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن بعض البصريين ، عن أنس بن مالك قال : أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا زيد بن الحباب ، قال : حدثنا أبو يعقوب الضبي ، قال : سمعت جعفر بن محمد يقول : من صلى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة كتب من المستغفرين بالأسحار .
وقال آخرون : هم الذين يشهدون الصبح في جماعة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسماعيل بن مسلمة أخو القعنبي قال : حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، قال : قلت لزيد بن أسلم من المستغفرين بالأسحار ؟ قال : هم الذين يشهدون الصبح .
وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله : { وَالمُسْتَغفِرِينَ بالأسْحارِ } قول من قال : هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها بالأسحار ، وهي جمع سَحَر . وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء ، وقد يحتمل أن يكون معناه : تعرضهم لمغفرته بالعمل والصلاة ، غير أن أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء .
قوله : { الصابرين والصادقين } الآية صفات للذين اتّقوا ، أو صفات للذين يقولون ، والظاهر الأوّل . وذكر هنا أصول فضائل صفات المتديّنين : وهي الصبر الذي هو ملاك فعل الطاعات وترك المعاصي . والصدق الذي هو ملاك الاستقامة وبثّ الثقة بين أفراد الأمة .
والقنوت ، وهو ملازمة العبادات في أوقاتها وإتقانها وهو عبادة نفسية جسدية . والإنفاق وهو أصل إقامة أوَد الأمة بكفاية حاجة المحتاجين ، وهو قربة مالية والمال شقيق النفس . وزاد الاستغفار بالأسحار وهو الدعاء والصلاة المشتملة عليه في أواخر الليل ، والسحر سُدس الليل الأخيرْ ؛ لأنّ العبادة فيه أشدّ إخلاصاً ، لما في ذلك الوقت من هدوء النفوس ، ولدلالته على اهتمام صاحبه بأمر آخرته ، فاختار له هؤلاء الصادقُون آخرَ الليل لأنّه وقت صفاء السرائر ، والتجرّد عن الشواغل .
وعطف في قوله : { الصابرين } ، وما بعده : سواء كان قوله : { الصابرين } صفة ثانية ، بعد قوله : { الذين يقولون } ، أممِ كان ابتداء الصفات بعد البيان طريقة ثانية من طريقتي تعداد الصفات في الذكر في كلامهم ، فيكون ، بالعطف وبدونه ، مثل تعدّد الأخبار والأحوال ؛ إذ ليست حروف العطف بمقصورة على تشريك الذوات . وفي « الكشاف » ؛ أنّ في عطف الصفات نكْتة زائدة على ذكرها بدون العطف وهي الإشارة إلى كمال الموصوف في كلّ صفة منها ، وأحال تفصيله على ما تقدم له في قوله تعالى : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } [ البقرة : 4 ] مع أنّه لم يبيّن هنالك شيئاً من هذا ، وسكت الكاتبون عن بيان ذلك هنا وهناك ، وكلامه يقتضي أنّ الأصل عنده في تعدّد الصفات والأخبار ترك العطف فلذلك يكون عطفها مؤذناً بمعنى خصوصي ، يقصده البليغ ، ولعل وجهه أنّ شأن حرف العطف أن يُستغنَى به عن تكرير العامل فيناسب المعمولات ، وليس كذلك الصفات ، فإذا عُطفت فقد نُزلت كل صفة منزلة ذات مستقلة ، وما ذلك إلاّ لقوة الموصوف في تلك الصفة ، حتى كأنّ الواحد صار عدداً ، كقولهم واحدٌ كألْف ، ولا أحسب لهذا الكلام تسليماً . وقد تقدم عطف الصفات عند قوله تعالى : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } في سورة البقرة .