تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ} (24)

فلم ينجع فيهم هذا الكلام ، ولا نفع فيهم الملام ، فقالوا قول الأذلين : { يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }

فما أشنع هذا الكلام منهم ، ومواجهتهم لنبيهم في هذا المقام الحرج الضيق ، الذي قد دعت الحاجة والضرورة إلى نصرة نبيهم ، وإعزاز أنفسهم .

وبهذا وأمثاله يظهر التفاوت بين سائر الأمم ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم -حين شاورهم في القتال يوم " بدر " مع أنه لم يحتم عليهم : يا رسول الله ، لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، ولو بلغت بنا برك الغماد ما تخلف عنك أحد . ولا نقول كما قال قوم موسى لموسى : { اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، من بين يديك ومن خلفك ، وعن يمينك وعن يسارك .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ} (24)

ولكن هذه النصيحة الحكيمة من هذين الرجلين المؤمنين ، لم تصادف من بني إسرائيل قلوبا واعية ، ولا آذانا صاغية بل قابلوها بالتمرد والعناد وكرروا لنبيهم موسى عليه السلام - نفيهم القاطع للإِقدام على دخول الأرض المقدسة ما دام الجبارون فيها فقالوا - كما حكى القرآن عنهم : { ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا } .

أي : قالوا غير عابئين بالنصيحة . بل معلنين العصيان والمخالفة : يا موسى إنا لن ندخل هذه الأرض التي أمرتنا بدخولها في أي وقت من الأوقات ، ما دام أولئك الجبارون يقيمون فيها ، لأننا لا قدرة لنا على مواجهتهم .

وقد أكدوا امتناعهم عن دخول هذه الأرض في هذه المرة بثلاث مؤكدات ، هي : إن ، ولن ، وكلمة أبدا .

أي : لن ندخلها بأي حال من الأحوال ما دام الجبارون على قيد الحياة ويسكنون فيها .

ثم أضافوا إلى هذا القول الذي يدل على جبنهم وخورهم ، سلاطة في اللسان ، وسوء أدب في التعبير ، وتطاولا على نبيهم فقالوا : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } .

أي : إذا كان دخول هذه الأرض يهمك أمره ، فاذهب أنت وربك لقتال سكانها الجبابرة وأخرجاهم منها لأنه - سبحانه - ليس ربا لهم - في زعمهم - إن كانت ربوبيته تكلفهم قتال سكان تلك الأرض .

وقولهم : { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } تأكيد منهم لعدم دخولهم لتلك الأرض المقدسة .

أي : إنا ها هنا قاعدون في مكاننا لن نبرجه ، ولن نتقدم خطوة إلى الأمام لأن كل مجد وخير يأتينا عن طريق قتال الجبارين فنحن في غنى عنه ، ولا رغبة لنا فيه .

وإن هذا الوصف الذي وصفوا به أنفسهم ، ليدل على الخسة وسقوط الهمة ، لأن القعود في وقت وجوب النشاط للعمل الصالح يؤدي بصاحبه إلى المذمة ، والمذلة ، قال - تعالى - ذمٍّا لأمثالهم : { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين } قال الآلوسي ما ملخصه : وقوله - تعالى - حكاية عنهم : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا } قالوا ذلك استهانة واستهزاء به - سبحانه - وبرسوله موسى وعدم مبالاة . وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبئ عنه غاية جهلهم ، وقسوة قلوبهم والمقابلة : { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } .

ولم يذكروا أخه هارون ولا الرجلين اللذين قالا ، كأنهم لم يجزموا بذهابهم ، أو يعبأوا بقتالهم وأرادوا بالعقود عدم التقدم لا عدم التأخر ثم قصت علينا السورة الكريمة أن موسى - عليه السلام -

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ} (24)

( قالوا : يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها . فاذهب أنت وربك فقاتلا . إنا هاهنا قاعدون ) . .

وهكذا يحرج الجبناء فيتوقحون ؛ ويفزعون من الخطر أمامهم فيرفسون بأرجلهم كالحمر ولا يقدمون ! والجبن والتوقح ليسا متناقضين ولا متباعدين ؛ بل إنهما لصنوان في كثير من الأحيان . يدفع الجبان إلى الواجب فيجبن . فيحرج بأنه ناكل عن الواجب ، فيسب هذا الواجب ؛ ويتوقح على دعوته التي تكلفه ما لا يريد !

اذهب أنت وربك فقاتلا . إنا هاهنا قاعدون . .

هكذا في وقاحة العاجز ، الذي لا تكلفه وقاحة اللسان إلا مد اللسان ! أما النهوض بالواجب فيكلفه وخز السنان !

( فاذهب أنت وربك ) ! . .

فليس بربهم إذا كانت ربوبيته ستكلفهم القتال !

( إننا هاهنا قاعدون . . )

لا نريد ملكا ، ولا نريد عزا ، ولا نريد أرض الميعاد . . ودونها لقاء الجبارين !

هذه هي نهاية المطاف بموسى عليه السلام . نهاية الجهد الجهيد . والسفر الطويل . واحتمال الرذالات والانحرافات والالتواءات من بني إسرائيل !

نعم ها هي ذي نهاية المطاف . . نكوصا عن الأرض المقدسة ، وهو معهم على أبوابها . ونكولا عن ميثاق الله وهو مرتبط معهم بالميثاق . . فماذا يصنع ؟ وبمن يستجير ؟

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ} (24)

{ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون } وهذا نكول منهم عن الجهاد ، ومخالفة لرسولهم{[9538]} وتخلف عن مقاتلة{[9539]} الأعداء .

ويقال : إنهم لما نكلوا على الجهاد وعزموا على الانصراف والرجوع إلى بلادهم ، سجد موسى وهارون ، عليهما السلام ، قُدام ملأ من بني إسرائيل ، إعظاما لما هموا به ، وشَق " يوشع بن نون " و " كالب بن يوفنا " ثيابهما ولاما قومهما على ذلك ، فيقال : إنهم رجموهما . وجرى أمر عظيم وخطر جليل .

وما أحسن ما أجاب به الصحابة ، رضي الله عنهم{[9540]} يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال النفير ، الذين جاءوا لمنع العِير الذي كان مع أبي سفيان ، فلما فات اقتناص العير ، واقترب منهم النفير ، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف ، في العُدة{[9541]} والبَيْض واليَلب ، فتكلم أبو بكر ، رضي الله عنه ، فأحسن ، ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أشيروا عليَّ أيها المسلمون " . وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار ؛ لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ . فقال سعد بن معاذ [ رضي الله عنه ]{[9542]} كأنك تُعرض بنا يا رسول الله ، فوالذي{[9543]} بعثك بالحق لو اسْتَعرضْتَ بنا هذا البحر فخُضْتَه لخُضناه معك ، وما تخلَّف منا رجل واحد ، وما نَكْرَه أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصُبُر في الحرب ، صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تَقَرُّ{[9544]} به عينك ، فَسِرْ بنا على بركة الله فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونَشَّطه{[9545]} ذلك . {[9546]}

وقال أبو بكر بن مَرْدُويَه : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو حاتم الرازي ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا حميد عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين ، فأشار إليه عمر ، ثم استشارهم فقالت الأنصار : يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالوا : إذًا لا نقول له كما قالت{[9547]} بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } والذي بعثك بالحق لو ضَرَبْت أكبادها إلى بَرْك الغمَاد لاتبعناك .

ورواه الإمام أحمد ، عن عبيدة{[9548]} بن حميد ، الطويل ، عن أنس ، به . ورواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن خالد بن الحارث ، عن حميد به ، ورواه ابن حبان عن أبي يعلى ، عن عبد الأعلى بن حماد ، عن مَعْمَر{[9549]} بن سليمان ، عن حميد ، به . {[9550]}

وقال ابن مَرْدُويه : أخبرنا عبد الله بن جعفر ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن شعيب ، عن الحسن{[9551]} بن أيوب ، عن عبد الله بن ناسخ ، عن عتبة بن عبد السلمي قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " ألا تقاتلون ؟ " قالوا : نعم ، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما{[9552]} مقاتلون . {[9553]}

وكان ممن أجاب{[9554]} يومئذ المقداد بن عمرو الكندي ، رضي الله عنه ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن مخارق بن عبد الله الأحْمَسِي ، عن طارق - هو ابن شهاب - : أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : يا رسول الله ، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما{[9555]} مقاتلون .

هكذا رواه أحمد من هذا الوجه ، وقد رواه من طريق أخرى فقال :

حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا إسرائيل ، عن مخارق ، عن طارق بن شهاب قال : قال عبد الله - هو ابن مسعود - رضي الله عنه : لقد شهدت من المقداد مشهدًا لأن أكون أنا صاحبه أحب إليَّ مما عدل به : أتى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]{[9556]} وهو يدعو على المشركين ، فقال : والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ، ومن بين يديك ومن خلفك . فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك ، وسره{[9557]} بذلك . {[9558]}

وهكذا رواه البخاري " في المغازي " وفي " التفسير " من طرق عن مخارق ، به . ولفظه في " كتاب التفسير " عن عبد الله قال : قال المقداد يوم بدر : يا رسول الله ، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن{[9559]} [ نقول ]{[9560]} امض ونحن معك فكأنه سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثم قال البخاري : ورواه وَكِيع ، عن سفيان ، عن مخارق ، عن طارق ؛ أن المقداد قال للنبي صلى الله عليه وسلم . {[9561]}

وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحُدَيبية ، حين صَدّ المشركون الهَدْي وحِيلَ بينهم وبين مناسكهم : " إني ذاهب بالهَدْي فناحِرُه عند البيت " . فقال له المقداد بن الأسود : أما{[9562]} والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون . فلما سمعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تتابعوا{[9563]} على ذلك . {[9564]}

وهذا . إن كان محفوظا يوم الحديبية ، فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ كما قاله يوم بَدْر .


[9538]:في ر: "لرسوله".
[9539]:في أ: "مقابلة".
[9540]:في أ: "رضوان الله عليهم أجمعين".
[9541]:في أ: " العدد".
[9542]:زيادة من أ.
[9543]:في ر: "والذي".
[9544]:في أ: "ما يقر".
[9545]:في ر، أ: "وبسطه".
[9546]:انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/615).
[9547]:في أ: "كما قال".
[9548]:في أ: "عبدة".
[9549]:في أ: "معتمر".
[9550]:المسند (3/105) وسنن النسائي الكبرى برقم (11141) ومسند أبي يعلى الموصلي (6/407).
[9551]:في أ: "الحكم"، والمثبت من الجرح.
[9552]:في أ: "معكم".
[9553]:ورواه أحمد في مسنده (4/183) من طريق الحسن بن أيوب به.
[9554]:في ر: "أجاد".
[9555]:في ر، أ: "معكم".
[9556]:زيادة من أ.
[9557]:في ر، أ: "وسر".
[9558]:المسند (1/389).
[9559]:في أ: "ولكنا".
[9560]:زيادة من أ.
[9561]:صحيح البخاري برقم (3952، 4609).
[9562]:في ر، أ: "إنا".
[9563]:في ر، أ: "تبايعوا".
[9564]:تفسير الطبري (10/186).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ} (24)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ قَالُواْ يَامُوسَىَ إِنّا لَنْ نّدْخُلَهَآ أَبَداً مّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلآ إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } . .

وهذا خبر من الله جلّ ذكره عن قول الملإ من قوم موسى لموسى ، إذ رغبوا في جهاد عدوّهم ، ووعدوا نصر الله إياهم ، إن هم ناهضوهم ، ودخلوا عليهم باب مدينتهم أنهم قالوا له : إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدا يعنون : إنا لن ندخل مدينتهم أبدا . والهاء والألف في قوله : إنّا لَنْ نَدْخُلَها من ذكر المدينة . ويعنون بقولهم : أبدا : أيام حياتنا ما داموا فيها ، يعني : ما كان الجبارون مقيمين في تلك المدينة التي كتبها الله لهم وأُمروا بدخولها . فاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ لا نجيء معك يا موسى إن ذهبت إليهم لقتالهم ، ولكن نتركك تذهب أنت وحدك وربك فتقاتلانهم .

وكان بعضهم يقول في ذلك : ليس معنى الكلام : اذهب أنت وليذهب معك ربك فقاتلا ، ولكن معناه : اذهب أنت يا موسى ، وليُعِنْك ربك ، وذلك أن الله لا يجوز عليه الذهاب . وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له لو كان الخبر عن قوم مؤمنين ، فأما قوم أهل خلاف على الله عزّ ذكره وسوله ، فلا وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في الله عزّ وجلّ وافترَوا عليه إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم . وقد ذكر عن المقداد أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قال قوم موسى لموسى .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، وحدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن مخارق ، عن طارق : أن المقداد بن الأسود قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكم مقاتلون .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية ، حين صدّ المشركون الهدي وحيل بينهم وبين مناسكهم : «إنّى ذَاهِبٌ بالهَدْي فَناحِرُهُ عِنْدَ البَيْتِ » . فقال له المقداد بن الأسود : أما والله لا نكون كالملإ من بني إسرائيل ، إذ قالوا لنبيهم : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ، ولكن : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون فلما سمعها أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم تتابعوا على ذلك .

وكان ابن عباس والضحاك بن مزاحم وجماعة غيرهما يقولون : إنما قالوا هذا القول لموسى عليه السلام حين تبين لهم أمر الجبارين وشدة بطشهم .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : أمر الله جلّ وعزّ بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدسة مع نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم ، فلما كانوا قريبا من المدينة قال لهم موسى : ادخلوها فأبوا وجبنوا ، وبعثوا اثني عشر نقيبا لينظروا إليهم . فانطلقوا فنظروا ، فجاءوا بحبة فاكهة من فاكهتهم بوقر الرجل ، فقالوا : قدروا قوّة قوم وبأسهم هذه فاكهتهم فعند ذلك قالوا لموسى : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس نحوه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ} (24)

ثم إن بني إسرائيل لجوا في عصيانهم وسمعوا من العشرة النقباء الجواسيس الذين خوفوهم أمر الجبارين ووصفوا لهم قوة الجبارين وعظم خلقهم فصمموا على خلاف أمر الله تعالى : و { قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون } وهذه عبارة تقتضي كفراً ، وذهب بعض الناس إلى أن المعنى اذهب أنت وربك يعينك وأن الكلام معصية لا كفر .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقولهم { فقاتلا } يقطع بهذا التأويل ، وذكر النقاش عن بعض المفسرين أن المراد بالرب هنا هارون لأنه كان اسنّ من «موسى » وكان معظماً في بني إسرائيل محبباً لسعة خلقه ورحب صدره ، فكأنهم قالوا اذهب انت وكبيرك .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل بعيد ، وهارون إنما كان وزيراً لموسى وتابعاً له في معنى الرسالة ، ولكنه تأويل يخلص بني إسرائيل من الكفر ، وذكر الطبري عن قتادة أنه قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزم على قتال قريش في عام الحديبية ، جمع العسكر وكلم الناس في ذلك فقال له المقداد بن الأسود : لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون » لكنا نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون .

وذكر النقاش أن الأنصار قالت هذه المقالة للنبي صلى الله عليه وسلم .

قال القاضي أبو محمد : وجميع هذا وهم ، غلط قتادة رحمه الله في وقت النازلة ، وغلط النقاش في قائل المقالة ، والكلام إنما وقع في غزوة بدر حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذفران فكلم الناس وقال لهم : أشيروا عليَّ أيها الناس ، فقال له المقداد هذه المقالة في كلام طويل ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، ثم تكلم من الأنصار سعد بن معاذ بنحو هذا المعنى ولكن سبقه المقداد إلى التمثيل بالآية .

قال القاضي أبو محمد : وتمثل المقداد بها وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك يقتضي أن الرب إنما أريد به الله تعالى ، وُيؤنس أيضاً في إيمان بني إسرائيل ، لأن المقداد قد قال : اذهب أنت وربك فقاتلا ، وليس لكلامه معنى إلا أن الله تعالى يعينك ويقاتل معك ملائكته ونصره ، فعسى أن بني إسرائيل أرادت ذلك ، أي اذهب أنت ، ويخرجهم الله بنصره وقدرته من المدينة وحينئذ ندخلها ، لكن قبحت عبارتهم لاقتران النكول بها ، وحسنت عبارة المقداد لاقتران الطاعة والإقدام بها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَآ أَبَدٗا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ} (24)

إنّما خاطبوا موسى عقبَ موعظة الرجلين لهم ، رجوعاً إلى إبايتِهم الأولى الّتي شافهوا بها موسى إذ قالوا : { إنّ فيها قوماً جبّارين } ، أو لقلّة اكتراثهم بكلام الرجلين وأكّدوا الامتناع الثّاني من الدخول بعد المحاورة أشدّ توكيد دلّ على شدّته في العربيّة بثلاث مؤكدات : ( إنّ ) ، و ( لن ) ، وكلمة ( أبداً ) .

ومعنى قولهم : { فاذهب أنت وربّك فقاتلا } إن كان خطاباً لموسى أنّهم طلبوا منه معجزة كما تعوّدوا من النصر فطلبوا أن يهلك الله الجبّارين بدعوة موسى . وقيل : أرادوا بهذا الكلام الاستخفاف بموسى ، وهذا بعيد ، لأنّهم ما كانوا يشكّون في رسالته ، ولو أرادوا الاستخفاف لكفروا وليس في كلام موسى الواقع جواباً عن مقالتهم هذه إلاّ وصفهم بالفاسقين . والفسق يطلق على المعصية الكبيرة ، فإنّ عصيان أمر الله في الجهاد كبيرة ، ولذلك قال تعالى فلا تأس على القوم الفاسقين ، وعن عبد الله بن مسعود قال : أتى المقدادُ بن الأسود النبيءَ وهو يدعو على المشركين يوم بدر فقال : « يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل » { فاذْهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون } الحديث .

فَلا تَظُنَّنّ من ذلك أنّ هذه الآية كانت مقروءة بينهم يوم بدر ، لأنّ سورة المائدة من آخر ما نزل ، وإنّما تكلّم المقداد بخبر كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يُحدّثهم به عن بني إسرائيل ، ثم نزلت في هذه الآية بذلك اللّفظ .