ثم كشف الله - تعالى - بعد ذلك عن الغاية التي من أجلها أمروا بذبح البقرة فقال تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
المعنى : واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفساً ، فاختلفتم وتنازعتم في قاتلها ، ودفع كل واحد منكم التهمة عن نفسه ، والله - عز وجل - مخرج لا محالة ما كتمتم من أمر القاتل ، فقد بين - سبحانه - الحق في ذلك فقال على لسان رسوله موسى - عليه السلام - اضربوا القتيل بأي جزء من أجزاء البقرة ، فضربتموه ببعضها فعادت إليه الحياة - بإذن الله - وأخبر عن قاتله ، وبمثل هذا الإِحياء لذلك القتيل بعد موته ، يحيى الله الموتى للحساب والجزاء يوم القيامة ، ويبين لكم الدلائل الدالة على أنه قدير على كل شيء رجاء أن تعقلوا الأمور على وجهها السليم .
وجمهور المفسرين على أن واقعة قتل النفس وتنازعهم فيها ، حصلت قبل الأمر بذبح البقرة ، إلا أن القرآن الكريم أخرها في الذكر ليعدد على بني إسرائيل جناياتهم وليشوق النفوس إلى معرفة الحكمة من وراء الأمر بذبحها ، فتتقبلها بشغف واهتمام .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت فما للقصة لم تفص على ترتيبها ، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها ، وأن يقال : وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها ؟ قلت : كل ما قص من قصص بني إسرائيل إنما قص تعديداً لما وجد منهم من الجنايات ، وتقريعاً لهم عليها ، ولما حدد فيهم من الآيات العظام ، وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين .
فالأولى : لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة وإلى الامتثال وما يتبع ذلك .
والثانية : للتقريع على قتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية العظيمة ، وإنما قدم قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل ، لأنه لو عمل على عكسه لكانت القصة واحدة ، ولذهب الغرض من تثنية التقريع ، ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها ، أن وصلت بالأولى ، دلالة على اتحادهما ، بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله : { اضربوه بِبَعْضِهَا } حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع ونيته ، بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها ، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة " .
وقد أسند القرآن الكريم القتل إلى جمعهم في قوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ } مع أن القاتل بعضهم ، للإِشعار بأن الأمة في مجموعها وتكافلها كالشخص الواحد .
وأسند القتل - أيضاً - إلى اليهود المعاصرين للعهد النبوي ، لأنهم من سلالات أولئك الذين حدث فيهم القتل ، وكثيراً ما يستعمل القرآن الكريم هذا الأسلوب للتنبيه على أن الخلف قد سار على طريقة السلف في الانحراف والضلال .
وقوله تعالى : { فادارأتم فِيهَا } بيان لما حصل منهم بعد قتل النفس التي ذكرنا قصتها ومعنى ادارأتم فيها : اختلفتم وتخاصمتم في شأنها لأن المنخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي يدفعه ويزحمه ، أي تدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض فدفع المطروح عليه الطارح ، ليدفع الجناية عن نفسه ويتهم غيره .
وقوله تعالى : { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } معناه : والله - تعالى - مظهر ومعلن ما كنتم تسترونه من أمر القتيل الذي قتلتموه ، ثم تنازعتم في شأن قاتله ، وذلك ليتبين القاتل الحقيقي بدون أن يظلم غيره .
وهذه الجملة الكريمة { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } معترضة بين قوله تعالى { فادارأتم } وبين قوله تعالى : { فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا } . وفائدته إشعار المخاطبين قبل أن يسمعوا ما أمروا بفعله ، بأن القاتل الحقيقي سنكشف أمره لا محالة .
قال صاحب تفسير التحرير والتنوير : " وإنما تعلقت إرادة الله بكشف حال من قتل هذا القتيل - مع أنه ، ليس أول قتيل طل دمه في الأمم - إكراماً لموسى - عليه السلام - أن يضيع دم في قومه وهو بين أظهرهم ، وبمرأى ومسمع منه ، لا سيما وقد قصد القاتلون استغفاله ودبروا المكيدة في إظهار المطالبة بدمه ، فلو لم يظهر الله - تعالى - هذا الدم ويبين سافكه - لضعف يقين القوم برسولهم موسى - عليه السلام - ولكان ذلك مما يزيد شكهم في صدقة فينقلبوا كافرين ، فكان إظهار القاتل الحقيقي إكراماً من الله تعالى - لموسى ، ورحمة بالقوم لئلا يضلوا "
عندئذ - وبعد تنفيذ الأمر والنهوض بالتكليف - كشف الله لهم عن الغاية من الأمر والتكليف : ( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ، والله مخرج ما كنتم تكتمون ، فقلنا : اضربوه ببعضها . كذلك يحيي الله الموتى ، ويريكم آياته لعلكم تعقلون ) . .
وهنا نصل إلى الجانب الثاني من جوانب القصة . جانب دلالتها على قدرة الخالق ، وحقيقة البعث ، وطبيعة الموت والحياة . وهنا يتغير السياق من الحكاية إلى الخطاب والمواجهة :
لقد كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة . . لقد كانوا قد قتلوا نفسا منهم ؛ ثم جعل كل فريق يدرأ عن نفسه التهمة ويلحقها بسواه . ولم يكن هناك شاهد ؛ فأراد الله أن يظهر الحق على لسان القتيل ذاته ؛ وكان ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه ، وذلك بضربه ببعض من تلك البقرة الذبيح . . وهكذا كان ، فعادت إليه الحياة ، ليخبر بنفسه عن قاتله ، وليجلو الريب والشكوك التي أحاطت بمقتله ؛ وليحق الحق ويبطل الباطل بأوثق البراهين .
قال البخاري : { فَادَّارَأْتُمْ } اختلفتم . وهكذا قال مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي حذيفة ، عن شبْل عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، أنه قال في قوله تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } اختلفتم .
وقال عطاء الخراساني ، والضحاك : اختصمتم فيها . وقال ابن جريج { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } قال : قال بعضهم أنتم قتلتموه .
وقال آخرون : بل أنتم قتلتموه . وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .
{ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } قال مجاهد : ما تُغَيبُون . وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن مسلم البصري ، حدثنا محمد بن الطفيل العبدي ، حدثنا صدقة بن رستم ، سمعت المسيب بن رافع يقول : ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وتصديق ذلك في كلام الله : { وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } .
{ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسا : واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفسا . والنفس التي قتلوها هي النفس التي ذكرنا قصتها في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً . وقوله : فادّارأتُمْ فِيها يعني فاختلفتم وتنازعتم ، وإنما هو «فتدارأتم فيها » على مثال تفاعلتم من الدرء ، والدرء : العوج ، ومنه قول أبي النجم العجلي :
خَشْيَةَ طغامٍ إذَا هَمّ حسَر *** يأكُلُ ذَا الدّرْءِ وَيُقْصِي منْ حَقَرْ
يعني ذا العوج والعُسْر . ومنه قول رؤبة بن العجاج :
أدْرَكْتُها قُدّام كلّ مِدْرَهِ *** بالدّفْعِ عَنّي دَرْءَ كلّ عُنْجُهِ
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، عن إسرائيل ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن مجاهد ، عن السائب ، قال : جاءني عثمان وزهير ابنا أمية ، فاستأذنا لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنا أعْلَمُ بِهِ مِنْكُمَا ، ألَمْ تَكُنْ شَرِيكي في الجاهِلِيّةِ ؟ » قلت : نعم بأبي أنت وأمي ، فنعم الشريك كنت لا تماري ولا تداري يعني بقوله : لا تداري : لا تخالف رفيقك وشريكك ولا تنازعه ولا تشارّه .
وإنما أصل فادّارأتُمْ فتدارأتم ، ولكن التاء قريبة من مخرج الدال ، وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الشفتين ، ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنيتين ، فأدغمت التاء في الدال فجعلت دالاً مشددة ، كما قال الشاعر :
تُولي الضّجيعَ إذَا ما اشْتاقَها خَصِرا *** عَذْبَ المذَاقِ إذَا ما اتّابَعَ القُبَلُ
يريد إذا ما تتابع القبل ، فأدغم إحدى التاءين في الأخرى . فلما أدغمت التاء في الدال فجعلت دالاً مثلها سكنت ، فجلبوا ألفا ليصلوا إلى الكلام بها ، وذلك إذا كان قبله شيء لأن الإدغام لا يكون إلا وقبله شيء ، ومنه قول الله جل ثناؤه : حَتّى إذَا ادّارَكُوا فِيهَا جَمِيعا إنما هو تداركوا ، ولكن التاء منها أدغمت في الدال فصارت دالاً مشددة ، وجعلت فيها ألف إذا وصلت بكلام قبلها ليسلم الإدغام . وإذا لم يكن قبل ذلك ما يواصله ، وابتدىء به ، قيل : تداركوا وتثاقلوا ، فأظهروا الإدغام . وقد قيل : يقال : ادّاركوا وادّارأوا .
وقد قيل إن معنى قوله : فادّارأتُمْ فِيها فتدافعتم فيها ، من قول القائل : درأت هذا الأمر عني ، ومن قول الله : وَيَدْرَأُ اعَنْها العَذَابَ بمعنى يدفع عنها العذاب . وهذا قول قريب المعنى من القول الأول لأن القوم إنما تدافعوا قتل قتيل ، فانتفى كل فريق منهم أن يكون قاتله ، كما قد بينا قبل فيما مضى من كتابنا هذا . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : فادّارأتُمْ فِيها قال أهل التأويل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : فادّارأتُم فِيها قال : اختلفتم فيها .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسا فَادّارأتُمْ فِيها قال بعضهم : أنتم قتلتموه ، وقال الاَخرون : أنتم قتلتموه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فادّارأتُمْ فِيها قال : اختلفتم ، وهو التنازع تنازعوا فيه . قال : قال هؤلاء : أنتم قتلتموه ، وقال هؤلاء : لا .
وكان تدارؤهم في النفس التي قتلوها . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل قتله رجل فألقاه على باب ناس آخرين ، فجاء أولياء المقتول فادعوا دمه عندهم فانتفوا أو انتفلوا منه شك أبو عاصم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله سواء ، إلا أنه قال : فادعوا دمه عندهم ، فانتفوا ولم يشكّ منه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قتيل كان في بني إسرائيل فقذف كل سبط منهم حتى تفاقم بينهم الشرّ حتى ترافعوا في ذلك إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فأوحى إلى موسى أن اذبح بقرة فاضربه ببعضها . فذكر لنا أن وليه الذي كان يطلب بدمه هو الذي قتله من أجل ميراث كان بينهم .
حدثني ابن سعد ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في شأن البقرة : وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على عهد موسى كان مكثرا من المال ، وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم ، وكان الشيخ لا ولد له ، وكان بنو أخيه ورثته ، فقالوا : ليت عمنا قد مات فورثنا ماله . وأنه لما تطاول عليهم أن لا يموت عمهم أتاهم الشيطان ، فقال : هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله ، وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته ؟ وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في إحداهما ، فكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين ، قيس ما بين القتيل وما بين المدينتين ، فأيهما كانت أقرب إليه غرمت الدية . وإنهم لما سوّل لهم الشيطان ذلك وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم ، عمدوا إليه فقتلوه ، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها . فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشيخ ، فقالوا : عمنا قُتل على باب مدينتكم ، فوالله لتغرمنّ لنا دية عمنا قال أهل المدينة : نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا وإنهم عمدوا إلى موسى ، فلما أتوا قال بنو أخي الشيخ : عمنا وجدناه مقتولاً على باب مدينتهم ، وقال أهل المدينة : نقسم بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا . وإن جبريل جاء بأمر ربنا السميع العليم إلى موسى ، فقال : قل لهم : إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فتضربوه ببعضها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، وحجاج عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس ، دخل حديث بعضهم في حديث بعض ، قالوا : إن سبطا من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس ، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه ، وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وتشرّف فإذا لم ير شيئا فتح المدينة فكانوا مع الناس حتى يمسوا . وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير ، ولم يكن له وارث غير ابن أخيه ، فطال عليه حياته ، فقتله ليرثه . ثم حمله فوضعه على باب المدينة . ثم كمن في مكان هو وأصحابه ، قال : فتشرّف رئيس المدينة على باب المدينة فنظر فلم ير شيئا ، ففتح الباب ، فلما رأى القتيل ردّ الباب فناداه ابن أخي المقتول وأصحابه : هيهات قتلتموه ثم تردّون الباب وكان موسى لما رأى القتل كثيرا في أصحابه بني إسرائيل كان إذا رأى القتيل بين ظهري القوم آخذهم ، فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال حتى لبس الفريقان السلاح ، ثم كفّ بعضهم عن بعض ، فأتوا موسى فذكروا له شأنهم فقالوا : يا رسول الله إن هؤلاء قتلوا قتيلاً ثم ردوا الباب ، وقال أهل المدينة : يا رسول الله قد عرفت اعتزالنا الشرور وبنينا مدينة كما رأيت نعتزل شرور الناس ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً . فأوحى الله تعالى ذكره إليه أن يذبحوا بقرة ، فقال لهم موسى : إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، قال : كان في بني إسرائيل رجل عقيم وله مال كثير ، فقتله ابن أخ له فجرّه فألقاه على باب ناس آخرين . ثم أصبحوا فادعاه عليهم حتى تسلّح هؤلاء وهؤلاء ، فأرادوا أن يقتتلوا ، فقال ذوو النهي منهم : أتقتتلون وفيكم نبيّ الله فأمسكوا حتى أتوا موسى ، فقصوا عليه القصة ، فأمرهم أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها ، فقالوا : أتَتّخِذُنا هُزُوا قال أعُوذُ باللّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قتيل من بني إسرائيل طرح في سبط من الأسباط ، فأتى أهل ذلك السبط إلى ذلك السبط ، فقالوا : أنتم والله قتلتم صاحبنا ، فقالوا : لا والله . فأتوا إلى موسى فقالوا : هذا قتيلنا بين أظهرهم ، وهم والله قتلوه ، فقالوا : لا والله يا نبي الله طرح علينا . فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم : إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً .
قال أبو جعفر : فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بينهم في أمر القتيل الذي ذكرنا أمره على ما روينا من علمائنا من أهل التأويل هو الدرء الذي قال الله جل ثناؤه لذرّيتهم وبقايا أولادهم : فادّارأتُمْ فِيها وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ .
ويعني بقوله : وَاللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ والله معلن ما كنتم تسرّونه من قتل القتيل الذي قتلتم ثم ادارأتم فيه . ومعنى الإخراج في هذا الموضع : الإظهار والإعلان لمن خفي ذلك عنه وإطلاعهم عليه ، كما قال الله تعالى ذكره : ألاّ يَسْجُدوا لِلّهِ الّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ يعني بذلك : يظهره ويطلعه من مخبئه بعد خفائه . والذي كانوا يكتمونه فأخرجه هو قتل القاتل القتيل ، كما كتم ذلك القاتل ومن علمه ممن شايعه على ذلك حتى أظهره الله وأخرجه ، فأعلن أمره لمن لا يعلم أمره . وعني جلّ ثناؤه بقوله : تَكْتُمُونَ تسرّون وتغيبون . كما :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ قال : تغيبون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ما كنتم تغيبون .
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 72 )
وقد تقدم قصص القتيل الذي يراد بقوله تعالى : { وإذ قتلتم نفساً } ، والمعنى قلنا لهم اذكروا إذ قتلتم .
و «ادارأتم » أصله : تدارأتم ، ثم أدغمت التاء في الدال فتعذر الابتداء بمدغم ، فجلبت ألف الوصل ، ومعناه تدافعتم أي دفع بعضكم قتل القتيل إلى بعض ، قال الشاعر : [ الرجز ]
صَادَفَ درءُ السَّيْلِ دَرْءاً يَدْفَعُهْ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( {[798]} )
مدْرأٌ يدرأُ الخُصُومُ بقولٍ . . . مِثْلَ حَدِّ الصِّمْصَامَةِ الهُنْدُواني
والضمير في قوله : { فيها } عائد على النفس وقيل على القتلة ، وقرأ أبو حيوة وأبو السوار الغنوي «وإذ قتلتم نسمة( {[799]} ) فادّارأتم »( {[800]} ) ، وقرأت فرقة «فتدارأتم » على الأصل ، وموضع { ما } نصب بمخرج ، والمكتوم هو أمر المقتول .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها}: فاختلفتم في قتلها، فقال أهل هذه القرية الأخرى: أنتم قتلتموه، وقال الآخرون: أنتم قتلتموه، فذلك قوله سبحانه: {والله مخرج ما كنتم تكتمون}، يعني كتمان قتل المقتول...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسا": واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفسا. والنفس التي قتلوها هي النفس التي ذكرنا قصتها في تأويل قوله: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنّ اللّهَ يأمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً". وقوله: "فادّارأتُمْ فِيها "يعني: فاختلفتم وتنازعتم. وإنما هو «فتدارأتم فيها» على مثال تفاعلتم من الدرء، والدرء: العوج... وإنما أصل "فادّارأتُمْ "فتدارأتم، ولكن التاء قريبة من مخرج الدال... فأدغمت التاء في الدال فجعلت دالاً مشددة...
وقد قيل إن معنى قوله: "فادّارأتُمْ فِيها": فتدافعتم فيها، من قول القائل: درأت هذا الأمر عني، ومن قول الله: "وَيَدْرَأُ اعَنْها العَذَابَ" بمعنى: يدفع عنها العذاب. وهذا قول قريب المعنى من القول الأول، لأن القوم إنما تدافعوا قتل قتيل، فانتفى كل فريق منهم أن يكون قاتله كما قد بينا قبل فيما مضى من كتابنا هذا...
فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بينهم في أمر القتيل الذي ذكرنا أمره على ما روينا من علمائنا من أهل التأويل هو الدرء الذي قال الله جل ثناؤه لذرّيتهم وبقايا أولادهم: "فادّارأتُمْ فِيها وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ".
" وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ": والله معلن ما كنتم تسرّونه من قتل القتيل الذي قتلتم ثم ادارأتم فيه. ومعنى الإخراج في هذا الموضع: الإظهار والإعلان لمن خفي ذلك عنه وإطلاعهم عليه، كما قال الله تعالى ذكره: "ألاّ يَسْجُدوا لِلّهِ الّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ" يعني بذلك: يظهره ويطلعه من مخبئه بعد خفائه. والذي كانوا يكتمونه فأخرجه هو قتل القاتل القتيل، كما كتم ذلك القاتل ومن علمه ممن شايعه على ذلك حتى أظهره الله وأخرجه، فأعلن أمره لمن لا يعلم أمره. وعني جلّ ثناؤه بقوله: "تَكْتُمُونَ": تسرّون وتغيبون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم {فادارأتم} فاختلفتم واختصمتم في شأنها، لأنّ المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً، أي يدفعه ويزحمه. أو تدافعتم، بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض، فدفع المطروح عليه الطارح. أو لأنّ الطرح في نفسه دفع. أو دفع بعضكم بعضاً عن البراءة واتهمه.
{والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتل لا يتركه مكتوماً.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قسمت القصة شطرين تنبيهاً على النعمتين: نعمة العفو عن التوقف عن الأمر ونعمة البيان للقاتل بالأمر الخارق، وتنبيهاً على أن لهم بذلك تقريعين: أحدهما بإساءة الأدب في الرمي بالاستهزاء والتوقف عن الامتثال والثاني على قتل النفس وما تبعه، ولو رتبت ترتيبها في الوجود لم يحصل ذلك، وقدم الشطر الأنسب لقصة السبت اتبعه الآخر. وقال الحرالي: قدم نبأ قول موسى عليه السلام على ذكر تدارئهم في القتيل ابتداء بأشرف القصدين من معنى التشريع الذي هو القائم على أفعال الاعتداء وأقوال الخصومة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا هو أول القصة المحتوية على المخالفة على ما أشرنا إليه وهي القتل ثم التنازع في القاتل ثم تشريع الحكم لكشف الحقيقة بذبح البقرة وما كان من إلحاحهم في السؤال على ما سبق.
فقوله تعالى {وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها} أسند فيه القتل إلى الأمة وإن كان القاتل واحدا باعتبار ما تقدم من كونها في مجموعها وتكافلها كالشخص الواحد. والتدارؤ تفاعل من الدرء وهو الدفع فمعناه التدافع وهو يدل على أنه كان خصام واتهام، وكان كل يدرأ عن نفسه ويدعى البراءة ويتهم غيره، وكان للقاتلين والعارفين بهم حظوظ وأهواء كتموا فيها الحقيقة ولذلك قال تعالى بعد التذكير بالجريمة {والله مخرج ما كنتم تكتمون} من الإيقاع بقوم برآء تتهمونهم بالقتل لإخفاء القاتل لأنه لا يخفى عليه مكركم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عندئذ -وبعد تنفيذ الأمر والنهوض بالتكليف- كشف الله لهم عن الغاية من الأمر والتكليف: (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها، والله مخرج ما كنتم تكتمون، فقلنا: اضربوه ببعضها. كذلك يحيي الله الموتى، ويريكم آياته لعلكم تعقلون).. وهنا نصل إلى الجانب الثاني من جوانب القصة. جانب دلالتها على قدرة الخالق، وحقيقة البعث، وطبيعة الموت والحياة. وهنا يتغير السياق من الحكاية إلى الخطاب والمواجهة: لقد كشف الله لقوم موسى عن الحكمة من ذبح البقرة.. لقد كانوا قد قتلوا نفسا منهم؛ ثم جعل كل فريق يدرأ عن نفسه التهمة ويلحقها بسواه. ولم يكن هناك شاهد؛ فأراد الله أن يظهر الحق على لسان القتيل ذاته؛ وكان ذبح البقرة وسيلة إلى إحيائه، وذلك بضربه ببعض من تلك البقرة الذبيح.. وهكذا كان، فعادت إليه الحياة، ليخبر بنفسه عن قاتله، وليجلو الريب والشكوك التي أحاطت بمقتله؛ وليحق الحق ويبطل الباطل بأوثق البراهين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والخطاب هنا على نحو الخطاب في الآيات السابقة المبني على تنزيل المخاطبين منزلة أسلافهم لحمل تبعتهم عليهم بناءً على ما تقرر من أن خُلُقَ السلف يسري إلى الخلف...
وإنما تعلقت إرادة الله تعالى بكشف حال قاتلي هذا القتيل مع أن دمه ليس بأول دم طل في الأمم إكراماً لموسى عليه السلام أن يضيع دم في قومه وهو بين أظهرهم وبمرأى منه ومسمع لا سيما وقد قصد القاتلون استغفال موسى ودبروا المكيدة في إظهارهم المطالبة بدمه، فلو لم يظهر الله تعالى هذا الدم في أمة لضعف يقينها برسولها ولكان ذلك مما يزيدهم شكاً في صدقه فينقلبوا كافرين، فكان إظهار هذا الدم كرامة لموسى ورحمة بالأمة لئلا تضل فلا يشكل عليكم أنه قد ضاع دم في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم كما في حديث حويصة ومحيصة الآتي لظهور الفرق بين الحالين بانتفاء تدبير المكيدة وانتفاء شك الأمة في رسولها وهي خير أمة أخرجت للناس.