{ 46-65 } ولما ذكر ما يفعل بالمجرمين ، ذكر جزاء المتقين الخائفين فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ
أي : وللذي خاف ربه وقيامه عليه ، فترك ما نهى عنه ، وفعل ما أمره به ، له جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وبنيانهما وما فيهما ، إحدى الجنتين جزاء على ترك المنهيات ، والأخرى على فعل الطاعات .
وكعادة القرآن الكريم فى قرن أحوال الأخيار ، بأحوال الأشرار ، أو العكس : جاء الحديث عما أعده - سبحانه - للمتقين من جزيل الثواب ، بعد الحديث عما سينزل بالمجرمين من عقاب فقال - تعالى - : { وَلِمَنْ خَافَ . . . } .
قال الآلوسى : قوله - تعالى - : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ . . } شروع فى تعديد الآلاء التى تفاض فى الآخرة على المتقين ، بعد بيان سوء عاقبة المكذبين .
و { مَقَامَ } مصدر ميمى بمعنى القيام مضاف إلى الفاعل . أى : ولمن خاف قيام ربه عليه وكونه مراقبا له ، ومهيمنا عليه فالقيام هنا مثله فى قوله - تعالى - : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ . . } أو هو اسم مكان . والمراد به مكان وقوف الخلق فى يوم القيامة للحساب . . إذ الخلق جميعا قائمون له - تعالى - كما فى قوله - سبحانه - : { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين } والمعنى : ولكل من خاف القيام بين يدى ربه للحساب ، وخشى هيمنته - سبحانه - عليه ، ومجازاته له . . . لك من خاف ذلك وقدم فى دنياه العمل الصالح ، { جَنَّتَانِ } يتنقل بينهما ، ليزداد سروره ، وحبوره .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قال : { جَنَّتَانِ } ؟ قلت الخطاب للثقلين ، فكأنه قيل لكل حائفين منكما جنتان . جنة للخائف الإنسى ، وجنة للخائف الجنى .
ويجوز أن يقال : جنة لفعل الطاعات ، وجنة لترك المعاصة ، لأن التكليف دائر عليها ، وأن يقال : جنة يثاب بها وأخرى تضم إليها على وجه التفضل ، كقوله - تعالى - : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ }
هذه ضفة العذاب الأليم . والآن إلى ضفة النعيم والتكريم :
( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) . .
وللمرة الأولى - فيما مر بنا من سور القرآن - تذكر الجنتان . والأظهر أنهما ضمن الجنة الكبيرة المعروفة ! ولكن اختصاصهما هنا بالذكر قد يكون لمرتبتهما . وسيأتي في سورة الواقعة أن أصحاب الجنة فريقان كبيران : هما السابقون المقربون . وأصحاب اليمين . ولكل منهما نعيم . فهنا كذلك نلمح أن هاتين الجنتين هما لفريق ذي مرتبة عالية . وقد يكون فريق السابقين المقربين المذكورين في سورة الواقعة . ثم نرى جنتين أخريين من دون هاتين . ونلمح أنهما لفريق يلي ذلك الفريق . وقد يكون هو فريق أصحاب اليمين .
قال ابن شَوْذب ، وعطاء الخراساني : نزلت هذه الآية : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } في أبي بكر الصديق .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مصفى ، حدثنا بَقيَّة ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن عطية بن قيس في قوله : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } : نزلت في الذي قال : أحرقوني بالنار ، لعلي أضل الله ، قال : تاب يوما وليلة بعد أن تكلم بهذا ، فقبل الله منه وأدخله الجنة .
والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره ، يقول تعالى : ولمن خاف مقامه بين يدي الله ، عز وجل ، يوم القيامة ، { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } [ النازعات : 40 ] ، ولم يطغ ، ولا آثر الدنيا ، وعلم أن الآخرة خير وأبقى ، فأدى فرائض الله ، واجتنب محارمه ، فله يوم القيامة عند ربه جنتان ، كما قال البخاري ، رحمه الله .
حدثنا عبد الله بن أبي الأسود ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العَمّي ، حدثنا أبو عِمْران الجَوْني ، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جنتان من فضة ، آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدن " .
وأخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود ، من حديث عبد العزيز ، به {[27909]} .
وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي بكر بن أبي موسى ، عن أبيه - قال حماد : ولا أعلمه إلا قد رفعه - في قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، وفي قوله : { وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [ قال ] : {[27910]} جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من ورِق لأصحاب اليمين .
وقال ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري {[27911]} ، حدثنا ابن أبي مريم ، أخبرنا محمد بن جعفر ، عن محمد بن أبي حَرْمَلَة ، عن عطاء بن يَسَار ، أخبرني أبو الدرداء ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوما هذه الآية : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، فقلت : وإن زنى أو سرق ؟ فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، فقلت : وإن زنى وإن سرق ؟ فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } . فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال : " وإن رغم أنف أبي الدرداء " .
ورواه النسائي من حديث محمد بن أبي حَرْمَلَة ، به {[27912]} ورواه النسائي أيضا عن مؤمِّل {[27913]} بن هشام ، عن إسماعيل ، عن الجُرَيري ، عن موسى ، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبي الدرداء ، به {[27914]} . وقد روي موقوفًا على أبي الدرداء . وروي عنه أنه قال : إن من خاف مقام ربه لم يزْنِ ولم يسرق .
وهذه الآية عامة في الإنس والجن ، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا ؛ ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ * ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } .
يقول تعالى ذكره : ولمن اتقى الله من عباده ، فخاف مقامه بين يديه ، فأطاعه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه جنتان ، يعني بستانين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وإن اختلفت ألفاظهم في البيان عن تأويله ، غير أن معنى جميعهم يقول إلى هذا . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ قال : وعد الله جلّ ثناؤه المؤمنين الذين خافوا مقامه ، فأدّوا فرائضه الجنة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ يقول : خاف ثم اتقى ، والخائف : من ركب طاعة الله ، وترك معصيته .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، في قوله : ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ هو الرجل يهم بالذنب فيذكر مقام ربه فينزع .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله : ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ قال : الرجل يهمّ بالذنب فيذكر مقامه بين يدي الله فيتركه ، فله جنتان .
قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، قوله : ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ قال : الرجل يهمّ بالمعصية ، فيذكر الله عزّ وجلّ فيدعها .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ولَمنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ قال : في الذي إذا همّ بمعصية تركها .
حدثنا نصر بن عليّ ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور ، عن مجاهد ، قوله : ولِمَنْ خاف مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ قال : هو الرجل يهمّ بمعصية الله تعالى ، ثم يتركها مخافة الله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ قال : يذنب الذنب فيذكر مقام ربه فيدعه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم في هذه الاَية ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ قال : إذا أراد أن يذنب أمسك مخافة الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ قال : إن المؤمنين خافوا ذاكم المقام فعملوا له ، ودانوا له ، وتعبّدوا بالليل والنهار .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن مروان ، قال : حدثنا أبو العوّام ، قال : حدثنا قتادة ، في قوله : ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ قال : إن الله مقاما قد خافه المؤمنون .
حدثني محمد بن موسى ، قال : حدثنا عبد الله بن الحارث القرشيّ ، قال : حدثنا شعبة بن الحجاج ، قال : حدثنا سعيد الجريريّ ، عن محمد بن سعد ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ »قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : «وإنْ زَنى وسَرَقَ وإنْ رَغِمَ أنْفِ أبي الدّرْداءِ » .
وحدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : أخبرنا محمد بن جعفر ، عن محمد بن أبي حرملة ، عن عطاء بن يسار ، قال : أخبرني أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قرأ يوما هذه الاَية ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ فقلت وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ قال : ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ قال : فقلت : يا رسول الله وإن زنى وإن سرق ؟ قال : ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال : «وَإنْ زَنى وإنْ سَرَقَ رَغْمَ أنْفِ أبي الدّرْدَاءِ » .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي بكر ، عن أبي موسى ، عن أبيه ، قال حماد لا أعلمه إلا رفعة في قوله : ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ قال جنتان من ذهب للمقرّبين أو قال : للسابقين ، وجنتان من ورِق لأصحاب اليمين .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، عن أبيه ، قال : حدثنا سيار ، قال : قيل لأبي الدرداء في هذه الاَية ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ فقيل : وإن زنى وإن سرق ، فقال : وإن زنى وإن سرق . وقال : إنه إن خاف مقام ربه لم يزن ولم يسرق .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن ابن المبارك ، عن سعيد الجريريّ ، عن رجل ، عن أبي الدرداء «ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ »فقال أبو الدرداء : وإن زنى وإن سرق ، قال : نعم ، وإن رَغِمَ أنْفُ أبي الدرداء » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن الصلت ، عن عمرو بن ثابت ، عمن ذكره ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود في قوله : ولِمَنْ خافَ مقامَ رَبهِ جَنّتانِ قال : وإن زنى وإن سرق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ قال : جنتا السابقين ، فقرأ ذَوَاتا أفْنانٍ فقرأ حتى بلغ كأَنّهُنّ الياقُوتُ وَالمَرْجانُ ثم رجع إلى أصحاب اليمين ، فقال : وَمِنْ دُونِهِما جَنّتانِ فذكر فضلهما وما فيهما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ قال : مقامه حين يقوم العباد يوم القيامة ، وقرأ يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ العَالَمِينَ وقال : ذاك مقام ربك .
ولمن خاف مقام ربه موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب أو قيامه على أحواله من قام عليه إذا راقبه أو مقام الخائف عند ربه للحساب بأحد المعنيين فأضيف إلى الرب تفخيما وتهويلا أو ربه و مقام مفخم للمبالغة كقوله ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين جنتان جنة للخائف الإنسي والأخرى للخائف الجني فإن الخطاب للفريقين والمعنى لكل خائفين منكما أو لكل واحد جنة لعقيدته وأخرى لعمله أو جنة لفعل الطاعات وأخرى لترك المعاصي أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه أو روحانية وجسمانية وكذا ما جاء مثنى بعد .
«من » في قوله تعالى : { ولمن } يحتمل أن تقع على جميع المتصفين بالخوف الزاجر عن معاصي الله تعالى ، ويحتمل أن تقع لواحد منهم وبحسب هذا قال بعض الناس في هذه الآية : إن كل خائف له { جنتان } . وقال بعضهم : جميع الخائفين لهم { جنتان } . والمقام هو وقوف العبد بين يدي ربه يفسره : { يوم يقوم الناس لرب العالمين }{[10840]} [ المطففين : 6 ] وأضاف المقام إلى الله من حيث هو بين يديه . قال الثعلبي وقيل : { مقام ربه } قيامه على العبد ، بيانه : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت }{[10841]} [ الرعد : 33 ] وحكى الزهراوي هذا المعنى عن مجاهد . وفي هذه الإضافة تنبيه على صعوبة الموقف وتحريض على الخوف الذي هو أسرع المطايا إلى الله عز وجل . وقال قوم : أراد جنة واحدة ، وثنى على نحو قوله : { ألقيا في جهنم كل كفار عنيد }{[10842]} [ ق : 24 ] وقول الحجاج : يا غلام اضربا عنقه .
وقال أبو محمد : هذا ضعيف ، لأن معنى التثنية متوجه فلا وجه للفرار إلى هذه الشاذة ، ويؤيد التثنية قوله { ذواتا أفنان } وهي تثنية ذات على الأصل . لأن أصل ذات : ذوات .