{ 125 } { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
أي : ليكن دعاؤك للخلق مسلمهم وكافرهم إلى سبيل ربك المستقيم المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح ، { بِالْحِكْمَةِ } ، أي : كل أحد على حسب حاله وفهمه وقوله وانقياده .
ومن الحكمة الدعوة بالعلم لا بالجهل والبداءة بالأهم فالأهم ، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم ، وبما يكون قبوله أتم ، وبالرفق واللين ، فإن انقاد بالحكمة ، وإلا فينتقل معه بالدعوة بالموعظة الحسنة ، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب .
إما بما تشتمل عليه الأوامر من المصالح وتعدادها ، والنواهي من المضار وتعدادها ، وإما بذكر إكرام من قام بدين الله وإهانة من لم يقم به .
وإما بذكر ما أعد الله للطائعين من الثواب العاجل والآجل وما أعد للعاصين من العقاب العاجل والآجل ، فإن كان [ المدعو ] يرى أن ما هو عليه حق . أو كان داعيه إلى الباطل ، فيجادل بالتي هي أحسن ، وهي الطرق التي تكون أدعى لاستجابته عقلا ونقلا .
ومن ذلك الاحتجاج عليه بالأدلة التي كان يعتقدها ، فإنه أقرب إلى حصول المقصود ، وأن لا تؤدي المجادلة إلى خصام أو مشاتمة تذهب بمقصودها ، ولا تحصل الفائدة منها بل يكون القصد منها هداية الخلق إلى الحق لا المغالبة ونحوها .
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ } ، علم السبب الذي أداه إلى الضلال ، وعلم أعماله المترتبة على ضلالته وسيجازيه عليها .
{ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } ، علم أنهم يصلحون للهداية فهداهم ثم منَّ عليهم فاجتباهم .
والخطاب في قوله - تعالى - { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة } ، للرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه كل مسلم يصلح للدعوة إلى الله - عز وجل - .
أي : ادع - أيها الرسول الكريم - الناس إلى سبيل ربك ، أي : إلى دين ربك وشريعته التي هي شريعة الإِسلام ، { بالحكمة } ، أي : بالقول المحكم الصحيح الموضح للحق ، المزيل للباطل ، الواقع في النفس أجمل موقع .
وحذف - سبحانه - مفعول الفعل { ادع } ؛ للدلالة على التعميم ، أي : ادع كل من هو أهل للدعوة إلى سبيل ربك .
وأضاف - سبحانه - السبيل إليه . للإِشارة إلى أنه الطريق الحق ، الذي من سار فيه سعد وفاز ، ومن انحرف عنه شقي وخسر .
وقوله - تعالى - : { والموعظة الحسنة } ، وسيلة ثانية للدعوة إلى الله - تعالى - أي : وادعهم - أيضا - إلى سبيل ربك بالأقوال المشتملة على العظات والعبر التي ترقق القلوب ، وتهذب النفوس ، وتقنعهم بصحة ما تدعوهم إليه ، وترغبهم في الطاعة لله - تعالى - وترهبهم من معصيته - عز وجل - وقوله - تعالى - : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } ، بيان لوسيلة ثالثة من وسائل الدعوة السليمة .
أي : وجادل المعاند منهم بالطريقة التي هي أحسن الطرق وأجملها ، بأن تكون مجادلتك لهم مبنية على حسن الإِقناع ، وعلى الرفق واللين وسعة الصدر فإن ذلك أبلغ في إطفاء نار غضبهم ، وفي التقليل من عنادهم ، وفي إصلاح شأن أنفسهم ، وفي إيمانهم بأنك إنما تريد من وراء مجادلتهم ، الوصول إلى الحق دون أي شيء سواه .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد رسمت أقوم طرق الدعوة إلى الله - تعالى - وعينت أحكم وسائلها ، وأنجعها في هداية النفوس .
إنها تأمر الدعاة في كل زمان ومكان أن تكون دعوتهم إلى سبيل الله لا إلى سبيل غيره : إلى طريق الحق لا طريق الباطل ، وإنها تأمرهم - أيضا - أن يراعوا في دعوتهم أحوال الناس ، وطباعهم ، وسعة مداركهم ، وظروف حياتهم ، وتفاوت ثقافاتهم .
وأن يخاطبوا كل طائفة بالقدر الذي تسعه عقولهم ، وبالأسلوب الذي يؤثر في نفوسهم ، وبالطريقة التي ترضي قلوبهم وعواطفهم .
فمن لم يقنعه القول المحكم ، قد تقنعه الموعظة الحسنة ، ومن لم تقنعه الموعظة الحسنة . قد يقنعه الجدال بالتي هي أحسن .
ولذلك كان من الواجب على الدعاة إلى الحق ، أن يتزودوا بجانب ثقافتهم الدينية الأصيلة الواسعة - بالكثير من ألوان العلوم الأخرى كعلوم النفس والاجتماع والتاريخ ، وطبائع الأفراد والأمم . . فإنه ليس شيء أنجع في الدعوة من معرفة طبائع الناس وميولهم ، وتغذية هذه الطبائع والميول بما يشبعها من الزاد النافع ، وبما يجعلها تقبل على فعل الخير ، وتدبر عن فعل الشر .
وكما أن أمراض الأجسام مختلة ، ووسائل علاجها مختلفة - أيضا - ، فكذلك أمراض النفوس متنوعة ، ووسائل علاجها متباينة .
فمن الناس من يكون علاجه بالمقالة المحكمة : ومنهم من يكون علاجه بالعبارة الرقيقة الرفيقة التي تهز المشاعر ، وتثير الوجدان ، ومنهم من يكون علاجه بالمحاورة والمناقشة والمناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن ؛ لأن النفس الإِنسانية لها كبرياؤها وعنادها ، وقلما تتراجع عن الرأي الذي آمنت به . إلا بالمجادلة بالتي هي أحسن . والحق : أن الدعاة إلى الله - تعالى - إذا فقهوا هذه الحقائق فتسلحوا بسلاح الإِيمان والعلم ، وأخلصوا لله - تعالى - القول والعمل ، وفطنوا إلى أنجع الأساليب في الدعوة إلى الله ، وخاطبوا الناس على قدر عقولهم واستعدادهم . . نجحوا فى دعوتهم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
قال الآلوسي : وإنما تفاوتت طرق دعوته صلى الله عليه وسلم لتفاوت مراتب الناس ، فمنهم خواص ، وهم أصحاب نفوس مشرقة ، قوية الاستعداد لإِدراك المعانى ، مائلة إلى تحصيل اليقين على اختلاف مراتبه ، وهؤلاء يدعون بالحكمة .
ومنهم عوام ، أصحاب نفوس كدرة ضعيفة الاستعداد ، شديدة الإِلف بالمحسوسات ، قوية التعلق بالرسوم والعادات ، قاصرة عن درجة البرهان ، لكن لا عناد عندهم ، وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة .
ومنهم من يعاند ويجادل بالباطل ليدحض به الحق ، لما غلب عليه من تقليد الأسلاف ، ورسخ فيه من العقائد الباطلة ، فصار بحيث لا تنفعه المواعظ والعبر ، بل لابد من إلقامه الحجر بأحسن طرق الجدال ، لتلين عريكته ، وتزول شكيمته ، وهؤلاء الذين أمر صلى الله عليه وسلم بجدالهم بالتي هي أحسن .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } ، بيان لكمال علم الله - تعالى - وإحاطته بكل شيء ، وإرشاد للدعاة في شخص نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى أن عليهم أن يدعوا الناس بالطريقة التي بينها - سبحانه - لهم ، ثم يتركوا النتائج له - تعالى - يسيرها كيف يشاء .
والظاهر أن صيغة التفضيل { أعلم } ، في هذه الآية وأمثالها ، المراد بها مطلق الوصف لا المفاضلة ؛ لأن الله - تعالى - لايشاركه أحد في علم أحوال خلقه ، من شقاوة وسعادة ، وهداية وضلال .
والمعنى : إن ربك - أيها الرسول الكريم - هو وحده العليم بمن ضل من خلقه عن صراطه المستقيم ، وهو وحده العليم بالمهتدين منهم إلى السبيل الحق وسيجازي كل فريق منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب .
وما دام الأمر كذلك ، فعليك - أيها الرسول الكريم - أن تسلك في دعوتك إلى سبيل ربك ، الطرق التي أرشدك إليها ، من الحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، ومن كان فيه خير - كما يقول صاحب الكشاف - كفاه الوعظ القليل ، والنصيحة اليسيرة ، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل ، وكأنك تضرب منه في حديد بارد .
ذلك بيان المشتبهات في العلاقة بين التوحيد الذي جاء بها إبراهيم من قبل ، وكملت في الدين الأخير ، والعقائد المنحرفة التي يتمسك بها المشركون واليهود . وهو بعض ما جاء هذا الكتاب لتبيانه . فليأخذ الرسول [ ص ] في طريقه يدعو إلى سبيل ربه دعوة التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويجادل المخالفين في العقيدة بالتي هي أحسن . فإذا اعتدوا عليه وعلى المسلمين عاقبهم بمثل ما اعتدوا . إلا أن يغفروا ويصبر مع المقدرة على العقاب بالمثل ؛ مطمئنا إلى أن العاقبة للمتقين المحسنين . فلا يحزن على من لا يهتدون ، ولا يضيق صدره بمكرهم به وبالمؤمنين :
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين . وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين . واصبر وما صبرك إلا بالله . ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون . إن الله مع الذين اتقوا ، والذين هم محسنون ) .
على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها ، ويعين وسائلها وطرائقها ، ويرسم المنهج للرسول الكريم ، وللدعاة من بعده بدينه القويم فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه الله في هذا القرآن .
إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله . لا لشخص الداعي ولا لقومه . فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله ، لا فضل له يتحدث به ، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به ، وأجره بعد ذلك على الله .
والدعوة بالحكمة ، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم ، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها ، والطريقة التي يخاطبهم بها ، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها . فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه .
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق ، وتتعمق المشاعر بلطف ، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب ، ولا يفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية . فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة ، ويؤلف القلوب النافرة ، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ .
وبالجدل بالتي هي أحسن . بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح . حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل ، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق . فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها ، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق ، حتى لا تشعر بالهزيمة . وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس ، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلا عن هيبتها واحترامها وكيانها ، والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة ، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة ، وقيمته كريمة ، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها ، والاهتداء إليها . في سبيل الله ، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر !
ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين . فلا ضرورة للجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد ذلك لله .
هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم إن الله عز وجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {ادع إلى سبيل ربك}، يعني: دين ربك، وهو الإسلام،
{والموعظة الحسنة}، يعني: بما فيه من الأمر والنهي،
{بالتي هي أحسن}، بما في القرآن من الأمر والنهي،
{إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله}، يعني: دينه الإسلام،
{وهو أعلم بالمهتدين}، يعني: بمن قدر الله له الهدى من غيره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم "ادْعُ "يا محمد من أرسلك إليه ربك بالدعاء إلى طاعته، "إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ" يقول: إلى شريعة ربك التي شرعها لخلقه، وهو الإسلام "بِالْحِكْمَةِ"، يقول بوحي الله الذي يوحيه إليك، وكتابه الذي ينزله عليك، "وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" يقول: وبالعبر الجميلة التي جعلها الله حجة عليهم في كتابه، وذكّرهم بها في تنزيله، كالتي عدّد عليهم في هذه السورة من حججه، وذكّرهم فيها ما ذكرهم من آلائه، "وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، يقول: وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها أن تصفح عما نالوا به عرضك من الأذى، ولا تعصه في القيام بالواجب عليك من تبليغهم رسالة ربك...
"إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ"، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد هو أعلم بمن جار عن قصد السبيل من المختلفين في السبت وغيره من خلقه، وحادّ الله، وهو أعلم بمن كان منهم سالكا قصد السبيل ومَحَجة الحقّ، وهو مُجازٍ جميعهم جزاءهم عند ورودهم عليه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أمر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو عباده المكلفين بالحكمة، وهو أن يدعوهم إلى أفعالهم الحسنة التي لها مدخل في استحقاق المدح والثواب عليها؛ لأن القبائح يزجر عنها، ولا يدعو إليها، والمباح لا يدعو إلى فعله؛ لأنه عبث، وإنما يدعو إلى ما هو واجب أو ندب؛ لأنه يستحق بفعله المدح والثواب، والحكمة هي المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن والقبح والصلاح والفساد. وقيل لها: حكمة؛ لأنها بمنزلة المانع من الفساد، وما لا ينبغي أن يختار... والموعظة الحسنة: معناه الوعظ الحسن، وهو الصرف عن القبيح على وجه الترغيب في تركه والتزهيد في فعله. وفي ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع...
"بالتي هي أحسن"، وفيه الرفق والوقار والسكينة مع نصرة الحق بالحجة. ثم أخبر "إن ربك "يا محمد،" أعلم بمن ضل عن سبيله"، بأن عدل عنها و "أعلم" من غيره بمن اهتدى إليها، وليس عليك غير الدعاء...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الدعاءُ إلى سبيل الله بحثِّ الناسِ على طاعةِ الله، وزجرهم عن مخالفة أمر الله. والدعاءُ بالحكمة ألا يخالفَ بالفعل ما يأمر به الناس بالنطق. والموعظة الحسنة ما يكون صادراً عن علمٍ وصوابٍ، ولا يكون فيها تعنيف. {وَجَادِلْهُم بالتي هي أَحْسَنُ}: بالحجة الأقوى، والطريقة الأوضح. قال تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]: فَشَرْطُ الأمرِ بالمعروف استعمالُ ما تأمر به، والانتهاء عما تنهي عنه...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
- إن المدعو إلى الله تعالى بالحكمة قوم وبالموعظة قوم والمجادلة قوم؛ فإن الحكمة إن غذي بها أهل الموعظة أضرت بهم كما تضر بالطفل الرضيع التغذية بلحم الطير، وإن المجادلة إن استعملت مع أهل الحكمة اشمأزوا منها كما يشمئز طبع الرجل القوي من الارتضاع بلبن الآدمي، وإن من استعمل الجدال مع أهل الجدال لا بالطريق الأحسن كما تعلم من القرآن، كان كمن غذى البدوي بخبز البر وهو لم يألف إلا التمر أو البلدي بالتمر، وهو لم يألف إلا البر، وليته كانت له أسوة حسنة كما تعلم من القرآن في إبراهيم الخليل- صلوات الله عليه- حيث حاج خصمه فقال: {ربي الذي يحيي ويميت}، فلما رأى ذلك لا يناسبه، وليس عنده حين قال: {أنا أحيي وأميت}، عدل إلى الأوفق لطبعه والأقرب إلى فهمه فقال: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر}. [القسطاس المستقيم ضمن المجموعة رقم 3 ص: 6-7].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إلى سَبِيلِ رَبّكَ}، إلى الإسلام، {بالحكمة}، بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة، {والموعظة الحسنة}، وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها...
{إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ} بهم، فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل والنصيحة اليسيرة، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل، وكأنك تضرب منه في حديد بارد...
... {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} والمعنى: أنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاثة، فأما حصول الهداية فلا يتعلق بك، فهو تعالى أعلم بالضالين وأعلم بالمهتدين، والذي عندي في هذا الباب أن جواهر النفوس البشرية مختلفة بالماهية، فبعضها نفوس مشرقة صافية قليلة التعلق بالجسمانيات كثيرة الانجذاب إلى عالم الروحانيات، وبعضها مظلمة كدرة قوية التعلق بالجسمانيات عديمة الالتفات إلى الروحانيات، ولما كانت هذه الاستعدادات من لوازم جواهرها، لا جرم يمتنع انقلابها وزوالها، فلهذا قال تعالى: اشتغل أنت بالدعوة ولا تطمع في حصول الهداية للكل، فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس الضالة الجاهلة وبإشراق النفوس المشرقة الصافية، فلكل نفس فطرة مخصوصة وماهية مخصوصة، كما قال: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} والله أعلم.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
جعل الله سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق: فالمتسجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه: يدعى بطريق الحكمة. والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر: يدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب. والمعاند الجاحد: يجادل بالتي هي أحسن...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قدم سبحانه في هذه السورة حكاية كثير من استهزائهم بوعده ووعيده، وتكذيبهم لرسله على أبشع وجه، والتفتير عن حرقة الحرص عليهم، المفضي إلى شدة التأسف على ضلالهم وغير ذلك مما ربما أيأس منهم فأقعد عن دعائهم، وأتبعه ضرب الأمثال، ونصب الجدال -على تلك المناهيج المعجزة بما يسبق من ظواهرها إلى الفهم عند قرع السمع من المعاني الجليلة، والمقاصد الجميلة- لعامة الخلق ما يجل عن الوصف، وإذا تأملها الخواص وجدوا فيها من دقائق الحقائق، ومشارع الرقائق، ومحكم الدلائل، ومتقن المقاصد والوسائل، ما يوضح -بتفاوت الأفهام وتباين الأفكار- أنه بحر لا ساحل له ولا قرار، ولا منتهى لما تستخرج منه الأنظار، وختم باتباع الأب الأعظم، لما كان ذلك، وأمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو السميع المطيع أن يستن بآثاره، ويقتدى بإضماره وإظهاره، فسر له تلك الملة التي أمره باتباعها فقال تعالى: {ادع}، أي: كل من تمكن دعوته، {إلى سبيل ربك}، أي: المحسن إليك، بتسهيل السبيل الذي تدعو إليه واتساعه، وهو الإسلام الذي هو الملة الحنيفية، {بالحكمة}، وهي المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن والقبح والصلاح والفساد، وقيل لها حكمة؛ لأنها بمنزلة المانع من الفساد وما لا ينبغي أن يختار، فالحكيم هو العالم بما يمنع من الفساد -قاله الرماني، وهي في الحقيقة الحق الصريح، فمن كان أهلاً له دعي به، {والموعظة}، بضرب الأمثال والوعد والوعيد مع خلط الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة. {الحسنة}، أي: التي يسهل على كل فهم ظاهرها، ويروق كل نحرير ما ضمنته سرائرها، مع اللين في مقصودها وتأديتها هذا لمن لا يحتمل إلا ذلك، {وجادلهم}، أي: الذين يحتملون ذلك منهم افتلهم عن مذاهبهم الباطلة إلى مذهبك الحق بطريق الحجاج، {بالتي هي أحسن}، من الطرق بالترفق واللين والوقار والسكينة، ولا تعرض عنهم يأساً منهم، ولا تجازهم بسيء مقالهم وقبيح فعالهم صفحاً عنهم ورفقاً بهم، فهو بيان لأصناف الدعوة بحسب عقول المدعوين؛ لأن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بأن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{والموعظة الحسنة}، أي: العبر اللطيفة والوقائع المخيفة، ليحذروا بأسه تعالى... دلّ قوله تعالى: {وجادلهم بالتي هي أحسن}، على الحث على الإنصاف في المناظرة، واتباع الحق، والرفق والمداراة، على وجه يظهر منه أن القصد إثبات الحق وإزهاق الباطل، وأن لا غرض سواه...
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
كيف تكون الدعوة إلى الله والدفاع عنها:
" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة. وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين"...
شرع الله لعباده – بما أنزل من كتابه، وما كان من بيان رسوله – ما فيه استنارة عقولهم، وزكاء نفوسهم، واستقامة أعمالهم. وسماه سبيلا ليلتزموه في جميع مراحل سيرهم في هذه الحياة، ليفضي بهم إلى الغاية المقصودة، وهي السعادة الأبدية في الحياة الأخرى...
وأضافه إلى نفسه، ليعلموا أنه هو وضع، وأنه لا شيء يوصل إلى رضوانه سواه. وذكر من أسماء الرب؛ ليعلموا أن الرب الذي خلقهم وطورهم، ولطف بهم في جميع أطوار خلقهم، ومراحل تكوينهم: هو الذي وضع لهم هذه السبيل لطفا منه بهم، وإحسانا إليهم، لينهجوها في مراحل حياتهم، فكما كان رحيما بهم في خلقه، كان رحيما بهم في شرعه فيسيروا فيها عن رغبة ومحبة فيها، ومع شكر له وشوق إليه...
وأمر نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم – أن يدعو إلى سبيل ربه وهو الأمين المعصوم فما ترك شيئا من سبيل ربه إلا دعا إليه، فعرفنا بهذا أن ما لم يدع إليه محمد- صلى الله عليه وآله وسلم – فليس من سبيل الرب جل جلاله؛ فاهتدينا بهذا – وأمثاله كثير – إلى الفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال ودعاة الله ودعاة الشيطان...
فمن دعا إلى ما دعا إليه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم – فهو من دعاة الله، يدعو إلى الحق والهدى، ومن دعا إلى ما لم يدع إليه محمد- صلى الله عليه وآله وسلم – فهو من دعاة الشيطان يدعو إلى الباطل والضلال...
اقتداء: فالمسلم المتبع للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم – لا يألو جهدا في الدعوة إلى كل ما عرف من سبيل ربه، وبقيام كل واحد من المسلمين بهذه الدعوة بما استطاع، تتضح السبيل للسالكين، ويعم العلم بها عند المسلمين، وتخلوا سبل الباطل على دعاتها من الشياطين...
أركان الدعوة: أركان الدعوة أربعة:
الداعي، وهو النبي- صلى الله عليه وآله وسلم.
والمدعو إليه، وهو سبيل الرب جل جلاله، والدعوة إلى سبيله الموصل إليه دعوة إليه، فالمدعو إليه في الحقيقة هو الله تعالى.
. وتجيء الآيات القرآنية منها ما هو حديث وبيان عن الداعي. ومنها ما هو حديث وبيان عن المدعو إليه، ومنها حديث وبيان عن بيان الدعوة. وتتضمن كل آية جاءت في واحد الذكر أو الإشارة للثلاثة الأخرى، وهذه الآية الكريمة جاءت في بيان كيفية الدعوة، وبما تؤدى؟ وكيف يدافع عنها؟ مع ذكر الداعي والمدعو إليه. فقال تعالى:"بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن"...
الحكمة: (الحكمة): هي العلم الصحيح الثابت، المثمر للعمل المتقن المبني على ذلك العلم: فالعقائد الحقة والحقائق العلمية الراسخة في النفس رسوخا تظهر آثاره على الأقوال والأعمال – حكمة. والأعمال المستقيمة، والكلمات الطيبة التي أثمرتها تلك العقائد – حكمة. والأخلاق الكريمة كالحلم والأناة – وهي علم وعمل نفسي – حكمة. والبيان عن هذا كله بالكلام الواضح الجامع – حكمة؛ تسمية للدال باسم المدلول. فحق على أهل الدعوة إلى الله – وخصوصا المعلمين – أن يقاوموا ما بينا من جهل وجمود وإعراض وفتور، بالتزام البيان للحقائق العلمية بأدلتها، والعقائد ببراهينها، والأخلاق بمحاسنها، والأعمال بمصالحها. وقد وجد الأخذ بهذه الأساليب القرآنية – والحمد لله – وأخذ أثرها – بفضل الله – يظهر في الناس بقدر الأخذ بها، ويوشك أن تتجدد بذلك في المسلمين حياة إن شاء الله...
الموعظة الحسنة: الوعظ والموعظة، الكلام الملين للقلب، بما فيه من ترغيب وترهيب فيحمل السامع – إذا اتعظ وقبل الوعظ، وأثر فيه – على فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه. و قد يطلق على نفس الأمر والنهي...
الاستدلال: ففي حديث العرباض الذي رواه الترمذي وغيره:"وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم – موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون "فقد خطب فيهم خطبة كان لها هذا الأثر في قلوبهم، فهذه حقيقة الموعظة. وقال تعالى:"ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به"، أي: يؤمرون به. وقال تعالى: "يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا"، أي: ينهاكم...
فهذا من إطلاق الوعظ على الأمر والنهي؛ لأن شأن الأمر والنهي أن يقترن بما يحمل على امتثاله من الترغيب والترهيب. بماذا تكون الموعظة: يكون الوعظ بذكر أيام الله في الأمم الخالية؛ وباليوم الآخر، وما يتقدمه، وما يكون فيه من مواقف الخلق وعواقبهم، ومصيرهم إلى الجنة أو النار، وما في الجنة من نعيم، وما في النار من عذاب أليم. وبوعد الله وعيده، وهذه أكثر ما يكون بها الوعظ...
ويكون بغيرها كتذكير الإنسان بأحوال نفسه، ليعامل غيره بما يحب أن يعامل به، وهو من أدق فنون الوعظ وأبلغها،مثل قوله تعالى وقد نهى أن يقال لمن ألقى السلام لست مؤمنا -:"كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم". وقوله تعالى – وقد أمر بالعفو والصفح: "ألا تحبون أن يغفر الله لكم، والله غفور رحيم"
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك بيان المشتبهات في العلاقة بين التوحيد الذي جاء بها إبراهيم من قبل، وكملت في الدين الأخير، والعقائد المنحرفة التي يتمسك بها المشركون واليهود. وهو بعض ما جاء هذا الكتاب لتبيانه. فليأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه يدعو إلى سبيل ربه دعوة التوحيد بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل المخالفين في العقيدة بالتي هي أحسن. فإذا اعتدوا عليه وعلى المسلمين عاقبهم بمثل ما اعتدوا. إلا أن يغفروا ويصبر مع المقدرة على العقاب بالمثل؛ مطمئنا إلى أن العاقبة للمتقين المحسنين. فلا يحزن على من لا يهتدون، ولا يضيق صدره بمكرهم به وبالمؤمنين:
(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين. وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين. واصبر وما صبرك إلا بالله. ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون. إن الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون).
على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها، ويعين وسائلها وطرائقها، ويرسم المنهج للرسول الكريم، وللدعاة من بعده بدينه القويم فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه الله في هذا القرآن.
إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله. لا لشخص الداعي ولا لقومه. فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله، لا فضل له يتحدث به، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله.
والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها. فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه.
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا يفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية. فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ.
وبالجدل بالتي هي أحسن. بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح. حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة. وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلا عن هيبتها واحترامها وكيانها، والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها. في سبيل الله، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر!
ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين. فلا ضرورة للجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد ذلك لله.
هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يتنزل معنى هذه الآية منزلة البيان لقوله: {أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً} [سورة النحل: 123] فإن المراد بما أوحي إليه من اتّباع ملّة إبراهيم هو دين الإسلام، ودين الإسلام مبنيّ على قواعد الحنيفية، فلا جرم كان الرسول بدعوته الناس إلى الإسلام داعياً إلى اتّباع ملّة إبراهيم...
ومخاطبة الله رسوله بهذا الأمر في حين أنه داع إلى الإسلام وموافق لأصول ملّة إبراهيم دليل على أن صيغة الأمر مستعملة في طلب الدّوام على الدعوة الإسلامية مع ما انضمّ إلى ذلك من الهداية إلى طرائق الدعوة إلى الدين...
فتضمّنت هذه الآية تثبيت الرسول على الدعوة وأن لا يؤيسه قول المشركين له {إنما أنت مفتر} [سورة النحل: 101] وقولهم: {إنما يعلّمه بشر} [سورة النحل: 103]؛ وأن لا يصدّه عن الدعوة أنه تعالى لا يهدي الذين لا يؤمنون بآيات الله. ذلك أن المشركين لم يتركوا حيلة يحسبونها تثبّط النبي عن دعوته إلا ألقوا بها إليه من: تصريح بالتكذيب، واستسخار، وتهديد، وبذاءة، واختلاق، وبهتان، كما ذلك محكي في تضاعيف القرآن وفي هذه السورة، لأنهم يجهلون مراتب أهل الاصطفاء ويزنونهم بمعيار موازين نفوسهم، فحسبوا ما يأتونه من الخزعبلات مثبطاً له وموشكاً لأن يصرفه عن دعوتهم...
وسبيل الربّ: طريقهُ. وهو مجاز لكل عمل من شأنه أن يبلّغ عاملَه إلى رضى الله تعالى، لأن العمل الذي يحصل لعامله غرض ما يُشبهِ الطريقَ الموصل إلى مكان مقصود، فلذلك يستعار اسم السبيل لسبب الشيء...
وإضافة {سبيل} إلى {ربك} باعتبار أن الله أرشد إليه وأمر بالتزامه. وهذه الإضافة تجريد للاستعارة. وصار هذا المركب علماً بالغلبة على دين الإسلام، كما في قوله تعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدّوا عن سبيل الله} [سورة الأنفال: 36]، وهو المراد هنا، وفي قوله عقبه {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} [سورة النحل: 125]...
ويطلق سبيل الله علماً بالغلبة أيضاً على نصرة الدين بالقتال كما في قوله تعالى: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} [سورة التوبة: 41]...
والباء في قوله: {بالحكمة} للملابسة... ومعنى الملابسة يقتضي أن لا تخلو دعوته إلى سبيل الله عن هاتين الخصلتين: الحكمة، والموعظة الحسنة...
فالحكمة: هي المعرفة المُحكمة، أي الصائبة المجرّدة عن الخطأ، فلا تطلق الحكمة إلا على المعرفة الخالصة عن شوائب الأخطاء وبقايا الجهل في تعليم الناس وفي تهذيبهم. ولذلك عرّفوا الحكمة بأنها: معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية بحيث لا تلتبس على صاحبها الحقائق المتشابهة بعضها ببعض ولا تخطئ في العلل والأسباب. وهي اسم جامع لكل كلام أو علم يراعى فيه إصلاح حال الناس واعتقادهم إصلاحاً مستمراً لا يتغيّر...
وتطلق الحكمة على العلوم الحاصلة للأنبياء، ويرادفها الحكم...
و {الموعظة}: القول الذي يلين نفس المقول له لعمل الخير. وهي أخصّ من الحكمة لأنها حكمة في أسلوب خاص لإلقائها...
ووصفها بالحُسْن تحريض على أن تكون ليّنة مقبولة عند الناس، أي حسنة في جنسها، وإنما تتفاضل الأجناس بتفاضل الصفات المقصودة منها...
وعطف {الموعظة} على « الحكمة» لأنها تغاير الحكمة بالعُموم والخصوص الوجهي، فإنه قد يسلك بالموعظة مسلك الإقناع، فمن الموعظة حكمة، ومنها خطابة، ومنها جدل. وهي من حيث ماهيّتها بينها وبين الحكمة العموم والخصوص من وجه، ولكن المقصود بها ما لا يخرج عن الحكمة والموعظة الحسنة بقرينة تغيير الأسلوب... إذ لم يعطف مصدر المجادلة على الحكمة والموعظة بأن يقال: والمجادلة بالتي هي أحسن، بل جيء بفعلها، تنبيهاً على أن المقصود تقييد الإذن فيها بأن تكون بالتي هي أحسن، كما قال: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [سورة العنكبوت: 46]...
والمجادلة: الاحتجاج لتصويب رأي وإبطال ما يخالفه أو عمل كذلك. ولما كان ما لقيه النبي من أذى المشركين قد يبعثه على الغلظة عليهم في المجادلة أمره الله بأن يجادلهم بالتي هي أحسن... والمعنى: إذا ألجأتك الدعوة إلى محاجّة المشركين فحاججهم بالتي هي أحسن...
فإن المجادلة تقتضي صدور الفعل من الجانبين، فعلم أن المأمور به أن تكون المحاجّة الصادرة منه أشدّ حسناً من المحاجّة الصادرة منهم، كقوله تعالى: {ادفع بالتي هن أحسن} [سورة المؤمنون: 96]...
ولما كانت المجادلة لا تكون إلا مع المعارضين صرّح في المجادلة بضمير جمع الغائبين المراد منه المشركون، فإن المشركين متفاوتون في كيفيات محاجتهم، فمنهم من يحاجّ بلين، مثل ما في الحديث: أن النبي قرأ القرآن على الوليد بن المغيرة ثم قال له: هل ترى بما أقول بأساً قال: لا والدماء. وقرأ النبي القرآن على عبد الله بن أُبيّ ابن سَلول في مجلس قومه، فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء إن كان ما تقول حقاً فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدّثه إيّاه ومن لم يأتك فلا تغتّه ولا تأته في مجلسه بما يكره منه...
وقُيدت الموعظة بالحسنة ولم تقيد الحكمة بمثل ذلك لأن الموعظة لما كان المقصود منها غالباً ردع نفس الموعوظ عن أعماله السيئة أو عن توقّع ذلك منه، كانت مظّنة لصدور غلظة من الواعظ ولحصول انكسار في نفس الموعوظ، أرشد الله رسوله أن يتوخّى في الموعظة أن تكون حسنة، أي بِإلانَة القول وترغيب الموعوظ في الخير، قال تعالى خطاباً لموسى وهارون: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليّناً لعلّه يتذكّر أو يخشى} [سورة طه: 43] وفي حديث الترمذي عن العرباض بن سارية أنه قال: وعظَنا رسولُ الله موعظة وجِلَت منها القلوب وذَرَفَتْ منها العيون الحديث...
وأما الحكمة فهي تعليم لمتطلبي الكمال من معلّم يهتمّ بتعليم طلابه فلا تكون إلا في حالة حسنة فلا حاجة إلى التنبيه على أن تكون حسنة...
والمجادلة لما كانت محاجة في فعل أو رأي لقصد الإقناع بوجه الحقّ فيه فهي لا تعدو أن تكون من الحكمة أو من الموعظة، ولكنها جعلت قسيماً لهما هنا بالنظر إلى الغرض الداعي إليها...
وإذ قد كانت مجادلة النبي لهم من ذيول الدعوة وُصفت بالتي هي أحسن كما وصفت الموعظة بالحسنة...
وقد كان المشركون يجادلون النبي قصداً لإفحامه، وتمويهاً لتغليطه نبّه الله على أسلوب مجادلة النبي إيّاهم استكمالاً لآداب وسائل الدعوة كلها. فالضمير في {وجادلهم} عائد إلى المشركين بقرينة المقام لظهور أن المسلمين لا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يتلقّون منه تلقّي المستفيد والمسترشد. وهذا موجب تغيير الأسلوب بالنسبة إلى المجادلة إذ لم يقل: والمجادلةِ الحسنة، بل قال: {وجادلهم}، وقال تعالى أيضاً: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [سورة العنكبوت: 46]...
ويندرج في التي هي أحسن ردّ تكذيبهم بكلام غير صريح في إبطال قولهم من الكلام الموجّه، مثل قوله تعالى {وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} [سورة سبأ: 24]، وقوله: {وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون} [سورة الحج: 68]...
والآية تقتضي أن القرآن مشتمل على هذه الطرق الثلاثة من أساليب الدعوة، وأن الرسول إذا دعا الناس بغير القرآن من خطبه ومواعظه وإرشاده يسلك معهم هذه الطرق الثلاثة. وذلك كله بحسب ما يقتضيه المقام من معاني الكلام ومن أحوال المخاطبين من خاصّة وعامّة...
وليس المقصود لزوم كون الكلام الواحد مشتملاً على هذه الأحوال الثلاثة؛ بل قد يكون الكلام حكمة مشتملاً على غِلظة ووعيد وخالياً عن المجادلة. وقد يكون مجادلة غير موعظة، كقوله تعالى: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}. وكقول النبي "إنك لتأكل المِرباع وهو حرام في دينك"، قاله لعديّ بن حاتم وهو نصراني قبلَ إسلامه...
ومن الإعجاز العلمي في القرآن أن هذه الآية جمعت أصول الاستدلال العقلي الحقّ، وهي البرهان والخطابة والجَدل المعبّر عنها في علم المنطق بالصناعات وهي المقبولة من الصناعات. وأما السفسطة والشعر فيَرْبَأُ عنهما الحكماء الصادقون بله الأنبياء والمرسلين...
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين}. هذه الجملة تعليل للأمر بالاستمرار على الدّعوة بعد الإعلام بأن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله، وبعد وصف أحوال تكذيبهم وعنادهم...
فلما كان التّحريض بعد ذلك على استدامة الدعوة إلى الدين محتاجاً لبيان الحكمة في ذلك بيّنت الحكمة بأن الله هو أعلم بمصير الناس وليس ذلك لِغير الله من الناس فما عليك إلا البلاغ، أي فلا تيْأس من هدايتهم ولا تتجاوز إلى حدّ الحزن على عدم اهتدائهم لأن العلم بمن يهتدي ومن يضلّ موكول إلى الله وإنما عليك التبليغ في كل حال. وهذا قول فصل بين فريق الحقّ وفريق الباطل...
وقُدم العلم بمن ضَلّ لأنه المقصود من التعليل لأن دعوتهم أوكد والإرشاد إلى اللّين في جانبهم بالموعظة الحسنة والمجادلة الحسنى أهمّ، ثم أتبع ذلك بالعلم بالمهتدين على وجه التكميل. وفيه إيماء إلى أنه لا يدري أن يكون بعض من أيس من إيمانه قد شرح الله صدره للإسلام بعد اليأس منه...
وتأكيد الخبر بضمير الفصل للاهتمام به...
ولم يقل: وبالمهتدين، تصريحاً بالعلم في جانبهم ليكون صريحاً في تعلّق العلم به. وهذان القصران إضافيان، أي ربّك أعلم بالضّالين والمهتدين، لا هؤلاء الذين يظنّون أنهم مهتدون وأنكم ضالون...
والتفضيل في قوله: {هو أعلم} تفضيل على علم غيره بذلك. فإنه علم متفاوت بحسب تفاوت العالمين في معرفة الحقائق. وفي هذا التفضيل إيماء إلى وجوب طلب كمال العلم بالهدى، وتمييز الحقّ من الباطل، وغوص النظر في ذلك، وتجنّب التسرّع في الحكم دون قوة ظنّ بالحقّ، والحذر من تغلّب تيارات الأهواء حتى لا تنعكس الحقائق ولا تسير العقول في بنَيّات الطرائق، فإن الحقّ باقٍ على الزمان والباطل تكذبه الحجّة والبرهان...
والتخلّق بهذه الآية هو أن كل من يقوم مقاماً من مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم في إرشاد المسلمين أو سياستهم يجب عليه أن يكون سالكاً للطرائق الثلاث: الحكمة، والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وإلا كان منصرفاً عن الآداب الإسلامية وغير خليق بما هو فيه من سياسة الأمّة، وأن يخشى أن يعرّض مصالح الأمّة للتلف، فإصلاح الأمّة يتطلّب إبلاغ الحقّ إليها بهذه الوسائل الثلاث. والمجتمعُ الإسلامي لا يخلو عن متعنّت أو مُلَبّس وكلاهما يُلقي في طريق المصلحين شَواكَ الشبه بقصد أو بغير قصد. فسبيل تقويمه هو المجادلة، فتلك أدنى لإقناعه وكشف قناعه...
في « الموطأ» أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في خطبة خطبها في آخر عمره: « أيها الناس قد سُنّت لكم السّنن، وفُرضت لكم الفرائض، وتُركتم على الواضحة، إلا أن تضلّوا بالناس يميناً وشمالاً» وضرب بإحدى يديه على الأخرى. (لعلّه ضرب بيده اليسرى على يده اليمنى الممسكة السيف أو العصا في حال الخطبة). وهذا الضرب علامة على أنه ليس وراء ما ذُكر مطلب للناس في حكم لم يسبق له بيان في الشريعة...
وقدم ذكر علمه {بمن ضل عن سبيله} على ذكر علمه {بالمهتدين} لأن المقام تعريض بالوعيد للضالين، ولأن التخلية مقدمة على التحلية، فالوعيد مقدّم على الوعد...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
صدع النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه بعد أن أنذر عشيرته وعمت دعوته ربوع البطحاء، وتجاوبت أصداؤها في أرض الجزيرة العربية، وصار الناس يتعرفون أمر هذه الدعوة، وتجردت قريش مناوئة بكل مما أوتيت من قوة آذت الضعفاء وفتنتهم عن دينهم وهاجر إلى الحبشة من هاجر فرارا بدينه وحماية ليقينه، فهل يضعف ذلك من ندائه بقوة الحق، والإيمان، وهل يخرجه ذلك عن حد الحكمة، بل إنه يستمر هاديا مرشدا؛ ولذا جاء أمر الله بأن يستمر في دعوته بالحكمة والموعظة ولا يخرجه ما يفعلون إلى غير ذلك، فقال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة... وبيان الفرق بين الحكمة والموعظة أن الحكمة ذكر الأدلة على التوحيد التي لا يفهما إلى الراشدون الذين يدركون الدليل ومقدماته، والموعظة ذكر عواقب الضلال من الحوادث الماضية التي وقعت بالضالين المضلين، والقرآن الكريم قد اشتمل على والموعظة، ففيه بيان آيات الله في الكون من خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم المسخرات بأمره وإنزال الماء وإنبات النبات وفلق الحب والنوى؛ فهذا كله من الحكمة، وفيه قصص الأمم السابقة وما نزل بالعصاة من خسف وزلزل وريح صرصر عاتية، وهذا من الموعظة الحسنة؛ ولذا قال بعض المفسرين {بالحكمة والموعظة الحسنة} القرآن لأنه يشتمل عليها، ووصفت الموعظة بالحسنة لسهولة قبولها، أو يتخير الرسول أسهلها على النفس، وأحسنها توصيلا للحق الله الهادي إلى سبيل الرشاد...
أمر الله نبيه بأن يبذل غاية الجهد في الدعوة من غير مغاضبة بل بالمودة والملاينة والرفق في القول والعمل، والمجادلة من غير مشاحنة ولا مخاصمة، بحيث يكونون في جانب، وهو في جانب، ولا يظن أنه بذلك يتأكد إيمانهم فإن منهم من يضل، ومنهم المهتدي، وعليه التبليغ، وليس عليه الهداية؛ ولذا قال: {...فإنما عليك البلاغ... (40)} [الرعد]، وقال في هذه الآية: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} هذا النص السامي كأنه جواب عن استفهام مقدر في القول: أبعد الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن يكون الإيمان لا محالة؟، فأجاب سبحانه: فيهم من كتب عليه الضلال وفيهم المهتدي...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{ادع إلى سبيل ربك}، والدعوة إلى سبيل الله هي جوهر الدعوة وصميمها، ثم قال تعالى: {بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي أحسن}. وهذه هي الشروط الأساسية لكل دعوة يكتب لها الانتشار والانتصار، إذ متى كانت الدعوة –من أي نوع- يقود خطواتها داعية غير حكيم ولا متبصر، أو داعية غير مهذب القول ولا مهذب الطبع، أو داعية حريص على الجدل مولع بالشغب، إلا وباءت دعوته بالتقهقر السريع، والفشل الذريع...
وواضح أن الخطاب في قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك}، وإن كان موجها في البداية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو موجه في النهاية إلى جميع أفراد أمته، ومن بينهم العلماء والحكام، والمعلمون والمعلمات، والآباء والأمهات، فكلهم مطالب بالدعوة إلى ما دعا إليه الرسول بنفس الروح التي دعا بها، وحض كتاب الله عليها، وقد تجدد هذا المعنى في كتاب الله عدة مرات، ومن ذلك قوله تعالى يأمر موسى وهارون عندما بعثهما إلى فرعون: {فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} [طه: 44]، وقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت: 46]...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
كلمة الحكمة ودلالاتها... وإذا ما استقرأنا كلمات اللغويين فيها، ماذا نرى؟ نراها تبيّن المعاني التالية: «العدل»، و«الحلم» و «النبوة» و «ما يمنع من الجهل» و «ما يمنع من الفساد» و «كل كلام موافق للحق» و «وضع الشيء في موضعه» و «صواب الأمر وسداده» و «معرفة الأشياء بأفضل العلوم» وغير ذلك...
ما يبدو لنا من ملاحظة موارد استعمالها أن أقرب هذه المفاهيم إلى المفهوم الذي نعنيه من لفظ «الحكمة» هو «وضع الشيء في موضعه»، أو «صواب الأمر وسداده»، فإن هذا المفهوم يحضر الذهن لدى سماع هذه الكلمة، ولكننا لن ندّعي أنه هو المعنى نفسه، بل نزعم أنه أقرب شيء إليه وألصق معنى به من بين المعاني التي ذكرت له، ومن هنا نجد أن صفة الحكمة تلتقي في كلامنا ب «الخبرة» و «المران» و «التجربة»، فنعتبر الإنسان المزوّد بهذه المعاني إنساناً حكيماً؛ لأن له من تجاربه وخبرته ومرانه ما يساعده على إعطاء الرأي الصائب، ويمنح خطواته وأعماله صفة التركيز وعدم الانحراف والاهتزاز، ويجعلها في محلها كما يقول التعبير الشائع وهو الذي يلتقي بمفهوم «وضع الشيء في موضعه». ويتضح ما قلناه، إذا لاحظنا التعبير المتعارف: «عالج الأمور بحكمة» أو «سار فيه بحكمة»، فإن المفهوم منه هو الطريقة السديدة التي تجعل كل شيءٍ في موضعه. وبذلك يمكننا معرفة وجه إطلاق هذا اللفظ على «الكلام الموافق للحق» باعتباره إرجاعاً للأمر إلى نصابه، ووضعاً للحق في موضعه، أو باعتباره صواباً وسداداً...
على ضوء ذلك، يمكننا إطلاق هذه الصفة على العالم والعادل والحليم والنبيّ؛ لأن اشتمال الإنسان على المبادئ، وهي العلم والعدل والحلم والنبوّة، تساعده على أن يضع الأشياء في مواضعها، في العلم عندما يبحث ويفكر، وفي الحلم عندما يعفو ويسامح، وفي العدل عندما يقضي ويحكم، وفي النبوّة عندما يدعو ويبلّغ، فهي من مبادئ الحكمة، لا الحكمة نفسها... ذلك لأن الحصول على ملكة وضع الشيء في موضعه ليس أمراً بسيطاً يتعلمه الإنسان ويمارسه، كما يتعلم أيّة صنعة أو حرفةٍ ويمارسها، بل هو أمرٌ معقّدٌ جداً يحتاج إلى معايشة للقضايا والحوادث والأفكار، واطلاعٍ واسعٍ على دقائقها وخصائصها ومداخلها ومخارجها، ومن هنا كان قوله تعالى في الحديث عن الحكمة: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً} [البقرة: 269]، وكانت الحكمة من المنح الإلهية العظيمة التي امتنّ الله بها على عباده وأنبيائه في حديثه عن داود (عليه السلام): {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 251]، وعن آل إبراهيم: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 54].. ويلاحظ في الآية الأخيرة مقارنة الحكمة بالكتاب دلالة على أنها ترقى إلى مستوى الكتاب في السموّ والرفعة، كما يلاحظ ذلك في كثيرٍ من الآيات المتفرقة...
المراد من الدعوة بالحكمة في القرآن الكريم... ولعلنا نلمح في كلمة {إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ} ما يرشدنا إلى ذلك، فإن سبيل الله الذي تجب الدعوة إليه هو الإسلام بكل تعاليمه ومبادئه، والقرآن بما فيه من أحكام وتعاليم...
يبدو لنا من خلال ما قدمناه حول مفهوم الكلمة، أنها تعبيرٌ عن طبيعة أسلوب الدعوة وضرورة اتصافه بالحكمة، وسلوكه طريقها. فكأن الآية محاولةٌ للإرشاد إلى طريقة الدعوة العملية في هداية الناس وإرشادهم وكسب أكبر عددٍ ممكن منهم إلى صف الدين والعقيدة، وللإشارة إلى أن الحقيقة المجرّدة العارية، والواقع البسيط المجرّد، لا يمكن إلقاؤهما إلى الناس دون مقدمات، ودون ملاحظةٍ للظروف ودراسة لجوّ العمل ومجالاته...
وعلى ضوء هذا، فإن المراد بالحكمة كما نفهمه منها هو السير على الطريقة الواقعية للعمل، ونعني بها تلك التي تلاحظ الواقع الخارجي للمجتمع الذي تعيش فيه، وتدرس ظروفه العقلية والفكرية والنفسية والاجتماعية، وتضع كل ذلك في حسابها قبل بداية العمل...
وإذا ربطناها بالدعوة، فسنجد أنها محاولة لتنبيه الدعاة إلى الله، إلى أن لا يكون الأسلوب المتبع لديهم في العمل واحداً من حيث النوع، بل لا بد من أن يختلف حسب اختلاف الواقع الذي تعيشه الدعوة، أو يعيش فيه الدين، فإنه من الواضح أن الدعوة لن تكون فعالة، إذا حاولت أن تساوي بين الجاهل والمثقف في الفكرة التي تُلقى، والأسلوب الذي يُتَّبع، فإن الأدوات التعبيريّة والمخزون الفكري الذي يملكه كلٌّ منهما، يختلف عما يملكه الآخر، وأيضاً، فقد تقتضي بعض المواقف الجو الحماسي والاندفاعي الصرف، بينما يقتضي بعضها الآخر، الجو الهادئ المتزن الذي يتيح للفكر أن ينطلق، وللروح أن تطمئن، وللإنسان أن يفكر بهدوء...
وقد يدفعنا الجو في بعض الحالات إلى عرض الفكرة بكامل تفاصيلها، بينما يدفعنا في حالاتٍ أخرى إلى الاكتفاء بعرض الخطوط الرئيسية فقط، تاركين للمستقبل وضع النقاط على الحروف. ذلك ما نفهمه من الحكمة هنا، والذي قد يلتقي مع كلمة «المرونة» في كثيرٍ من مدلولاتها؛ لأن المرونة تقتضي عدم انتهاج الداعية أسلوباً واحداً لا يتعدّاه في مجالات العمل، بل تتطلب منه أن يكون مرناً يلاحظ طبيعة الجو، وطبيعة الموقف، وطبيعة الإنسان المخاطّب...
وقد نجد في تعبير علماء البيان عن البلاغة بأنها «مطابقة مقتضى الحال» ما يوضح لنا معنى الحكمة ويقربها إلى أذهاننا لأنه يلتقي بها من أقرب الطرق...
ولا بد لنا في ختام الحديث حول هذه الكلمة من الإشارة إلى أن المرونة التي ذكرناها ومطابقة مقتضى الحال وغيرهما، لا تعني أن نصل إلى استخدام وسائل تتنافى والمبادئ العامة للإسلام الذي يرتكز على قواعد أخلاقية متينة، فإن هذا شرط لا بد منه على كل حال...