تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ} (125)

الآية : 125 وقوله تعالى : { ادع على سبيل ربك } ، قيل : دين ربك ، { بالحكمة } قال الحسن : أي : ادعهم إلى دين الله بالقرآن . وقال بعضهم : { بالحكمة } / 295 – أ / بالحجة والبرهان ، أي : ادعهم إلى دين الله بالحجج والبراهين ، أي : ألزمهم دين الله بالحجج والبراهين حتى يقروا به .

وقوله تعالى : { والموعظة الحسنة } ، قال الحسن : أي : عظهم بالموعظة التي وعظهم الله تعالى في الكتاب .

وقال أبو بكر : أي : ذكرهم النعم التي أنعم عليهم ، { وجادلهم بالتي هي أحسن } ، أي : جادلهم أحسن المجادلة بلين القول وخفض الجانب والجناح ، لعلهم يقبلون ( دين الله ) {[10605]} ويخضعون لربهم .

وكذلك اختلفوا في قوله : { وإذ علمتك الكتاب والحكمة } ( المائدة : 110 ) ، وقوله : { لما آتيناكم من كتاب وحكمة } ( آل عمران : 81 ) .

قال الحسن : الكتاب والحكمة واحد اسم مثنى ، وهو القرآن . وقال بعضهم : الكتاب هو القرآن وهو سماع الوحي ، والحكمة وحي الإلهام ، وهو السنة . وقال بعضهم : الكتاب هو التنزيل ، والحكمة هي المعنى المودع فيه .

فمن يقول : إن الكتاب والحكمة واحد ، وهي القرآن ، يقول في قوله : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } ، القرآن . ومن يقول عنه إنهما غير ( واحد ) {[10606]} يقول هاهنا : إن الحكمة الحجة والبرهان : إما من جهة الإلهام ، وإما من جهة الانتزاع من الكتاب .

ويحتمل أن يكون قوله : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } ، التي ذكر في هذه السورة . من ذلك قوله : { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه } ( الآية : 69 ) ، يعني : من بطون النحل ، وقوله : { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين } ( الآية : 66 ) ، وما ذكر أنه يخرج من الخشب اليابسة الأعناب وأنواع الثمرات ونحوه ( الآيتان : 10 و 11 ) . وذلك كله بحكمته ، أي : ادعهم إلى دينه ، وذكرهم بهذا ، وهم يقرون به ليقبلوا دينه ، ويخضعوا لأمره .

( ويحتمل قوله ) {[10607]} : { والموعظة الحسنة } ، ما ذكر في قوله : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } الآية ( النحل : 90 ) ، وذلك كله مستحسن في العقل وتوجيه الحكمة ؛ لأن العدل والإحسان وما ذكر من إيتاء ذي القربى الصدقة مستحسن في عقل كل أحد ، والانتهاء أيضا عن الفحشاء والمنكر مستحسن ، مستقبح ارتكابه وإتيانه ؛ كأن الحكمة هي التي تشمل على العلم والعمل جميعا ؛ كأنه قال : ادعهم إلى دين الله بالعلم جميعا حتى يَنجَع ذلك فيهم ، أو ادعهم باللين وخفض الجناح مرة بالعنف والخشونة ثانيا ، فيكون وضع الشيء موضعه ، ثم قال : { يعظكم لعلكم تذكرون } .

وقوله تعالى : { وجادلهم بالتي هي أحسن } ، يحتمل ، والله أعلم ، أي : جادلهم بالذي يقرون على ما ينكرون ، وهو ما ذكر : { أفمن يخلق } الآية ( النحل : 17 ) ، وقوله : { ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا } ( النحل : 73 ) ، وقوله : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا } الآية ( النحل : 75 ) ، وقوله : { وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء } الآية ( النحل : 76 ) ، وقوله : { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت } الآية ( النحل : 71 ) ، ونحو هذا ( أمر أن ) {[10608]} يجادلهم بأحسن المجادلة بالذي يقرون أنه كذلك على الذي {[10609]} يُنكرون ليلزمهم القبول والخضوع له .

ثم في الآية دليل تعليم المناظرة في الدين ، وكيفية المعاملة بعضهم لبعض فيها حين {[10610]} قال : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } ، التي عنده بالقرآن أو غيره من الحجج والبينات ، { والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } ، هكذا يجب أن يناظر بعضهم بعضا بالوجه الذي وصف الله تعالى .

وعلى ذلك ما ذكر الله في كتابه مناظرة الأنبياء والرسل مع الفراعنة والأكابر ، وهو ما قال : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } ( البقرة : 258 ) إلى آخر ما ذكر ، وقوله : { وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله } الآية ( الأنعام : 80 ) ، ومناظرة فرعون مع موسى ، صلوات الله على نبيينا وعليه ، حين {[10611]} { قال فرعون وما رب العالمين }{ قال رب السماوات والأرض } الآية ( الشعراء : 23 و : 24 ) ، وما قال : { رب المشرق والمغرب } ( الشعراء : 28 ) وقوله : { فأت به إن كنت من الصادقين } ، { فألقى عصاه } ( الشعراء : 31 و 32 ) ، وما { قال فمن ربكما يا موسى } ، { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } ( طه : 49 و : 50 )وأمثاله مما يكثر . فهذه مناظرة الرسل والأنبياء مع الفراعنة والأعداء . فكيف المناظرة بين الأولياء ؟ فهذا كله يرد على من يأبى المناظرة في الدين ، ويمتنع عن التكلم فيه والاحتجاج .

وقوله تعالى : { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } في الآية نسبتهم إلى الضلال إشارة وكناية لا تصريحا ؛ لأنه لم يقل لهم مصرحا : إنكم قد ضللتم عن سبيله لحسن معاملته التي علم رسوله ، وأمره أن يعاملهم ؛ لأن ذلك أقرب إلى القبول وأميل إلى القلوب {[10612]} وآخذ .

ألا ترى أنه قال لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون : { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } ؟ ( طه : 44 ) .


[10605]:في الأصل وم: دينهم.
[10606]:ساقطة من الأصل وم.
[10607]:ساقطة من الأصل وم.
[10608]:ساقطة من الأصل وم.
[10609]:في الأصل وم: الذين.
[10610]:في الأصل وم: حيث.
[10611]:في الأصل وم: حيث.
[10612]:من م، في الأصل: القبول.