فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ} (125)

{ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 125 ) } .

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو أمته إلى الإسلام فقال : { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ } ، وحذف المفعول للتعميم ؛ لكونه بعث إلى الناس كافة ، أو المعنى افعل الدعاء ، والأول أولى ، وكأن المعنى وخاطب الناس في دعائك لهم وسبيل الله هو الإسلام . { بِالْحِكْمَةِ } ، أي : بالمقالة المحكمة الصحيحة الموضحة للحق المزيلة للشبهة والشك ، قيل : وهي الحجج القطعية المفيدة لليقين ، وقيل : القرآن ، وقيل : النبوة .

{ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } ، وهي المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي يستحسنها السامع وتكون في نفسها حسنة ؛ باعتبار انتفاع السامع بها ، قيل : هي الحجج الظنية الاقناعية الموجبة للتصديق بمقدمات مقبولة ، قيل : وليس للدعوة إلا هاتان الطريقتان .

ولكن الداعي قد يحتاج مع الخصم الألد إلى استعمال المعارضة والمناقضة ونحو ذلك من الجدل ولهذا قال سبحانه : { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ، أي : بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف ، وإيثار الوجه الأيسر والمقدمات التي هي أشهر ، فإن ذلك أنفع في تسكين شرهم ، وهو رد على من يأبى المناظرة في الدين ، وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقا وغرضه صحيحا وكان خصمه مبطلا وغرضه فاسدا .

قيل : إن الناس خلقوا وجبلوا على ثلاثة أقسام :

الأول : هم العلماء وهم المشار إليهم بقوله : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } .

والثاني : هم أصحاب النظر السليم والخلقة الأصلية ، وهم غالب الناس وهم المشار إليهم بقوله : { والموعظة الحسنة } .

والثالث : هم أصحاب جدال وخصام ومعاندة ، وهم المشار إليهم بقوله : وجدالهم الخ ، وقال مجاهد في الآية : اعرض عن أذاهم إياك ولا تقصر في تبليغ الرسالة ، وعلى هذا فالآية منسوخة بآية السيف ، قال بعضهم لا حاجة إلى دعوى النسخ ؛ إذ الأمر بالمجادلة ليس فيه تعريض للنهي عن المقاتلة .

{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } ، لما حث سبحانه على الدعوة بالطرق المذكورة بين أن الرشد والهداية ليس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنما ذلك إلى الله تعالى وهو الأعلم بمن يضل .

{ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } ، أي : بمن يبصر الحق فيقصده غير متعنت ، وإنما شرع لك الدعوة وأمرك بها قطعا للمعذرة ، وتتميما للحجة وإزاحة للشبهة ، وليس عليك غير ذلك ، وفي إيثار الفعلية في الضالين ، والاسمية في مقابليهم ، إلى أنهم غيروا الفطرة وبدلوها بإحداث الضلال ، ومقابلوهم استمروا عليه ، وتقديم أرباب الضلال ؛ لأن الكلام وارد فيهم .