نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ} (125)

ولما قدم سبحانه في هذه السورة حكاية كثير من استهزائهم بوعده ووعيده ، وتكذيبهم لرسله على أبشع وجه ، والتفتير عن حرقة الحرص عليهم ، المفضي إلى شدة التأسف على ضلالهم وغير ذلك مما ربما أيأس منهم فأقعد عن دعائهم ، وأتبعه ضرب الأمثال ، ونصب الجدال - على تلك المناهيج المعجزة بما يسبق من ظواهرها إلى الفهم عند قرع السمع من المعاني الجليلة ، والمقاصد الجميلة - لعامة الخلق ما يجل عن الوصف ، وإذا تأملها الخواص وجدوا فيها من دقائق الحقائق ، ومشارع الرقائق ، ومحكم الدلائل ، ومتقن المقاصد والوسائل ، ما يوضح - بتفاوت الأفهام وتباين الأفكار - أنه بحر لا ساحل له ولا قرار ، ولا منتهى لما تستخرج منه الأنظار ، وختم باتباع الأب الأعظم ، لما كان ذلك ، وأمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو السميع المطيع أن يستن بآثاره ، ويقتدى بإضماره وإظهاره ، فسر له تلك الملة التي أمره باتباعها فقال تعالى : { ادع } ، أي : كل من تمكن دعوته ، { إلى سبيل ربك } ، أي : المحسن إليك ، بتسهيل السبيل الذي تدعو إليه واتساعه ، وهو الإسلام الذي هو الملة الحنيفية ، { بالحكمة } ، وهي المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن والقبح والصلاح والفساد ، وقيل لها حكمة ؛ لأنها بمنزلة المانع من الفساد وما لا ينبغي أن يختار ، فالحكيم هو العالم بما يمنع من الفساد - قاله الرماني ، وهي في الحقيقة الحق الصريح ، فمن كان أهلاً له دعا به ، { والموعظة } ، بضرب الأمثال والوعد والوعيد مع خلط الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة . { الحسنة } ، أي : التي يسهل على كل فهم ظاهرها ، ويروق كل نحرير ما ضمنته سرائرها ، مع اللين في مقصودها وتأديتها هذا لمن لا يحتمل إلا ذلك ، { وجادلهم } ، أي : الذين يحتملون ذلك منهم افتلهم عن مذاهبهم الباطلة إلى مذهبك الحق بطريق الحجاج ، { بالتي هي أحسن } ، من الطرق بالترفق واللين والوقار والسكينة ، ولا تعرض عنهم يأساً منهم ، ولا تجازهم بسيء مقالهم وقبيح فعالهم صفحاً عنهم ورفقاً بهم ، فهو بيان لأصناف الدعوة بحسب عقول المدعوين ؛ لأن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بأن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم ، وقيل : الدعوة إن كانت لتقرير الدين وتثبيت الاعتقاد في قلوب أهله - وهي مع ذلك يقينية مطهرة عن احتمال نقيض - فهي الحكمة وهي لطالب الحق المذعن إن كان مستعداً للقبول بفكره الثاقب ، وإن كانت مقارنة لاحتمال النقيض مفيدة للظن والإقناع فهي الموعظة ، وهي للمذعن الذي لا استعداد له ، وإن كانت لإلزام الجاحدين وإفحام المعاندين فهي المجادلة ، فإن كانت مركبة من مقدمات مسلمة عند الجمهور أو عند الخصم فقط فهي الحسنة ، وإن كانت من مقدمات كاذبة غير مسلمة يراد ترويجها بالحيل الباطلة والطرق الفاسدة فهي السيئة التي لا تليق بمنصف ؛ ثم علل الملازمة لدعائهم على هذا الوجه بقوله تعالى : { إن ربك } ، أي : المحسن إليك بالتخفيف عنك ، { هو } ، أي : وحده ، { أعلم } ، أي : من كل من يتوهم فيه علم ، { بمن ضل عن سبيله } ، فكان في أدنى درجات الضلال - وهو أعلم بالضالين الراسخين في الجور عن الطريق - فلا انفكاك له عن الضلال ، وهو أعلم بمن اهتدى لسبيله فكان في أدنى درجات الهداية ، { وهو } ، أي : خاصة ، { أعلم بالمهتدين * } ، أي : الذين هم في النهاية منها ، فالآية من الاحتباك : ذكر أولاً " من ضل " ، دليلاً على حذف ضده ثانياً ، و { المهتدين } ، ثانياً دليلاً على حذف ضدهم أولاً .

وأما أنت فلا علم لك بشيء من ذلك إلا بإعلامنا ، وقد ألزمناك البلاغ المبين ، فلا تفتر عنه معرضاً عن الحرص المهلك واليأس فإنه ليس عليك هداهم .