{ و ْ } إذا كانت القيامة ف { لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ْ } بالكفر والمعاصي جميع { مَا فِي الْأَرْضِ ْ } من ذهب وفضة وغيرهما ، لتفتدي به من عذاب الله { لَافْتَدَتْ بِهِ ْ } ولما نفعها ذلك ، وإنما النفع والضر والثواب والعقاب ، على الأعمال الصالحة والسيئة .
{ وَأَسَرُّوا ْ } [ أي ] الذين ظلموا { النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ْ } ندموا على ما قدموا ، ولات حين مناص ، { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ْ } أي : العدل التام الذي لا ظلم ولا جور فيه بوجه من الوجوه .
ثم بين - سبحانه - أنهم لن يستطيعوا افتداء أنفسهم من العذاب عند وقوعه فقال - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا في الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ } .
أى : ولو أن لكل نفس تلبست بالظلم بسبب شركها وفسوقها ، جميع ما في الأرض من مال ومتاع ، وأمكنها أن تقدمه كفداء لها من العذاب يوم القيامة ، لقدمته سريعا دون أن تبقى منه شيئا حتى تفتدي ذاتها من العذاب المهين .
ومفعول { افتدت } محذوف . أي لافتدت نفسها به .
ولو هنا امتناعية ، أى : امتنع افتداء كل نفس ظالمة ، لامتناع ملكها لما تفدى به ذاها وهو جميع ما في الأرض من أموال ، ولامتناع قبول ذلك منها فيما لو ملكته على سبيل الفرض .
وقوله { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } والندامة والندم : ما يجده الإِنسان في نفسه من آلام وحسرات على أقوال أو أفعال سيئة ، فات أوان تداركها .
أى : وأخفى هؤلاء الظالمين الندامة حين رأوا بأبصارهم مقدمات العذاب ، وحين أيقنوا أنهم لا نجاة لهم منه ، ولا مصرف لهم عنه .
قال صاحب الكشاف : " قوله - سبحانه - { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ، ولم يخطر ببالهم ، وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه ، ما سلبهم قواهم ، وبهرهم ، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا ولا ما يفعله الجازع ، سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب ، كما ترى القدم للصلب يثخنه ما دهمه من فظاعة الخبط ويغلب ، حتى لا ينبس بكلمة ويبقى جامدا مبهوتا .
وقيل : أسر رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم ، حياء منهم وخوفا من توبيخهم . .
وقيل أسروا الندامة : أظهروها من قولهم أسر الشيء إذا أظهره وليس هناك تجلد " .
وقوله : { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } بيان لعدالة الله في أحكامه بين عباده .
أى : وقضى الله - تعالى - بين هؤلاء الضالمين وبين غيرهم بالعدل دون أن يظلم أحدا .
وبينما نحن معهم على هذه الأرض في استنباء وجواب . إذا نحن فجأة - مع السياق في نقلة من نقلات الأسلوب القرآني المصور - في ساحة الحساب والجزاء . مبدئياً على وجه الفرض والتقدير .
ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به . .
فلا يقبل منها حتى على فرض وجوده معها .
ولا تكتمل الآية حتى يكون الفرض قد وقع وقضي الأمر :
( وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ) . .
أخذتهم وهلة المفاجأة فسقط في أيديهم ، والتعبير يرسم للخيال صورة الكمد يظلل الوجوه ، دون أن تنطق الشفاه !
( وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ) . .
وانتهى المشهد الذي بدأ منذ نصف آية فرضاً وانتهى واقعاً ، على طريقة التصوير القرآني المؤثر المثير .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ أَنّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرّواْ النّدَامَةَ لَمّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولو أن لكلّ نفس كفرت بالله . وظُلْمُها في هذا الموضع : عبادتها غير من يستحقّ عبادة وتركها طاعة من يجب عليها طاعته . ما فِي الأرْضِ من قليل أو كثير ، لافْتدَتْ بهِ يقول : لافتدت بذلك كله من عذاب الله إذا عاينته . وقوله : وأسَرّوا النّدَامَةَ لَمّا رأَوُا العَذَابَ يقول : وأخفت رؤساء هؤلاء المشركين من وضعائهم وسفلتهم الندامة حين أبصروا عذاب الله قد أحاط بهم ، وأيقنوا أنه واقع بهم . وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ يقول : وقضىَ الله يؤمئذ بين الأتباع والرؤساء منهم بالعدل . وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وذلك أنه لا يعاقب أحدا منهم إلا بجريرته ولا يأخذه بذنب أحد ولا يعذّب إلا من قد أعذر إليه في الدنيا وأنذر وتابع عليه الحجج .
هذا إخبار للكفار في سياق إخبارهم بأن ذلك الوعد حق ، { وأسروا } لفظة تجيء بمعنى : أخفوا ، وهي حينئذ من السر ، وتجيء بمعنى أظهروا ، وهي حينئذ من أسارير الوجه{[6138]} ، قال الطبري : المعنى وأخفى رؤساء هؤلاء الكفار الندامة عن سفلتهم ووضعائهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لافتدت به} نفسها يوم القيامة من عذاب جهنم،
{وأسروا الندامة لما رأوا العذاب}، يعني حين رأوا العذاب،
{وقضي بينهم بالقسط} يعني بالعدل، وصاروا إلى جهنم بشركهم، وصار المؤمنون إلى الجنة بإيمانهم، {وهم لا يظلمون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولو أن لكلّ نفس كفرت بالله، وظُلْمُها في هذا الموضع: عبادتها غير من يستحقّ عبادة، وتركها طاعة من يجب عليها طاعته، "ما فِي الأرْضِ "من قليل أو كثير، "لافْتدَتْ بهِ" يقول: لافتدت بذلك كله من عذاب الله إذا عاينته. وقوله: "وأسَرّوا النّدَامَةَ لَمّا رأَوُا العَذَابَ" يقول: وأخفت رؤساء هؤلاء المشركين من وضعائهم وسفلتهم الندامة حين أبصروا عذاب الله قد أحاط بهم، وأيقنوا أنه واقع بهم. "وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقِسْطِ" يقول: وقضى الله يومئذ بين الأتباع والرؤساء منهم بالعدل.
"وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ" وذلك أنه لا يعاقب أحدا منهم إلا بجريرته، ولا يأخذه بذنب أحد، ولا يعذّب إلا من قد أعذر إليه في الدنيا وأنذر وتابع عليه الحجج.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ) يخبر عنهم أنهم يفدون، ويبذلون جميع ما في الأرض لو قدروا عليه عند نزول العذاب بهم لشدة العذاب، ولو كان الذي منعهم عن الإيمان هو حبهم الدنيا، وبخلهم عليها وما فيها بقوله: (ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) [يونس: 7].
وقوله تعالى: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ) الندامة لا تكون إلا سرارا بالقلب؛ فكأنه قال: حققوا الندامة في قلوبهم على ما كان منهم من التكذيب بالآيات والعناد في ردها.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لا يُقْبَلُ منهم عَدْلٌ ولا سَرَفٌ، ولا يحصل فيما سَبَقَ لهم من الوعيد خَلَفَ. ولا ندامة تنفعهم وإنْ صَدَقوها، ولا كرامة تنالهم وإنْ طلبوهَا، ولا ظُلْمَ يجري عليهم ولا حيف.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ولم يخطر ببالهم وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه ما سلبهم قواهم وبهرهم فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخاً ولا ما يفعله الجازع، سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب، كما ترى المقدّم للصلب يثخنه ما دهمه من فظاعة الخطب، ويغلب حتى لا ينبس بكلمة ويبقى جامداً مبهوتاً، وقيل: أسر رؤساؤهم الندامة من سفالتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم، وقيل أسروها: أخلصوها، إما لأن إخفاءها إخلاصها، وإما من قولهم: سرّ الشيء خالصه. وفيه تهكم بهم وبأخطائهم وقت إخلاص الندامة. وقيل: أسروا الندامة: أظهروها، من قولهم: أسر الشيء وأشره إذا أظهره. وليس هناك تجلد. {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} أي بين الظالمين والمظلومين، دلّ على ذلك ذكر الظلم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ} أي لو أن لكل نفس تلبست بهذا الظلم جميع ما في الأرض من أنواع الملك والزينة وصنوف النعيم، وأمكنها أن تفتدي به -أي تجعله فداء لها- من ذلك العذاب -الذي قيل لهم ذوقوه ينقذها منه بذلها له- لافتدت به كله لا تدخر منه شيئا.
{وأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ} إسرار الشيء: إخفاؤه وكتمانه، وإسرار الحديث والكلام خفض الصوت به، فهو ضد إعلانه والجهر به ومنه {وأسروا قولكم أو اجهروا به} [الملك: 13] {إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون} [الأنبياء: 110]، واستعمل بمعنى الجهر مطلقا فهو ضد، وأنكره بعضهم، والندم والندامة ما يجده الإنسان في نفسه من الألم والحسرة عقب كل فعل يظهر له ضرره، وقد يجهر به بالكلام كقوله:"يا حسرتا على ما فرطت"، أو بالتوبة والاستغفار، وقد يخفيه ويكتمه لعدم الفائدة من إعلانه، أو اتقاء للشماتة، أو الإهانة به، أي وأسر أولئك الذين ظلموا ندامتهم وحسرتهم فيما بينهم وبين ربهم، أو كتموها في قلوبهم.
{لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ} أي رأوا مباديه عيانا بأبصارهم لما برزت الجحيم وأيقنوا أنهم مواقعوها لا مصرف لهم عنها، وقد يعبر برؤيته عن وقوعه، والظاهر الأول لقوله: {وقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ} أي وقضى الله بينهم وبين خصومهم بالعدل والحق، فإذا أريد بالظلم الكفر والتكذيب ولا يلزمه من الإيذاء فخصومهم الرسل والمؤمنون بهم، وكذا من أضلوهم وظلموهم من المرؤوسين والضعفاء الذين كانوا يغرونهم بالكفر، ويصدونهم عن الإيمان، وهو ظاهر السياق هنا، وفي سورة سبأ بعد حكاية مجادلة الظالمين والمظلومين يوم القيامة {وأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 33]، وإن أريد بالظلم ما يعم ظلمهم للناس في الأحكام وهضم الحقوق كان كل مظلوم خصما لظالمه.
{وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} أي لا يظلمهم الله كما ظلموا أنفسهم وظلموا أتباعهم ومقلديهم، بل هم الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم. والآيات في ندم الظالمين يوم القيامة معروفة كقوله تعالى في آخر سورة النبأ: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ويَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ: 78] وقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا ويْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان: 27 28] وغير ذلك.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى أن هذا العذاب لا تتحمله أية نفس على تفاوت الأنفس في احتمال الآلام، ولذلك ذكر {كل نفس} دون أن يقال ولو أن لكم ما في الأرض لافتديتم به. ومعنى: {قضي بينهم} قضي فيهم، أي قضي على كل واحد منهم بما يستحقه بالعدل، فالقضاء بالعدل وقع فيهم، وليس المعنى أنه قضي بين كل واحد وآخر لأن القضاء هنا ليس قضاء نزاع ولكنه قضاء زجر وتأنيب، إذ ليس الكلام هنا إلا على المشركين وهم صنف واحد.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وتوكّد الآية الأُخرى على عظمة هذه العقوبة، وخاصّة في القيامة، فتقول: (ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به). في الواقع، إِنّ هؤلاء مستعدون لأن يدفعوا أكبر رشوة يمكن تصورها من أجل الخلاص من قبضة العذاب الإِلهي، لكن لا أحد يقبل من هؤلاء شيئاً، ولا ينقص من عذابهم مقدار رأس إبرة، خاصّة وأنّ لبعض هذه العقوبات صبغة معنوية، وهي أنّهم: يرون العذاب والفضيحة في مقابل أتباعهم ممّا يوجب لهم إظهار الندم مزيداً من الخزي والعذاب النفسي فلذلك يحاولون عدم إبراز الندم: (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب).
ثمّ توكّد الآية على أنّه بالرغم من كل ذلك، فإِنّ الحكم بين هؤلاء يجري بالعدل، ولا يظلم أحد منهم: (وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون). إِنّ هذه الجملة تأكيد على طريقة القرآن دائماً في مسألة العقوبة والعدالة، لأنّ تأكيدات الآية السابقة في عقاب المذنبين يمكن أن توجد لدى الأفراد الغافلين تَوَهُّمَ أَنَّ المسألة مسألة انتقام، ولذا فإِنّ القرآن يقول أوّلا إِنّ الحكم بين هؤلاء يجري بالقسط، ثمّ يؤكّد على أنّ أي أحد من هؤلاء سوف لا يظلم.