فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلَوۡ أَنَّ لِكُلِّ نَفۡسٖ ظَلَمَتۡ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ لَٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَۖ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (54)

ثم زاد في التأكيد فقال { ولو } امتناعية على ما هو الكثير فيها { أن لكل نفس } من الأنفس المتصفة بأنها { ظلمت } نفسها بالكفر بالله وعدم الإيمان به { ما في الأرض } من كل شيء من الأشياء التي تشتمل عليها من الأموال النفيسة والذخائر الفائقة { لافتدت به } أي جعلته فدية لها من العذاب يوم القيامة لا ينفعها الفداء ولا يقبل منها ، ومثله قوله تعالى { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به } .

ويجوز أن يكون الافتداء متعديا وأن يكون قاصرا فإذا كان مطاوعا لمتعد كان قاصرا تقول فديته فافتدى وإن لم يكن مطاوعا يكون بمعنى فدى فيتعدى لواحد ، والفعل يحتمل الوجهين فإن جعلناه متعديا فمفعوله محذوف تقديره لافتدت به نفسها وهو من المجاز كقوله تعالى { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } .

{ وأسروا الندامة } الضمير راجع إلى الكفار الذين سياق الكلام معهم ، وقيل راجع إلى الأنفس المدلول عليها بكل نفس وإن كان المراد خصوص الرؤساء منهم .

ومعنى أسروا أخفوا ، أي لم يظهروا الندامة على ترك الإيمان بل أخفوها لما قد شاهدوه في ذلك الموطن مما سلب عقولهم وذهب بتجلدهم ويمكن أنه بقي فيهم وهم على تلك الحالة عرق ينزعهم إلى العصبية التي كانوا عليها في الدنيا فأسروا الندامة لئلا يشمت بهم المؤمنون .

وقيل أسرها الرؤساء فيما بينهم دون أتباعهم خوفا من توبيخهم لهم لكونهم هم الذين أضلوهم وحالوا بينهم وبين الإسلام وقيل معنى أسروا أظهروا لأن أسر من الأضداد ومعنى الأول هو المشهور في اللغة وهو في الآية يحتمل الوجهين ، وقيل وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم لأن الندامة لا يمكن إظهارها .

وذكر المبرد في ذلك وجهين : الأول : أنها بدت في وجوههم أسرة الندامة وهي الانكسار واحدها سرار وجمعها أسارير والثاني : ما تقدم وقيل معنى أسروا الندامة أخلصوها لأن إخفاءها إخلاصها قيل إنه ماض على بابه قد وقع وقيل بل هو بمعنى المستقبل .

{ لما } ظرف بمعنى حين أي حين { رأوا العذاب } أي وقوع هذا منهم كان عند رؤية العذاب ومعاينته وأما بعد الدخول فيه فهم الذين قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا .

{ وقضى بينهم بالقسط } أي العدل مستأنفة وهو الظاهر أو معطوفة على رأوا أي قضى الله بين المؤمنين وبين الكافرين أو بين الرؤساء أو بين الظالمين من الكفار والمظلومين بالعدل ، وقيل معنى القضاء بينهم إنزال العقوبة عليهم { وهم لا يظلمون } أي لا يظلمهم الله فيما فعله بهم من العذاب الذي حل بهم فإنه بسبب ما كسبوا .