البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَلَوۡ أَنَّ لِكُلِّ نَفۡسٖ ظَلَمَتۡ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ لَٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَۖ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (54)

ولما ذكر العذاب وأقسم على حقيقته ، وأنهم لا يفلتون منه ، ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة .

وظلمت صفة لنفس .

والظلم هنا الشرك والكفر ، وافتدى يأتي مطاوعاً لفدى ، فلا يتعدى تقول : فديته فافتدى ، وبمعنى فدى فيتعدى ، وهنا يحتمل الوجهين .

وما في الأرض أي : ما كان لها في الدنيا من الخزائن والأموال والمنافع ، وأسروا من الأضداد تأتي بمعنى أظهر .

قال الفرزدق :

ولما رأى الحجاج جرد سيفه *** أسر الحروري الذي كان أظهرا

وقال آخر :

فأسررت الندامة يوم نادى *** برد جمال غاضرة المنادي

وتأتي بمعنى أخفى وهو المشهور فيها كقوله : { يعلم ما يسرون ما يعلنون } ويحتمل هنا الوجهين .

أما الإظهار فإنه ليس بيوم تصبر ولا تجلد ولا يقدر فيه الكافر على كتمان ما ناله ، ولأنّ حالة رؤية العذاب يتحسر الإنسان على اقترافه ما أوجبه ، ويظهر الندامة على ما فاته من الفوز ومن الخلاص من العذاب ، وقد قالوا : ربنا غلبت علينا شقوتنا وأما إخفاء الندامة فقيل : أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم ، وهذا فيه بعد ، لأنّ من عاين العذاب هو مشغول بما يقاسيه منه فكيف له فكر في الحياء وفي التوبيخ الوارد من السفلة .

وأيضاً وأسروا عائد على كل نفس ظلمت على المعنى ، وهو عام في الرؤساء والسفلة .

وقيل : إخفاء الندامة هو من كونهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحسبوه ولا خطر ببالهم ، ومعاينتهم ما أوهى قواهم فلم يطيقوا عند ذلك بكاء ولا صراخاً .

ولا ما يفعله الجازع سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب ، كما يعرض لمن يقدم للصلب لا يكاد ينبس بكملة ، ويبقى مبهوتاً جامداً .

وأما من قال : إن معنى قوله : وأسروا الندامة ، أخلصوا لله في تلك الندامة ، أو بدت بالندامة أسرة وجوههم أي : تكاسير جباههم ففيه بعد عن سياق الآية .

والظاهر أنّ قوله : وقضى بينهم بالقسط ، جملة أخبار مستأنفة ، وليست معطوفة على ما في حيز لما ، وأن الضمير في بينهم عائد على كل نفس ظلمت .

وقال الزمخشري : بين الظالمين والمظلومين دل على ذلك ذكر الظلم انتهى .

وقيل : يعود على المؤمن والكافر .

وقيل : على الرؤساء والأتباع .