قوله - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض } الآية .
أي : أشركت ما في الأرض ، { لاَفْتَدَتْ بِهِ } إلاَّ أنَّ ذلك يتعذر ؛ لأنه في القيامةِ لا يملك شيئاً ؛ لقوله - تعالى - : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } [ مريم : 95 ] وبتقدير : أن يملك خزائن الأرض لا يقبل منه الفداء ؛ لقوله - تعالى - : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 48 ] وقوله : " ظَلَمَتْ " في محل جرِّ صفةٍ ل " نَفْسٍ " أي : لكلِّ نفس ظالمة ، و " ما فِي الأرض " اسمُ " أنَّ " و " لكلِّ " هو الخبر .
قوله : { لاَفْتَدَتْ بِهِ } : " افتدى " يجوز أن يكون متعدياً ، وأن يكون قاصراً ، فإذا كان مطاوعاً ل " فَدَى " كان قاصراً ، تقول : فَدَيتُهُ فافْتَدَى ، ويكُون بمعنى : فَدَى " فيتعدَّى لواحدٍ ، والفعلُ هنا يحتملُ الوجهين : فإن جعلناه مُتعدِّياً ، فمفعوله محذوفٌ تقديره : لافتدت به نفسها ، وهو في المجاز ، كقوله : { كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [ النحل : 111 ] .
قوله : " وَأَسَرُّواْ " قيل : " أسرَّ " من الأضداد ، يستعمل بمعنى : أظهر ؛ كقول الفرزدق : [ الطويل ]
وَلَمَّا رَأَى الحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ *** أَسَرَّ الحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَضْمَرَا{[18489]}
فأسْررتُ النَّدامَةَ يَوْمَ نَادَى *** بِرَدِّ جمالِ غاضِرَةَ المُنَادِي{[18490]}
ويستعمل بمعنى : " أخْفَى " وهو المشهورُ في اللُّغةِ ، كقوله - تعالى - : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ البقرة : 77 ] . وهو في الآية يحتمل الوجهين ، وقيل إنَّه ماض على بابه قد وقع ، وقيل : بمعنى : المستقبل ؛ لأنَّها لمَّا كانت واجبة الوقوع جعل مستقبلها كالماضي ، وقد أبعد بعضهم ، فقال : { وَأَسَرُّواْ الندامة } أي : بدتْ بالنَّدامة أسِرَّةُ وجوههم ، أي : تكاسيرُ جباههم . قوله : " لَمَّا رَأَوُاْ " يجوزُ أن تكون حرفاً ، وجوابها محذوفٌ لدلالة ما تقدَّم عليه ، أو هو المتقدِّم عند من يرى تقديم جواب الشَّرطِ جائزاً ، ويجوز أن تكون بمعنى : " حين " والنَّاصبُ لها : " أسَرُّوا " .
إذا فسرنا الإسْرار بالإخفاء ففيه وجوهٌ :
الأول : أنهم لمَّا رَأوا العذابَ الشَّديد ، صارُوا مبهُوتين ، لم يطيقُوا بكاء ولا صراخاً سوى إسرار النَّدامة ، كمن يذهبُ به ليُصلب ، فإنَّه يبقى مبهُوتاً لا ينطق بكلمة .
الثاني : أنَّهم أسرُّوا النَّدامة من سفلتهم ، وأتباعهم ، حياء منهم ، وخوفاً من توبيخهم .
فإن قيل : إنَّ مهابة ذلك الوقت تمنع الإنسان من هذا التَّدبير ، فكيف أقدمُوا عليه ؟ .
فالجواب : أنَّ هذا الكتمان قبل الاحتراق ، فإذا احترقوا ، تركوا هذا الإخفاء وأظهروه ؛ لقوله - تعالى - : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } [ المؤمنون : 106 ] .
الثالث : أنَّهم أسرُّوا النَّدامة ؛ لأنَّهم أخلصُوا لله في تلك الندامة ، ومن أخلص في الدعاء أسرَّهُ ، وفيه تهكُّمٌ بهم وبإخلاصهم ، أي : أنَّهم إنَّما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته .
ومن فسَّر الإسرار بالإظهار ، فإنَّهم إنَّما أخفُوا النَّدامة على الكفر والفسق في الدُّنيا ؛ لأجْلِ حفظ الرِّياسة ، وفي القيامة يبطل هذا الغرض ؛ فوجب الإظهار .
قوله " وَقُضِيَ " يجوزُ أن يكون مستأنفاً ، وهو الظاهر ، ويجوز أن يكون معطوفاً على " رَأوْا " فيكون داخلاً في حيَّز " لمَّا " والضَّميرُ في " بينهُم " يعودُ على " كُلِّ نفسٍ " في المعنى ، وقال الزمخشري : " بين الظَّالمين والمظلومين ، دلَّ على ذلك ذكرُ الظُّلْمِ " .
وقيل : يعود على الرؤساء والأتباع ، و " بِالقِسْطِ " يجوز أن تكون الباءُ للمصاحبةِ ، وأن تكون للآلة ، وقوله : " وإليه تُرْجعُون " قدَّم الجارَّ للاختصاص ، أي : إليه لا إلى غيره ترجعُون ؛ ولأجْل الفواصل ، وقرأ العامَّةُ : " تُرجعُون " بالخطاب ، وقرأ الحسن ، وعيسى بن عمر{[18491]} : " يُرْجعُون " بياء الغيبة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.