اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَوۡ أَنَّ لِكُلِّ نَفۡسٖ ظَلَمَتۡ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ لَٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَۖ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (54)

قوله - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض } الآية .

أي : أشركت ما في الأرض ، { لاَفْتَدَتْ بِهِ } إلاَّ أنَّ ذلك يتعذر ؛ لأنه في القيامةِ لا يملك شيئاً ؛ لقوله - تعالى - : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } [ مريم : 95 ] وبتقدير : أن يملك خزائن الأرض لا يقبل منه الفداء ؛ لقوله - تعالى - : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [ البقرة : 48 ] وقوله : " ظَلَمَتْ " في محل جرِّ صفةٍ ل " نَفْسٍ " أي : لكلِّ نفس ظالمة ، و " ما فِي الأرض " اسمُ " أنَّ " و " لكلِّ " هو الخبر .

قوله : { لاَفْتَدَتْ بِهِ } : " افتدى " يجوز أن يكون متعدياً ، وأن يكون قاصراً ، فإذا كان مطاوعاً ل " فَدَى " كان قاصراً ، تقول : فَدَيتُهُ فافْتَدَى ، ويكُون بمعنى : فَدَى " فيتعدَّى لواحدٍ ، والفعلُ هنا يحتملُ الوجهين : فإن جعلناه مُتعدِّياً ، فمفعوله محذوفٌ تقديره : لافتدت به نفسها ، وهو في المجاز ، كقوله : { كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [ النحل : 111 ] .

قوله : " وَأَسَرُّواْ " قيل : " أسرَّ " من الأضداد ، يستعمل بمعنى : أظهر ؛ كقول الفرزدق : [ الطويل ]

وَلَمَّا رَأَى الحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ *** أَسَرَّ الحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَضْمَرَا{[18489]}

وقول الآخر : [ الوافر ]

فأسْررتُ النَّدامَةَ يَوْمَ نَادَى *** بِرَدِّ جمالِ غاضِرَةَ المُنَادِي{[18490]}

ويستعمل بمعنى : " أخْفَى " وهو المشهورُ في اللُّغةِ ، كقوله - تعالى - : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ البقرة : 77 ] . وهو في الآية يحتمل الوجهين ، وقيل إنَّه ماض على بابه قد وقع ، وقيل : بمعنى : المستقبل ؛ لأنَّها لمَّا كانت واجبة الوقوع جعل مستقبلها كالماضي ، وقد أبعد بعضهم ، فقال : { وَأَسَرُّواْ الندامة } أي : بدتْ بالنَّدامة أسِرَّةُ وجوههم ، أي : تكاسيرُ جباههم . قوله : " لَمَّا رَأَوُاْ " يجوزُ أن تكون حرفاً ، وجوابها محذوفٌ لدلالة ما تقدَّم عليه ، أو هو المتقدِّم عند من يرى تقديم جواب الشَّرطِ جائزاً ، ويجوز أن تكون بمعنى : " حين " والنَّاصبُ لها : " أسَرُّوا " .

فصل

إذا فسرنا الإسْرار بالإخفاء ففيه وجوهٌ :

الأول : أنهم لمَّا رَأوا العذابَ الشَّديد ، صارُوا مبهُوتين ، لم يطيقُوا بكاء ولا صراخاً سوى إسرار النَّدامة ، كمن يذهبُ به ليُصلب ، فإنَّه يبقى مبهُوتاً لا ينطق بكلمة .

الثاني : أنَّهم أسرُّوا النَّدامة من سفلتهم ، وأتباعهم ، حياء منهم ، وخوفاً من توبيخهم .

فإن قيل : إنَّ مهابة ذلك الوقت تمنع الإنسان من هذا التَّدبير ، فكيف أقدمُوا عليه ؟ .

فالجواب : أنَّ هذا الكتمان قبل الاحتراق ، فإذا احترقوا ، تركوا هذا الإخفاء وأظهروه ؛ لقوله - تعالى - : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } [ المؤمنون : 106 ] .

الثالث : أنَّهم أسرُّوا النَّدامة ؛ لأنَّهم أخلصُوا لله في تلك الندامة ، ومن أخلص في الدعاء أسرَّهُ ، وفيه تهكُّمٌ بهم وبإخلاصهم ، أي : أنَّهم إنَّما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته .

ومن فسَّر الإسرار بالإظهار ، فإنَّهم إنَّما أخفُوا النَّدامة على الكفر والفسق في الدُّنيا ؛ لأجْلِ حفظ الرِّياسة ، وفي القيامة يبطل هذا الغرض ؛ فوجب الإظهار .

قوله " وَقُضِيَ " يجوزُ أن يكون مستأنفاً ، وهو الظاهر ، ويجوز أن يكون معطوفاً على " رَأوْا " فيكون داخلاً في حيَّز " لمَّا " والضَّميرُ في " بينهُم " يعودُ على " كُلِّ نفسٍ " في المعنى ، وقال الزمخشري : " بين الظَّالمين والمظلومين ، دلَّ على ذلك ذكرُ الظُّلْمِ " .

وقيل : يعود على الرؤساء والأتباع ، و " بِالقِسْطِ " يجوز أن تكون الباءُ للمصاحبةِ ، وأن تكون للآلة ، وقوله : " وإليه تُرْجعُون " قدَّم الجارَّ للاختصاص ، أي : إليه لا إلى غيره ترجعُون ؛ ولأجْل الفواصل ، وقرأ العامَّةُ : " تُرجعُون " بالخطاب ، وقرأ الحسن ، وعيسى بن عمر{[18491]} : " يُرْجعُون " بياء الغيبة .


[18489]:البيت ليس في ديوان الفرزدق. ينظر: البحر المحيط 5/167 واللسان (سرر) والأضداد للأصمعي، والأضداد للأنباري 37 وزاد المسير 4/39 وشرح القصائد الجاهليات 49 والدر المصون 4/43.
[18490]:البيت لكثير عزة. ينظر: ديوانه (221) والبحر المحيط 5/167 والقرطبي 8/225 والدر المصون 4/43.
[18491]:ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/116، المحرر الوجيز 3/125، البحر المحيط 5/168، الدر المصون 4/44.