السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَوۡ أَنَّ لِكُلِّ نَفۡسٖ ظَلَمَتۡ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ لَٱفۡتَدَتۡ بِهِۦۗ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَۖ وَقُضِيَ بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (54)

{ ولو أنّ لكل نفس ظلمت } أي : أشركت { ما في الأرض } من الأموال { لافتدت به } من عذاب يوم القيامة ولم ينفعها الفداء لقوله تعالى { ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون } [ البقرة ، 48 ] . { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } أي : حين عاينوه وأبصروه صاروا مبهوتين متحيرين فلم يطيقوا عنده بكاءً ولا صراخاً سوى إسرار الندم كالحال فيمن ذهب به ليصلب ؛ فإنه يبقى مبهوتاً متحيراً لا ينطق بكلمة . وقيل : إنهم أخلصوا لله في تلك الندامة ، ومن أخلص في الدعاء أسره ، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم ؛ لأنهم إنما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته ، بل كان من الواجب عليهم أن يأتوا به في دار الدنيا وقت التكليف ، وقيل : المراد بالإسرار الإظهار ، وهو من الأضداد ؛ لأنهم إنما أخفوا الندامة على الكفر والفسق في الدنيا لأجل حفظ الرياسة ، وفي القيامة بطل هذا فوجب الإظهار وليس هناك تخلد . فإن قيل : أسرّوا جاء على لفظ الماضي والقيامة من الأمور المستقبلة أجيب : بأنها لما كانت واجبة الوقوع جعل الله مستقبلها كالماضي . { وقضي بينهم } أي : بين الخلائق { بالقسط } أي : بالعدل { وهم لا يظلمون } .

فإن قيل : هذه الآية مكرّرة ؟ أجيب : بأنّ الأولى في القضاء بين الأنبياء وتكذيبهم وهذه عامّة . وقيل : بين المؤمنين والكفار . وقيل : بين الرؤساء والأتباع ، فإنّ الكفار وإن اشتركوا في العذاب فلا بدّ أن يقضي الله تعالى بينهم ؛ لأنه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضاً في الدنيا وخانه ، فيكون في ذلك القضاء تخفيف عذاب بعضهم وتثقيل لعذاب الباقين ؛ لأنّ العدل يقتضي أن ينصف المظلومين من الظالمين ، ولا سبيل إليه إلا أن يخفف من عذاب المظلومين ، ويثقل في عذاب الظالمين .