ثم صور - سبحانه - حالتهم عندما يبشرون بولادة الأنثى ، وحكى عاداتهم الجاهلية المنكرة ، فقال - تعالى - : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ . . } .
قال الآلوسى : " قوله { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى . . } ، أي : أخبر بولادتها . وأصل البشارة الإِخبار بما يسر . لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوءهم ، حملت على مطلق الإِخبار . وجوز أن يكون ذلك بشارة ، باعتبار الولادة ، بقطع النظر عن كونها أنثى . . " .
وقوله : { كظيم } ، من الكظم ، بمعنى الحبس . يقال : كظم فلان غيظه ، إذا حبسه ، وهو ممتلئ به ، وفعله من باب ضر .
والمعنى : وإذا أخبر أحد هؤلاء الذين يجعلون لله البنات ، بولادة الأنثى دون الذكر ، صار وجهه مسودا كئيبا كأن عليه غبرة ، ترهقه قترة - أي تعلوه ظلمه وسواد - ، وصار جسده ممتلئا بالحزن المكتوم ، والغيظ المحبوس ، وأصبح يتوارى ، ويتخفى عن أعين الناس ، خجلا وحياء ، من أجل أن زوجته ولدت له أنثى ، ولم تلد له ذكرا .
وقوله - سبحانه - : { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب } ، تصوير بليغ لموقف ذلك المشرك مما بشر به ، وهو ولادة الأنثى .
فالضمير المنصوب في قوله : " أيمسكه ، ويدسه " ، يعود على المبشر به ، وهو الأنثى .
ويدسه : من الدس ، بمعنى : الإِخفاء للشيء في غيره . والمراد به . دفن الأنثى حية في التراب حتى تموت ، وهو المشار إليه في قوله - تعالى - : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } أي : أن هذا المشرك بعد أن يبشر بولادة الأنثى ، يدور بذهنه أحد أمرين : إما أن يمسكها ويبقيها على هوان وذل ، وإما أن يدسها ويخفيها في التراب ، بأن يدفنها فيه وهي حية ، حتى تموت .
والجار والمجرور في قوله : { على هون } ، يصح أن يكون حالا من الفاعل ، وهو المشرك : أي : أيمسك المبشر به مع رضاه - أي المشرك - بهوان نفسه وذلتها بسبب هذا الإِمساك .
ويصح أن يكون حالا من المفعول ، وهو الضمير المنصوب . أي أيمسك هذه الأنثى ويبقيها بقاء ذلة وهوان لها ، بحيث لا يورثها شيئا من ماله ، ولا يعاملها معاملة حسنة .
ومن بلاغة القرآن أنه عبر بقوله ؛ { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ } ، ليشمل حالة المشرك ، وحالة المبشر به وهو الأنثى .
وقوله - تعالى - : { أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ، ذم لهم على صنيعهم السيئ ، وعلى جهلهم الفاضح .
أي : بئس الحكم حكمهم ، وبئس الفعل فعلهم ، حيث نسبوا البنات إلى الله - تعالى - ، وظلموهن ظلما شنيعا ، حيث كرهوا وجودهن ، وأقدموا على قتلهن بدون ذنب أو ما يشبه الذنب .
وصدر - سبحانه - هذا الحكم العادل عليهم بحرف " ألا " الاستفتاحية : لتأكيد هذا الحكم ، ولتحقيق أن ما أقدموا عليه ، إنما هو جور عظيم ، قد تمالئوا عليه ، بسبب جهلهم الفاضح ، وتفكيرهم السيئ .
أسند - سبحانه - الحكم إلى جميعهم ، مع أن من فعل ذلك كان بعضا منهم ، لأن ترك هذا البعض يفعل ذلك الفعل القبيح ، هذا الترك هو في ذاته جريمة ، يستحق عليها جميع العقوبة ، لأن سكوتهم على هذا الفعل مع قدرتهم على منعه ، يعتبر رضا به .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مّا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاُنْثَىَ ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ومن جهل هؤلاء المشركين ، وخُبث فعلهم ، وقبح فِرْيتهم على ربهم ، أنهم يجعلون لمن خلقهم ودبّرهم وأنعم عليهم ، فاستوجب بنعمه عليهم الشكر ، واستحقّ عليهم الحمد ، البَنَاتِ ، ولا ينبغي أن يكون لله ولد ذكر ولا أنثى سبحانه ، نزّه جلّ جلاله بذلك نفسه عما أضافوا إليه ونسبوه من البنات ، فلم يرضوا بجهلهم ، إذ أضافوا إليه ما لا ينبغي إضافته إليه . ولا ينبغي أن يكون له من الولد ، أن يضيفوا إليه ما يشتهونه لأنفسهم ويحبونه لها ، ولكنهم أضافوا إليه ما يكرهونه لأنفسهم ، ولا يرضونه لها من البنات ما يقتلونها إذا كانت لهم . وفي «ما » التي في قوله : " ولَهُمْ ما يَشْتَهُونَ " ، وجهان من العربية : النصب عطفا لها على «البنات » ، فيكون معنى الكلام إذا أريد ذلك : ويجعلون لله البنات ولهم البنين الذين يشتهون ، فتكون «ما » للبنين ، والرفع على أن الكلام مبتدأ من قوله : " ولَهُمْ ما يَشْتَهُونَ " فيكون معنى الكلام : ويجعلون لله البنات ولهم البنون .
وقوله : { وَإذَا بُشّرَ أحَدُهُمْ بالأُنْثَى ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا } ، يقول : وإذا بشر أحد هؤلاء الذين جعلوا لله البنات ، بولادة ما يضيفه إليه من ذلك له ، ظلّ وجهه مسودّا من كراهته له ، وَهُوَ كَظِيمٌ ، يقول : قد كَظَم الحزنَ ، وامتلأ غمّا بولادته له ، فهو لا يظهر ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { ويَجْعَلُونَ لِلّهِ البَناتِ سُبْحانَهُ ولَهُمْ ما يَشْتَهُونَ } ، ثم قال : { وَإذَا بُشّرَ أحَدُهُمْ بالأُنثَى ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ . . . إلى آخر الاَية ، يقول : يجعلون لله البنات ، ترضونهنّ لي ولا ترضونهنّ لأنفسكم ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا وُلد للرجل منهم جارية أمسكها على هون ، أو دسها في التراب وهي حية .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذَا بُشّرَ أحَدهُمْ بالأُنْثى ظَلّ وَجْهَهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ وهذا صنيع مشركي العرب ، أخبرهم الله تعالى ذكره بخبث صنيعهم فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له ، وقضاء الله خير من قضاء المرء لنفسه ، ولعمري ما يدري أنه خير ، لرُبّ جارية خير لأهلها من غلام . وإنما أخبركم الله بصنيعهم لتجتنبوه وتنتهوا عنه ، وكان أحدهم يغذو كلبه ويئد ابنته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَهُوَ كَظِيمٌ قال : حزين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : وَهُوَ كَظِيمٌ قال : الكظيم : الكميد .
وقوله : { وإذا بشر } ، لما صرح بالشيء المبشر به ، حسن ذكر البشارة فيه ، وإلا فالبشارة مطلقة لا تكون إلا في خير ، وقوله : { ظل وجهه مسوداً } ، عبارة عن العبوس والتقطيب الذي يلحق المغموم ، وقد يعلو وجه المغموم سواد وربدة ، وتذهب شراقته ، فلذلك يذكر له السواد ، و { كظيم } بمعنى كاظم ، كعليم وعالم ، والمعنى : أنه يخفي وجده وهمه بالأنثى .