هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم على وجه العناد والاقتراح ، وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو تكذيبهم . وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل ، وهذا غاية الظلم منهم والجهل ، فإن الرسول بشر عبد مدبر ، ليس في يده من الأمر شيء ، بل الأمر كله لله ، وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده كما قال تعالى عن الرسول ، لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم ، { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا }
وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو مفرقا ، مجرد دعوى لا دليل عليها ولا مناسبة ، بل ولا شبهة ، فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب نزل مفرقا فلا تؤمنوا به ولا تصدقوه ؟
بل نزول هذا القرآن مفرقا بحسب الأحوال مما يدل على عظمته واعتناء الله بمن أنزل عليه ، كما قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا }
فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم ، بل سبق لهم من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون أنهم آمنوا به . من سؤالهم له رؤية الله عيانا ، واتخاذهم العجل إلهًا يعبدونه ، من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم ما لم يره غيرهم .
ثم حكى - سبحانه - جانبا من الأسئلة المتعنتة التى كان اليهود يوجهونها إلى النبى صلى الله عليه وسلم ومن النعم التى أنعم - سبحانه - بها عليهم ومن المنكرات التى قالوها وفعلوها ، ومن العقوبات التى عاقبهم الله بها بسب ظلمهم وفسوقهم . . استمع إلى القرآن وهو يحكى كل ذلك فيقول : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب . . . أَجْراً عَظِيماً } .
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ( 153 ) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( 154 ) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( 155 ) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ( 156 ) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( 157 ) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 158 ) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ( 159 ) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ( 160 ) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 161 ) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ( 162 )
ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب } . . الخ ذكروا روايات منها : ما أخرجه ابن جرير عن محمد بن كعب القرطى قال : جاء أناس من اليهود إلى رسول الله فقالوا : يا محمد ، إن موسى جاء بالألواح من عند الله ، فأتنا أنت بالألواح من عند الله حتى نصدقك . فأنزل الله - تعالى - { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب } . إلى قوله { وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } وعن السدى : قالت اليهود : يا محمد ، إن كنت صادقا فأتنا بكتاب من السماء كما جاء به موسى .
وعن قتادة : أنهم سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا ، تأمر بتصديقه واتباعه .
والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة ، بدليل سياق الأيات الكريمة التى ذكرت أوصافا تنطبق عليهم ، وبدليل ما ذكرناه فى سبب نزول الآيات .
والمعنى يسألك اليهود يا محمد على سبيل التعنت والعناد ، أن تنزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا جملة كما جاء موسى لآبائهم بالتوراة مكتوبة فى الألواح جملة . أو يسألونك أن تنزل على رجال منهم بأعيانهم كتبا من السماء تأمرهم بتصديقك ، وسؤالهم هذا مقصدهم من ورائه التعنت والجحود ، ولو كانوا يريدون الإِيمان حقا لما وجهوا إليك هذه الأسئلة المتعنتة ؛ لأن الأدلة القاطعة قد قامت على صدقك .
وعبر بالمضارع فى قوله { يَسْأَلُكَ } لقصد استحضار حالتهم العجيبة فى هذا السؤال ، حتى لكأن السامع يراهم ، وللدلالة على تكرار أسئلتهم وتجددها المرة تلو الأخرى بدون حياء أو خجل .
وقوله : { فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً } بيان للون من رذائلهم وقبائحهم ، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما لحقه منهم من أذى وسوء أدب .
والفاء فى قوله { فَقَدْ سَأَلُواْ } معطوفة على جملة محذوفة والتقدير : لا تبتئس يا محمد من أقوال هؤلاء اليهود ، ولا تهتهم بأسئلتهم ، فتلك سنشنة قديمة معروفة عن آبائهم ، فقد سأل آباؤهم موسى أسئلة أكبر من ذلك فقالوا له : أرنا الله جهرة أى رؤية ظاهرة بحيث نعاينه ونشاهده بأبصارنا ويطلب إلينا الإِيمان بك . ويصح أن تكون الفاء واقعة فى جواب شرط مقدر ، وإليه أشار صاحب الكشاف بقوله : { فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك } ، جواب لشرط مقدر معناه ( إن استكبرت ما سألوك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ) وإنما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم فى أيام مموسى وهم النقباء السبعون لأنهم كانوا على مذهبهم ، وراضين بسؤالهم . ومضاهين لهم فى التعنت .
أى : أن حاضر هؤلاء اليهود الذين يعيشون معك يا محمد كماضى آبائهم الأقدمين ، وأخلاق الأبناء صورة من أخلاق الآباء ، وجميعهم لا يبغون من سؤالهم الاهتداء إلى الحق وإنما يبغون إعنات الرسل - عليهم الصلاة والسلام - والإِساءة إليهم .
والفاء فى قوله : { فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً } تفسيرية كما فى قولهم : توضأ فغسل وجهه . إذا أظهر ماءها . وجهر الشئ : كشفه ، وجهر الرجل : رآه بلا حجاب .
أى : أرنا الله جهارا عيانا بحاسة البصر فيكون قوله { جَهْرَةً } مفعولا مطلقا ، لأن لفظ { جَهْرَةً } نوع من مطلق الرؤية فيلاقى عامله فى الفعل .
ويصح أن يكون حالا من المفعول الأول أى : أرنا الله مجاهررين معاينين وقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ } بيان للعقوبة التى حلت بهم نتيجة سوء أدبهم وجرأتهم على خالقهم وعلى أنبيائهم .
والصاعقة - كما يقول ابن جرير - : كل أمر هائل رآه الرائى أو عاينه أو أصابه ، حتى يصير من هوله وعظيم شأنه إلى هلاك وعطب وذهاب عقل صوتا كان ذلك أو نارا أو زلزلة أو رجفة .
وقال الراغب : الصاعقة على ثلاثة أوجه : الموت كقوله : { فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } والعذاب كقوله : { أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } والنار كقوله : { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } وما ذكره - سبحانه إنما هى أشياء حاصلة من الصاعقة ؛ فإن الصاعقة هى الصوت الشديد فى الجو ، ثم يكون منه نار فقط ، أو عذاب ، أو موت ، وهى فى ذاتها شئ واحد . وهذه الأشياء تأثيرات منها .
ويبدو أن المراد بالصاعقة هنا : ذلك الصوت الشديد المجلجل المزلزل المصحوب بنار هائلة ، والذى كان من آثاره أن صعقوا : أى خروا مغشيا عليهم أو هلكوا ، بسبب ظلمهم وعنادهم وفسوقهم عن أمر الله .
وقوله : { ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً } بيان لنوع ثالث من جرائمهم ، ولمظهر من مظاهر رحمة الله بهم .
أى : أن هؤلاء الذين سألوا موسى رؤية الله جهرة ، أخذتهم الصاعقة عقوبة لهم على ظلمهم ، لم يرتدعوا ولم ينزجروا ، بل لجوا فى طغيانهم وضلالهم فاتخذوا العجل معبودا لهم من دون الله { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } أى من بعد ما جاءتهم الدلائل القاطعة على وحدانية الله وصدق أنبيائه .
وقوله : { فَعَفَوْنَا عَن ذلك } أى . عفونا من اتخاذهم العجل إلها بعد أن تابوا وأقلعوا عن عبادته ، لأن التوبة تجب ما قبلها .
وقوله . { وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً } أى . أعطينا موسى بفضلنا ومنتنا حججا بينات ومعجزات باهرات ، وقوة وقدرة على الانتصال على من خالفه و ( ثم ) فى قوله . { ثُمَّ اتخذوا العجل } للتراخى الرتبى ؛ لأن اتخاذهم العجل إلها أعظم جرما مما حكاه الله عنهم من جرائم قبل ذلك .
وقوله { مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } بيان لفرط ضلالهم وانطماس بصيرتهم ، لأنهم لم يبعدوا العجل عن جهالة ، وإنما عبدوه من بعد ما وصلت إلى أسماعهم وعقولهم الدلائلة الواضحة وعلى وحدانية الله ، وعلى أن عبادة العجل لا يقدم عليها إنسان فيه شئ من العقل وحسن الإِدراك .
واسم الإِشارة فى قوله { فَعَفَوْنَا عَن ذلك } يعود إلى اتخاذ العجل معبودا من دون الله .
والجملة الكريمة حض لليهود المعاصرين للعهد النبوى على الدخول فى الإِسلام فإنهم متى فعلوا ذلك غفر الله لهم ما سلف من ذنوبهم كما غفر لآبائهم بعد أن تابوا من عبادة العجل .
هذا ، وما حكته هذه الآية الكريمة من جرائم بنى إسرائيل بصورة مجملة قد جاء مفصلا فى مواطن أخرى ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
وبعد تركيز تلك القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي عن حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر ، فيما يتعلق بالرسل والرسالات . . يأخذ في استعراض بعض مواقف اليهود في هذا المجال ، وفي مجال الجهر بالسوء الذي بدى ء به هذاالدرس ، مندداً بموقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ، وتعنتهم في طلب الآيات والأمارات منه ، ويقرن بين موقفهم هذا وما كان لهم من مواقف مع نبيهم موسى - عليه السلام - ثم مع رسول الله من بعده عيسى - عليه السلام - وأمه مريم ، فإذا هم جبلة واحدة في أجيالهم المتتابعة . . والسياق يوحد بين الجيل الذي يواجه الرسول صلى الله عليه وسلم ، والجيل الذي واجه عيسى عليه السلام . . والجيل الذي واجه موسى كذلك من قبل ، ليؤكد هذا المعنى ، ويكشف عن هذه الجبلة :
{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء . . فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ، فقالوا : أرنا الله جهرة ! فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ، ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات ؛ فعفونا عن ذلك ، وآتينا موسى سلطاناً مبيناً . ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجداً ؛ وقلنا لهم لا تعدوا في السبت ؛ وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً . فبما نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وقولهم : قلوبنا غلف - بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً - وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً . وقولهم : إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله ! وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ؛ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ، ما لهم به من علم ، إلا اتباع الظن ، وما قتلوه يقيناً . بل رفعه الله إليه ، وكان الله عزيزا حكيماً . وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً - فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ، وبصدهم عن سبيل الله كثيراً ، وأخذهم الربا - وقد نهوا عنه - وأكلهم أموال الناس بالباطل ، وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً } .
لقد وقف اليهود في الجزيرة من الإسلام ونبي الإسلام ذلك الموقف العدائي المتعنت المكشوف ، وكادوا له ذلك الكيد المبيت المستمر العنيد ، الذي وصفه القرآن تفصيلاً ، واستعرضنا ألواناً منه في سورتي البقرة وآل عمران ، وفي هذه السورة كذلك من قبل - في الجزء الخامس - وهذا الذي تقصه الآيات هنا لون آخر .
إنهم يتعنتون فيطلبون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بكتاب من السماء . . كتاب مخطوط ينزله عليهم من السماء مجسماً يلمسونه بأيديهم :
{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } :
ويتولى الله - سبحانه - الإجابة عن نبيه . ويقص عليه وعلى الجماعة المسلمة - في مواجهة اليهود - صفحة من تاريخهم مع نبيهم وقائدهم ومنقذهم موسى - عليه السلام - الذي يزعمون أنهم يؤمنون به ؛ ويرفضون التصديق بعيسى من بعده وبمحمد !
إن هذه الجبلة ليست جديدة عليهم ؛ وليست طابع هذا الجيل وحده منهم ، إنما هي جبلتهم من قديم .
إنهم هم هم من عهد موسى - نبيهم وقائدهم ومنقذهم - إنهم هم هم غلظ حس فلا يدركون إلا المحسوسات . . وهم هم تعنتاً وإعناتاً فلا يسلمون إلا تحت القهر والضغط . . وهم هم كفراً وغدراً فسرعان ما ينقلبون فينقضون عهدهم - لا مع الناس وحدهم ولكن مع ربهم كذلك - وهم هم قحة وافتراء ؛ فلا يعنيهم أن يتثبتوا من قول ؛ ولا يتورعون كذلك عن الجهر بالنكر . . وهم هم طمعاً في عرض الدنيا ؛ وأكلاً لأموال الناس بالباطل ؛ وإعراضاً عن أمر الله وعما عنده من ثواب . .
إنها حملة تفضحهم وتكشفهم ؛ وتدل قوتها وتنوع اتجاهاتها ، على ما كان يقتضيه الموقف لمواجهة خبث الكيد اليهودي للإسلام ونبي الإسلام في ذلك الأوان . . وهو هو خبث الكيد الذي ما يزالون يزاولونه ضد هذا الدين وأهله حتى الآن .
( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ) . . .
فلا عليك من هذا التعنت ؛ ولا غرابة فيه ولا عجب منه :
( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا : أرنا الله جهرة ) .
ولم تبلغ الآيات البينات التي أظهرها الله لهم على يد موسى نبيهم أن تلمس حسهم ؛ وتوقظ وجدانهم وتقود قلوبهم إلى الطمأنينة والاستسلام ؛ فإذا هم يطلبون رؤية الله - سبحانه - عيانا ! وهو مطلب طابعة التبجح الذي لا يصدر عن طبع خالطته بشاشة الإيمان ؛ أو فيه استعداد للإيمان .
( فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ) . .
ولكن الله - سبحانه - عفا عنهم ؛ وتقبل فيهم دعاء موسى عليه السلام وضراعته إلى ربه ؛ كما ورد في السورة الأخرى ( فلما أخذتهم الرجفة ، قال : رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي . أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ؟ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء . أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين . واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة . إنا هدنا إليك . . . ) .
( ثم اتخذوا العجل - من بعد ما جاءتهم البينات - ) .
عجل الذهب ، الذي صاغه لهم السامري ، مما كانوا قد أخذوه - حيلة - من نساء المصريين وهم خارجون من مصر - فإذا هم يعكفون عليه ؛ ويتخذونه إلها في غيبة موسى عنهم في مناجاة ربه ، في الموعد الذي حدده له ، لينزل عليه الألواح فيها هدى ونور .
ولكن اليهود هم اليهود . لا يفلح معهم إلا القهر والخوف :
( وآتينا موسى سلطانا مبينا ) .
والسلطان الذي آتاه الله موسى هو - في الغالب - الشريعة التي تضمنتها الألواح ، فشريعة الله سلطان من الله ؛ وكل شريعة غير شريعة الله ما أنزل الله بها من سلطان ؛ وما جعل فيها من سطوة على القلوب . لذلك تستهين القلوب بالشرائع والقوانين التي يسنها البشر لأنفسهم ، ولا تنفذها إلا تحت عين الرقيب وسيف الجلاد . فأما شريعة الله فالقلوب تخضع لها وتخنع ؛ ولها في النفس مهابة وخشية . .
{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىَ أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوَاْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمّ اتّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَىَ سُلْطَاناً مّبِيناً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : يَسْئَلكَ يا محمد أهْلُ الكِتابِ يعني بذلك : أهل التوراة من اليهود ، أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ .
واختلف أهل التأويل في الكتاب الذي سأل اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم من السماء ، فقال بعضهم : سألوه أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا ، كما جاء موسى بني إسرائيل بالتوراة مكتوبة من عند الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ قالت اليهود : إن كنت صادقا أنك رسول الله ، فأتنا كتابا مكتوبا من السماء كما جاء به موسى .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن موسى جاء بالألواح من عند الله ، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدّقك فأنزل الله : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ . . . إلى قوله : وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتانا عَظِيما .
وقال آخرون : بل سألوه أن ينزّل عليهم كتابا خاصة لهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ أي كتابا خاصة فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقالُوا أرِنا اللّهَ جَهْرَةً .
وقال آخرون : بل سألوه أن ينزّل على رجال منهم بأعيانهم كتبا بالأمر بتصديقه واتباعه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ وذلك أن اليهود والنصارى أتوُا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لن نتابعك على ما تدعونا إليه ، حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنك رسول الله ، وإلى فلان بكتاب أنك رسول الله قال الله جلّ ثناؤه : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنَ ذَلِكَ فقالُوا أرِنا الله جَهْرَةً .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن أهل التوراة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه أن ينزّل عليهم كتابا من السماء آية ، معجزة جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها ، شاهدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق ، آمرة لهم باتباعه . وجائز أن يكون الذي سألوه من ذلك كتابا مكتوبا ينزل عليهم من السماء إلى جماعتهم ، وجائز أن يكون ذلك كتبا إلى أشخاص بأعينهم . بل الذي هو أولى بظاهر التلاوة أن تكون مسألتهم إياه ذلك كانت مسألة لينزل الكتاب الواحد إلى جماعتهم لذكر الله تعالى في خبره عنهم الكتاب بلفظ الواحد ، بقوله : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ ولم يقل : «كتبا » .
وأما قوله : فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فإنه توبيخ من الله جلّ ثناؤه سائلي الكتاب الذي سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزّله عليهم من السماء في مسألتهم إياه ذلك ، وتقريع منه لهم . يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد لا يعظمنّ عليك مسألتهم ذلك ، فإنهم من جهلهم بالله وجراءتهم عليه واغترارهم بحلمه ، لو أنزلتُ عليهم الكتاب الذي سألوك أن تنزله عليهم ، لخالفوا أمر الله كما خالفوه بعد إحياء الله أوائلهم من صَعْقتهم ، فعبدوا العجل ، واتخذوه إلها يعبدونه من دون خالقهم وبارئهم الذي أراهم من قدرته وعظيم سلطانه ما أراهم لأنهم لن يعدوا أن يكونوا كأوائلهم وأسلافلهم . ثم قصّ الله من قصتهم وقصة موسى ما قصّ ، يقول الله : فَقَدْ سألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ يعني : فقد سأل أسلاف هؤلاء اليهود وأوائلهم موسى عليه السلام أعظم مما سألوك من تنزيل كتاب عليهم من السماء فقالوا له أرِنا اللّهَ جَهْرَةً : أي عيانا نعاينه وننظر إليه . وقد أتينا على معنى الجهرة بما في ذلك من الرواية والشواهد على صحة ما قلنا في معناه فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقد ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في ذلك بما :
حدثني به الحرث ، قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون بن موسى ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن معاوية ، عن ابن عباس في هذه الاَية ، قال : إنهم إذا رأوه فقد رأوه ، إنما قالوا : جَهْرَةً أرِنا اللّهَ قال : هو مقدّم ومؤخّر .
وكان ابن عباس يتأوّل ذلك أن سؤالهم موسى كان جهرة .
وأما قوله : فَأخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ فإنه يقول : فصعقوا بظلمهم أنفسهم ، وظلمهم أنفسهم كان مسألتهم موسى أن يريهم ربهم جهرة ، لأن ذلك مما لم يكن لهم مسألته . وقد بيّنا معنى الصاعقة فيما مضى باختلاف المختلفين في تأويلها والدليل على أولى ما قيل فيها بالصواب .
وأما قوله : ثُمّ اتّخَذُوا العِجْلَ فإنه يعني : ثم اتخذ هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوه من رؤية ربهم جهرة ، بعد ما أحياهم الله ، فبعثهم من صعقتهم ، العِجْلَ الذي كان السامريّ نبذ فيه ما نبذ من القبضة التي قبضها من أثر فرس جبريل عليه السلام ، إلها يعبدونه من دون الله . وقد أتينا على ذكر السبَب الذي من أجله اتخذوا العجل وكيف كان أمرهم وأمره فيما مضى بما فيه الكفاية .
وقوله : مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ يعني : من بعد ما جاءت هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوا البيناتُ من الله ، والدلالاتُ الواضحات بأنهم لن يروا الله عيانا جهارا . وإنما عنى بالبينات : أنها آيات تبين عن أنهم لن يروا الله في أيام حياتهم في الدنيا جهرة ، وكانت تلك الاَيات البينات لهم على أن ذلك كذلك ، إصعاق الله إياهم عند مسألتهم موسى أن يريهم ربه جهرة ، ثم إحياءه إياهم بعد مماتهم مع سائر الاَيات التي أراهم الله دلالة على ذلك . يقول الله مقبحا إليهم فعلَهم ذلك وموضحا لعباده جهلهم ونقصَ عقولهم وأحلامهم : ثم أقرّوا للعجل بأنه لهم إله ، وهم يرونه عيانا وينظرون إليه جهارا ، بعد ما أراهم ربهم من الاَيات البينات ما أراهم ، أنهم لا يرون ربهم جهرة وعيانا في حياتهم الدنيا ، فعكفوا على عبادته مصدّقين بألوهته .
وقوله : فَعَفَوْنا عَنْ ذَلِكَ يقول : فعفونا لعَبَدَة العجل عن عبادتهم إياه ، وللمصدّقين منهم بأنه إلههم ، بعد الذي أراهم الله أنهم لا يرون ربهم في حياتهم من الاَيات ما أراهم عن تصديقهم بذلك بالتوبة التي تابوها إلى ربهم بقتلهم أنفسَهم وصبرهم في ذلك على أمر ربهم . وآتَيْنا مُوسَى سُلْطانا مُبِينا يقول : وآتينا موسى حجة تبين عن صدقه وحقية نبوّته ، وتلك الحجة هي الاَيات البينات التي آتاه الله إياها .
{ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء } نزلت في أحبار اليهود قالوا : إن كنت صادقا فائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه السلام ، وقيل : كتابا محررا بخط سماوي على ألواح كما كانت التوراة ، أو كتابا نعاينه حين ينزل ، أو كتابا إلينا بأعياننا بأنك رسول الله . { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } جواب شرط مقدر أي : إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى عليه السلام أكبر منه ، وهذا السؤال وإن كان من آبائهم أسند إليهم لأنهم كانوا آخذين بمذهبهم تابعين لهديهم . والمعنى إن عرقهم راسخ في ذلك وأن ما اقترحوه عليك ليس بأول جهالاتهم وخيالاتهم . { فقالوا أرنا الله جهرة عيانا أرناه نره جهرة ، أو مجاهرين معاينين له . { فأخذتهم الصاعقة } نار جاءت من قبل السماء فأهلكتهم . { بظلمهم } بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم ، ما يستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقا . { ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات } هذه الجناية الثانية التي اقترفها أيضا أوائلهم ، والبينات ، المعجزات ، ولا يجوز حملها على التوراة إذ لم تأتهم بعد . { فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا } تسلطا ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتخاذهم .