ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم ، ومن بعده يعقوب ، قال تعالى منكرا عليهم : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ } أي : حضورا { إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } أي : مقدماته وأسبابه ، فقال لبنيه على وجه الاختبار ، ولتقر عينه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به : { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي } ؟ فأجابوه بما قرت به عينه فقالوا : { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا } فلا نشرك به شيئا ، ولا نعدل به أحدا ، { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فجمعوا بين التوحيد والعمل .
ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب ، لأنهم لم يوجدوا بعد ، فإذا لم يحضروا ، فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية ، لا باليهودية .
ثم أنكر القرآن الكريم على اليهود افتراءهم على يعقوب وزعمهم أنه كان على اليهودية التي أقاموا عليها تاركين دين الإِسلام فقال تعالى : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي } .
روى أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية ، فنزلت هذه الآية الكريمة .
والمعنى - ما كنتم - يا معشر اليهود - حاضرين وقت أن أشرف يعقوب على الموت ، ووقت أن قال لبنيه حينئذ { مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي } فكيف تدعون أنه كان على اليهودية التي أنتم عليها وأنه أوصى بها بنيه ؟ ومراد يعقوب - عليه السلام - من هذا السؤال أخذ الميثاق عليهم بالثبات على ملة أبيهم إبراهيم من بعده ، لكي يسعدوا في دنياهم وأخراهم ، وقد أجابوه بما يدل على رسوخ إيمانهم إذ قالوا : { نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } .
وهذا الجواب يتضمن أنهم متمسكون بملة إبراهيم - عليه السلام - وهي ملة لا تثليث فيها ولا تشبيه بمخلوق ، وإنما هي إفراد الله - تعالى - بالعبودية والاستسلام له بالخضوع والانقياد .
تلك كانت وصية إبراهيم لبنيه ووصية يعقوب لبنيه . . الوصية التي كررها يعقوب في آخر لحظة من لحظات حياته ؛ والتي كانت شغله الشاغل الذي لم يصرفه عنه الموت وسكراته ، فليسمعها بنو إسرائيل :
( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت . إذ قال لبنيه : ما تعبدون من بعدي ؟ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ) . .
إن هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة ، قوي الإيحاء ، عميق التأثير . . ميت يحتضر . فما هي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار ؟ ما هو الشاغل الذي يعني خاطره وهو في سكرات الموت ؟ ما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه ؟ ما هي التركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلمها لهم في محضر ، يسجل فيه كل التفصيلات ؟ . .
إنها العقيدة . . هي التركة . وهي الذخر . وهي القضية الكبرى ، وهي الشغل الشاغل ، وهي الأمر الجلل ، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته :
هذا هو الأمر الذي جمعتكم من أجله . وهذه هي القضية التي أردت الاطمئنان عليها . وهذه هي الأمانة والذخر والتراث . .
( قالوا : نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق . إلها واحدا . ونحن له مسلمون )
إنهم يعرفون دينهم ويذكرونه . إنهم يتسلمون التراث ويصونونه . إنهم يطمئنون الوالد المحتضر ويريحونه .
وكذلك ظلت وصية إبراهيم لبنيه مرعية في أبناء يعقوب . وكذلك هم ينصون نصا صريحا على أنهم( مسلمون ) .
والقرآن يسأل بني إسرائيل : ( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت ؟ ) . . فهذا هو الذي كان ، يشهد به الله ، ويقرره ، ويقطع به كل حجة لهم في التمويه والتضليل ؛ ويقطع به كل صلة حقيقية بينهم وبين أبيهم إسرائيل !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.