{ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ْ } بأخذهم بأنواع العقوبات { وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ْ } بالشرك والكفر ، والعناد .
{ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ْ } وهكذا كل من التجأ إلى غير الله ، لم ينفعه ذلك عند نزول الشدائد .
{ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ْ } أي : خسار ودمار ، بالضد مما خطر ببالهم .
وقوله - سبحانه - { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ . . } بيان لمظاهر عدله فى قضائه وأحكامه .
والضمير المنصوب فى { ظَلَمْنَاهُمْ } يعود إلى أهل هذه القرى ، لأنهم هم المقصودون بالحديث .
أى : وما ظلمنا أهل هذه القرى بإهلاكنا إياهم ، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم ، بسبب إصرارهم على الكفر ، وجحودهم للحق ، واستهزائهم بالرسل الذين جاءوا لهدايتهم . . .
ثم بين - سبحانه - موقف آلهتهم المخزى منهم فقالك { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ . . } .
أى : أن هؤلاء المهلكين عندما نزل بهم العذاب ، لم تنفعهم أصنامهم التى كانوا يعبدونها من دون الله شيئا من النفع . . . بل هى لم تنفع نفسها فقد اندثرت معهم كما اندثروا .
والفاء فى قوله - سبحانه - { فَمَا أَغْنَتْ } للتفريع على ظلمهم لأنفسهم ، لأن اعتمادهم على شفاعة الأصنام ، وعلى دفاعها عنهم . . . من مظاهر جهلهم وغبائهم وظلمهم لأنفسهم .
و { من } فى قوله : { مِن شَيْءٍ } لتأكيد انتفاء النفع والإِغناء : أى : لم تغن عنهم شيئا ولو قليلا من الإِغناء ؛ ولم تنفعهم لا فى قليل ولا كثير . . .
وجملة { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } تأكيد لنفى النفع ، وإثبات للضر والخسران .
والتتبيب : مصدر تب بمعنى خسر ، فلان فلانا إذا وقعه فى الخسران .
ومنه قوله - تعالى - { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } أى : هلكتا وخسرتا كما قد هلك وخسر هو .
أى : وما زادتهم أصنامهم التى كانوا يعتمدون عليها فى دفع الضر سوى الخسران والهلاك .
قال الإِمام الرازى : والمعنى : " أن الكفار كانوا يعتقدون فى الأصنام أنها تعين على تحصيل المنافع ودفع المضار ، ثم إنه - تعالى - أخبر أنهم عند مساس الحاجة إلى المعين ، ما وجدوا منها شيئا لا جلب نفع ولا دفع ضر ، ثم كما لم يجدوا ذلك فقد وجدوا ضده ، وهو أن ذلك الاعتقاد زالت عنهم به منافع الدنيا والآخرة ، وجلب لهم مضارهما ، فكان ذلك من أعظم موجبات الخسران " .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلََكِن ظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لّمّا جَآءَ أَمْرُ رَبّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } .
يقول تعالى ذكره : وما عاقبنا أهل هذه القُرى التي اقتصصنا نبأها عليك يا محمد بغير استحقاق منهم عقوبتنا ، فتكون بذلك قد وضعنا عقوبتناهم في غير موضعها ، { ولَكِنْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ } ، يقول : ولكنهم أوجبوا لأنفسهم بمعصيتهم الله وكفرهم به ، عقوبته وعذابه ، فأحلوا بها ما لم يكن لهم أن يحلوه بها ، وأوجبوا لها ما لم يكن لهم أن يوجبوه لها . { فَمَا أغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ منْ دُونِ اللّهِ منْ شَيْءٍ } ، يقول : فما دفعت عنهم آلهتهم التي يدعونها من دون الله ويدعونها أربابا من عقاب الله وعذابه إذا أحله بهم ربهم من شيء ، ولا ردّت عنهم شيئا منه . { لَمّا جاءَ أمْرُ رَبّكَ } يا محمد ، يقول : لما جاء قضاء ربك بعذابهم ، فحقّ عليهم عقابه ونزل بهم سخطه . { وَما زَادُوهُمْ غيرَ تَتْبيبٍ } ، يقول : وما زادتهم آلهتهم عند مجيء أمر ربك هؤلاء المشركين بعقاب الله غير تخسير وتدمير وإهلاك ، يقال منه : تَبَّبْتُه أُتَبِّبُهُ تتبيبا ، ومنه قولهم للرجل : تبّا لك ، قال جرير :
عَرادةُ مِنْ بَقِيّةِ قَوْمِ لُوطٍ *** ألا تَبّا لِمَا فَعَلوا تَبابَا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سعيد بن سلام أبو الحسن البصري ، قال : حدثنا سفيان ، عن نسير بن ذعلوق ، عن ابن عمر في قوله : { وَما زَادُوهُمْ غيرَ تَتْبِيبٍ } ، قال : غير تخسير .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { غيرَ تَتْبِيبٍ } ، قال : تخسير .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { غيرَ تَتْبِيبٍ } ، يقول : غير تخسير .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : { غيرَ تَتْبِيبٍ } ، قال : غير تخسير .
وهذا الخبر من الله تعالى ذكره ، وإن كان خبرا عمن مضى من الأمم قبلنا ، فإنه وعيد من الله جلّ ثناؤه لنا أيتها الأمة : أنا إن سلكنا سبيل الأمم قبلنا في الخلاف عليه وعلى رسوله ، سلك بنا سبيلهم في العقوبة ، وإعلام منه لنا : أنه لا يظلم أحدا من خلقه ، وأن العباد هم الذين يظلمون أنفسهم . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال : اعتذر ، يعني : ربنا جلّ ثناؤه إلى خلقه ، فقال : وَما ظَلَمْناهُم مما ذكرنا لك من عذاب من عذّبنا من الأمم ، { وَلَكِنْ ظَلَمُوا أنْفُسَهُم فَمَا أغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ } ، حتى بلغ : { وَما زَادُوهُمْ غيرَ تَتْبِيبٍ } ، قال : ما زادهم الذين كانوا يعبدونهم غير تتبيب .
ضمير الغيبة في { ظلمناهم } عَائد إلى { القرى } باعتبار أهلها لأنّهم المقصود .
وإنّما لم يظلمهم الله تعالى لأنّ ما أصابهم به من العذاب جزاء عن سوء أعمالهم فكانوا هم الظّالمين أنفسَهم إذ جرّوا لأنفسهم العذاب .
وفرع على ظلمهم أنفسَهم انتفاء إغناء آلهتهم عنهم شيئاً ، ووجه ذلك الترتب والتفريع أن ظلمهم أنفسهم مَظهره في عبادتهم الأصنام ، وهم لمّا عبدوها كانوا يعبدونها للخلاص من طوارق الحدثان ولتكون لهم شفعاء عند الله وكانوا في أمن من أن ينالهم بأس في الدنيا اعتماداً على دفع أصنامهم عنهم فلمّا جاء أمرهم بضد ذلك كان ذلك الضدّ مضاداً لتأميلهم وتقديرهم .
والغرض من هذا التفريع التعريض بتحذير المشركين من العرب من الاعتماد على نفع الأصنام ، فقد أيقن المشركون أن أولئك الأمم كانوا يعبدون الأصنام كيف وهؤلاء اقتبسوا عبادة الأصنام من الأمم السّابقين وأيقنوا أنهم قد حَلّ بهم من الاستئصال ما شاهدوا آثاره ، فذلك موعظة لهم لو كانوا مهتدين .
وجملة { وما زادوهم غير تتبيب } عِلاوة وارتقاء على عدم نفعهم عند الحاجة بأنّهم لم يكن شأنهم عدم الإغناء عنهم فحسبُ ولكنهم زادتهم تتبيباً وخسراناً ، أي زادتهم أسبابَ الخسران .
والتتبيب : مصدر تبّبه إذا أوقعه في التبَاب وهو الخسارة . وظاهر هذا أن أصنامهم زادتهم تتبيباً لمّا جاء أمر الله ، لأنّه عطف على الفعل المقيّد ب { لمّا } التوقيتية المفيدة أنّ ذلك كان في وقت مجيء أمر الله وهو حلول العذاب بهم .
ووجه زيادتهم إياهم تتبيباً حينئذٍ أنّ تصميمهم على الطمع في إنقاذهم إيّاهم من المصائب حالت دونهم ودون التوبة عند سماع الوعيد بالعذاب .
ويجوز أن يكون العطف لمجرّد المشاركة في الصفة دون قيدها ، أي زادوهم تتبيباً قبل مجيء أمر الله بأنْ زادهم اعتقادهم فيها انصرافاً عن النظر في آيات الرّسل وزادهم تأميلهم الأصنام ، وقد كانت خرافات الأصنام ومناقبها الباطلة مغرية لهم بارتكاب الفواحش والضلال وانحطاط الأخلاق وفساد التّفكير جرأة على رسل الله حتى حقّ عليهم غضب الله المستوجب حلول عذابه بهم .