{ 64 - 69 } { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ }
يخبر تعالى عن حالة الدنيا والآخرة ، وفي ضمن ذلك ، التزهيد في الدنيا والتشويق للأخرى ، فقال : { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } في الحقيقة { إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ } تلهو بها القلوب ، وتلعب بها الأبدان ، بسبب ما جعل اللّه فيها من الزينة واللذات ، والشهوات الخالبة للقلوب المعرضة ، الباهجة للعيون الغافلة ، المفرحة للنفوس المبطلة الباطلة ، ثم تزول سريعا ، وتنقضي جميعا ، ولم يحصل منها محبها إلا على الندم والحسرة والخسران .
وأما الدار الآخرة ، فإنها دار { الحيوان } أي : الحياة الكاملة ، التي من لوازمها ، أن تكون أبدان أهلها في غاية القوة ، وقواهم في غاية الشدة ، لأنها أبدان وقوى خلقت للحياة ، وأن يكون موجودا فيها كل ما تكمل به الحياة ، وتتم به اللذات ، من مفرحات القلوب ، وشهوات الأبدان ، من المآكل ، والمشارب ، والمناكح ، وغير ذلك ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } لما آثروا الدنيا على الآخرة ، ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان ، ورغبوا في دار اللهو واللعب ، فدل ذلك على أن الذين يعلمون ، لا بد أن يؤثروا الآخرة على الدنيا ، لما يعلمونه من حالة الدارين .
ثم بين - سبحانه - هو إن هذه الحياة الدنيا ، بالنسبة للدار الآخرة فقال : { وَمَا هذه الحياة الدنيآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
واللهو : اشتغال الإِنسان بما لا يعنيه ولا يهمه . أو هو الاستمتاع بملذات الدنيا .
واللعب : العبث . وهو فعل لا يقصد به مقصد صحيح .
أى : أن هذه الحياة الدنيا ، وما فيها من حطام ، تشبه فى سرعة انقضائها وزوال متعها ، الأشياء التى يلهو بها الأطفال ، يجتمعون عليها وقتاً ، ثم ينفضون عنها .
أما الدار الآخرة ، فهى دار الحياة الدائمة الباقية ، التى لا يعقبها موت ، ولا يعتريها فناء ولا انقضاء .
ولفظ " الحيوان " مصدر حى . سمى به ذو الحياة ، والمارد به هنا : نفس الحياة الحقة .
وقوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أى : لو كانوا يعلمون حق العلم ، لما آثروا متع الدنيا الفانية على خيرات الآخرة الباقية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا هََذِهِ الْحَيَاةُ الدّنْيَآ إِلاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنّ الدّارَ الاَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَما هَذِهِ الحَياةُ الدّنْيا التي يتمتع منها هؤلاء المشركون إلاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ يقول : إلاّ تعليل النفوس بما تلتذّ به ، ثم هو مُنْقَضٍ عن قريب ، لا بقاء له ولا دوام وإنّ الدّارَ الاَخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ يقول : وإن الدار الاَخرة لفيها الحياة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع ولا موت معها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَإنّ الدّارَ الاَخِرَةِ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ حياة لا موت فيها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله لَهِيَ الحَيَوَانُ قال : لا موتَ فيها .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله وَإنّ الدّارَ الاَخِرَةَ لَهيَ الحَيَوَانُ يقول : باقية .
وقوله : لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يقول : لو كان هؤلاء المشركون يعلمون أن ذلك كذلك ، لقَصّروا عن تكذيبهم بالله ، وإشراكهم غيره في عبادته ، ولكنهم لا يعلمون ذلك .
هذا الكلام مبلَّغ إلى الفريقين اللذين تضمنهما قوله تعالى : { بل أكثرهم لا يعقلون } [ العنكبوت : 63 ] فإن عقلاءهم آثروا باطل الدنيا على الحق الذي وضح لهم ، ودهماءهم لم يشعروا بغير أمور الدنيا ، وجميعهم أنكروا البعث فأعقب الله ما أوضحه لهم من الدلائل بأن نبههم على أن الحياة الدنيا كالخيال وأن الحياة الثانية هي الحياة الحق . والمراد بالحياة ما تشتمل عليه من الأحوال وذلك يسري غلى الحياة نفسها .
واللهو : ما يلهو به الناس ، أي يشتغلون به عن الأمور المكدرة أو يعْمرون به أوقاتهم الخلية عن الأعمال .
واللعب : ما يقصد به الهزل والانبساط . وتقدم تفسير اللعب واللهو ووجه حصر الحياة الدنيا فيهما عند قوله تعالى : { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } في سورة الأنعام [ 32 ] . والحصر : ادعائي كما تقدم . وقد زادت هذه الآية بتوجيه اسم الإشارة إلى الحياة وعهي إشارة تحقير وقلة اكتراث ، كقول قيس بن الخطيم مشيراً إلى الموت :
متى يأت هذا الموتُ لا يُلف حَاجة *** لنفسيَ إلا قَد قضيتُ قضاءها
ولم توجه الإِشارة إلى الحياة في سورة الأنعام . ووجه ذلك أن هذه الآية لم يتقدم فيها ما يقتضي تحقير الحياة فجيء باسم الإِشارة لإفادة تحقيرها ، وأما آية سورة الأنعام فتقدم قوله : { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما قرطنا فيها } [ الأنعام : 31 ] فذُكر لهم في تلك الآية ما سيظهر لهم إذا جاءتهم الساعة من ذهاب حياتهم الدنيا سُدى . وأمر تقديم ذكر اللهو هنا وذكر اللعب في سورة الأنعام فلأن آية سورة الأنعام لم تشتمل على اسم إشارة يقصد منه تحقير الحياة الدنيا فكان الابتداء بأنها لعب مشيراً إلى تحقيرها لأن اللعب أعرق في قلة الجدوى من اللهو .
ولما أشير في هذه الآية إلى الحياة الآخرة في قوله { فأحيا به الأرض من بعد موتها } [ العنكبوت : 63 ] زاده تصريحاً بأن الحياة الآخرة هي الحياة الحق فصيغ لها وزن الفعلان الذي هو صيغة تنبئ عن معنى التحرك توضيحاً لمعنى كمال الحياة بقدر المتعارف ، فإن التحرك والاضطراب أمارة على قوة الحيوية في الشيء مثل الغليان واللهبان . وهم قد جهلوا الحياة الآخرة من أصلها فلذلك قالوا { لو كانوا يعلمون } . وجواب { لو } محذوف دليله ما تقدم ، أو هو الجواب مقدّماً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.