تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلِتَصۡغَىٰٓ إِلَيۡهِ أَفۡـِٔدَةُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَلِيَرۡضَوۡهُ وَلِيَقۡتَرِفُواْ مَا هُم مُّقۡتَرِفُونَ} (113)

{ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ } أي : ولتميل إلى ذلك الكلام المزخرف { أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ } لأن عدم إيمانهم باليوم الآخر وعدم عقولهم النافعة ، يحملهم على ذلك ، { وَلِيَرْضَوْهُ } بعد أن يصغوا إليه ، فيصغون إليه أولا ، فإذا مالوا إليه ورأوا تلك العبارات المستحسنة ، رضوه ، وزين في قلوبهم ، وصار عقيدة راسخة ، وصفة لازمة ، ثم ينتج من ذلك ، أن يقترفوا من الأعمال والأقوال ما هم مقترفون ، أي : يأتون من الكذب بالقول والفعل ، ما هو من لوازم تلك العقائد القبيحة ، فهذه حال المغترين بشياطين الإنس والجن ، المستجيبين لدعوتهم ، وأما أهل الإيمان بالآخرة ، وأولو العقول الوافية والألباب الرزينة ، فإنهم لا يغترون بتلك العبارات ، ولا تخلبهم تلك التمويهات ، بل همتهم مصروفة إلى معرفة الحقائق ، فينظرون إلى المعاني التي يدعو إليها الدعاة ، فإن كانت حقا قبلوها ، وانقادوا لها ، ولو كسيت عبارات ردية ، وألفاظا غير وافية ، وإن كانت باطلا ردوها على من قالها ، كائنا من كان ، ولو ألبست من العبارات المستحسنة ، ما هو أرق من الحرير .

ومن حكمة الله تعالى ، في جعله للأنبياء أعداء ، وللباطل أنصارا قائمين بالدعوة إليه ، أن يحصل لعباده الابتلاء والامتحان ، ليتميز الصادق من الكاذب ، والعاقل من الجاهل ، والبصير من الأعمى .

ومن حكمته أن في ذلك بيانا للحق ، وتوضيحا له ، فإن الحق يستنير ويتضح إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه . فإنه -حينئذ- يتبين من أدلة الحق ، وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته ، ومن فساد الباطل وبطلانه ، ما هو من أكبر المطالب ، التي يتنافس فيها المتنافسون .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلِتَصۡغَىٰٓ إِلَيۡهِ أَفۡـِٔدَةُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَلِيَرۡضَوۡهُ وَلِيَقۡتَرِفُواْ مَا هُم مُّقۡتَرِفُونَ} (113)

وقوله : { ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } . معطوف على { غُرُوراً } فيكون علة أخرى للإيحاء ، والضمير فى { إِلَيْهِ } يعود إلى زخرف القول .

وأصل الصغو : الميل . يقال : صغا يصغو ويصغى صغوا ، وصغى يصغى صغاً أى : مال ، وأصغى إليه مال إليه يسمعه ، وأصغى الإناء : أماله . ويقال : صغت الشمس والنجوم صغوا : مالت إلى الغروب .

والمعنى : يوحى بعضهم إلى بعضهم زخرف القول ليغروا به الضعفاء ، ولتميل إلى هذا الزخرف الباطل من القول قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة لموافقته لأهوائهم وشهواتهم .

وخص عدم إيمانهم بالآخرة بالذكر - مع أنهم لا يؤمنون بأمور أخرى يجب الإيمان بها - لأن من لم يؤمن بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب يمشى دائما وراء شهواته وأهوائه ولا يتبع إلا زخرف القول وباطله .

ثم بين - سبحانه - تدرجهم السىء فى هذا العمل الأثيم فقال : { وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } .

أى : وليرضوا هذا الفعل الخبيث لأنفسهم بعد أن مالت إليه قلوبهم ، وليقترفوا ما هم مقترفون أى : وليكتسبوا ما هم مكتسبون من الأعمال السيئة فإن الله - تعالى - سيجازيهم عليها بما يستحقونه .

وأصل القرف والاقتراف . قشر اللحاء عن الشجر ، والجلدة عن الجرح . واستعير الاقتراف للاكتساب مطلقا ولكنه فى الإساءة أكثر . فيقال : قرفته بكذا إذا عبته واتهمته .

قال أبو حيان : وترتيب هذه المفاعيل فى غاية الفصاحة ، لأنه أولا يكون الخداع ، فيكون الميل ، فيكون الرضا ، فيكون الاقتراف ، فكل واحد مسبب عما قبله .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلِتَصۡغَىٰٓ إِلَيۡهِ أَفۡـِٔدَةُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَلِيَرۡضَوۡهُ وَلِيَقۡتَرِفُواْ مَا هُم مُّقۡتَرِفُونَ} (113)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلِتَصْغَىَ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مّقْتَرِفُونَ } .

يقول تعالى ذكره : { وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا وَلِتَصْغَى إلَيْهِ } .

يقول جلّ ثناؤه : يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المزيّن من القول بالباطل ، ليغرّوا به المؤمنين من أتباع الأنبياء ، فيفتنوهم عن دينهم وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الّذِين لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ . يقول : ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالاَخرة .

وهو من صغوتَ تَصْغَى وتَصْغُو ، والتنزيل جاء بتَصْغَى صَغْوا وصُغُوّا ، وبعض العرب يقول صَغَيْت بالياء حُكي عن بعض بني أسد : صَغَيْتُ إلى حديثه ، فأنا أصْغَى صُغِيّا بالياء ، وذلك إذا ملت ، يقال : صَغْوي معك : إذا كان هواك معه وميلك ، مثل قولهم : ضِلَعي معك ، ويقال : أصغيت الإناء : إذا أملته ليجتمع ما فيه ومنه قول الشاعر :

تَرَى السّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلّ مُحْكَمَةٍ ***زَيْغٌ وَفِيهِ إلى التّشْبِيهِ إصْغاءُ

ويقال للقمر إذا مال للغيوب : صَغَا وأصْغَى .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ يقول : تزيغ إليه أفئدة .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : وَلِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدَةُ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ قال : لتميل .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ يقول : تميل إليه قلوب الكفار ويحبونه ويرضون به .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أفْئِدَةُ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالاَخِرَةِ قال : ولتصغى : وليهووا ذلك وليرضوه ، قال : يقول الرجل للمرأة : صَغَيْتُ إليها : هوِيتها .

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرفُونَ .

يقول تعالى ذكره : وليكتسبوا من الأعمال ما هم مكتسبون .

حُكي عن العرب سماعا منها : خرج يقترف لأهله ، بمعنى يكسب لهم ، ومنه قيل : قارف فلان هذا الأمر : إذا واقعه وعمله . وكان بعضهم يقول : هو التهمة والادّعاء ، يقال للرجل : أنت قرفتني : أي اتهمتني ، ويقال : بئسما اقترفت لنفسك . وقال رؤبة :

أعْيا اقْتِرَافُ الكَذِبِ المَقْرُوفِ ***تَقْوَى التّقِيّ وَعِفّةَ العَفِيفِ

وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله : وَلِيَقْتَرِفُوا قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ وليكتسبوا ما هم مكتسبون .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ قال : ليعملوا ما هم عاملون .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ قال : ليعملوا ما هم عاملون .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلِتَصۡغَىٰٓ إِلَيۡهِ أَفۡـِٔدَةُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَلِيَرۡضَوۡهُ وَلِيَقۡتَرِفُواْ مَا هُم مُّقۡتَرِفُونَ} (113)

عُطف قوله : { ولتصغى } على { غروراً } [ الأنعام : 112 ] لأنّ { غروراً } في معنى ليغرّوهم . واللام لام كي وما بعدها في تأويل مصدر ، أي ولصغى ، أي مَيل قلوبهم إلى وحيِهم فتقوم عليهم الحجّة . ومعنى { تصغى } تميل ، يقال : صَغَى يَصغى صَغْياً ، ويَصْغُو صَغواً بالياء وبالواو ووردت الآية على اعتباره بالياء لأنّه رسم في المصحف بصورة الياء . وحقيقته المَيل الحسي ، يقال : صَغى ، أي مال ، وأصغى أمال . وفي حديث الهِرّة : أنّه أصغى إليها الإناءَ ، ومنه أطلق : أصغى بمعنى استمع ، لأنّ أصله أمال سمعه أو أذُنه ، ثمّ حذفوا المفعول لكثرة الاستعمال . وهو هنا مجاز في الاتّباع وقبول القول .

والَّذين لا يؤمنون بالآخرة هم المشركون . وخصّ من صفات المشركين عدمُ إيمانهم بالآخرة ، فعُرّفوا بهذه الصّلة للإيماء إلى بعض آثار وحي الشّياطين لهم . وهذا الوصف أكبر ما أضرّ بهم ، إذ كانوا بسببه لا يتوخّون فيما يصنعون خشية العاقبة وطلَبَ الخير ، بل يتَّبعون أهواءهم وما يُزيَّن لهم من شهواتهم ، معرضين عمّا في خلال ذلك من المفاسد والكفرِ ، إذ لا يترقَّبون جزاء عن الخير والشرّ ، فلذلك تصغى عقولهم إلى غرور الشَّياطين . ولا تصغَى إلى دعوة النَّبيء صلى الله عليه وسلم والصّالحين .

وعطف { وليرضوه } على { ولتصغى } ، وإن كان الصّغْي يقتضي الرّضى ويسبّبه فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالفاء وأن لا تكرّر لام التّعليل ، فخولف مقتضى الظاهر ، للدلالة على استقلاله بالتّعليل ، فعطف بالواو وأعيدت اللاّم لتأكيد الاستقلال ، فيدل على أن صَغى أفئدتهم إليه ما كان يكفي لعملهم به إلاّ لأنَّهم رَضُوه .

وعطْفُ { وليقترفوا ما هم مقترفون } على وليرضوه كعطف وليرضوه على { ولتصغى } .

والاقتراف افتعال من قرف إذا كسب سيئة ، قال تعالى بعد هذه الآية : { إنّ الذين يكسبون الإثم سيُجْزون بما كانوا يقترفون } [ الأنعام : 120 ] فذكَرَ هنالك لِ { يكسبون } مفعولا لأنّ الكسب يعمّ الخير والشرّ ، ولم يذكر هنا ل { يقترفون } مفعولاً لأنّه لا يكون إلاّ اكتساب الشرّ ، ولم يقل : سيُجزْون بما كانوا يكسبون لقصد تأكيد معنى الإثم . يقال : قرف واقترف وقارف . وصيغة الافتعال وصيغة المفاعلة فيه للمبالغة ، وهذه المادة تؤذن بأمر ذميم . وحكوا أنَّه يقال : قَرف فلان لِعِيالِه ، أي كسب ، ولا أحسبه صحيحاً .

وجيء في صلة الموصول بالجملة الاسميّة في قوله : { ما هم مقترفون } للدلالة على تمكّنهم في ذلك الاقتراف وثباتهم فيه .