وقد ذكر{[1307]} جملة من أعمالهم في أول هذه السورة ، فقال : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } أي : بما ألزموا به أنفسهم لله من النذور والمعاهدات ، وإذا كانوا يوفون بالنذر ، وهو لم يجب{[1308]} عليهم ، إلا بإيجابهم على أنفسهم ، كان فعلهم وقيامهم بالفروض الأصلية ، من باب أولى وأحرى ، { وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } أي : منتشرا فاشيا ، فخافوا أن ينالهم شره ، فتركوا كل سبب موجب لذلك .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك فى آيات متعددة ، الأسباب التى من أجلها وصلوا إلى النعيم الدائم . فقال - تعالى - : { يُوفُونَ بالنذر وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } .
والنذر : ما يوجبه الإِنسان على نفسه من طاعة الله - تعالى - ، والوفاء به : أداؤه أداء كاملا . أى : أن من الأسباب التى جعلت الأبرار يحصلون على تلك النعم ، أنهم من أخلاقهم الوفاء بالنذل ، ومن صفاتهم - أيضا - أنهم يخافون يوما عظيما هو يوم القيامة ، الذى كان عذابه فاشياً منتشراً غاية الانتشار .
فقوله : { مُسْتَطِيراً } اسم فاعل من استطار الشئ إذا انتشر وامتد أمره ، والسين والتاء فيه للمبالغة ، وأصله طار . ومنه قولهم : استطار الغبار ، إذا انتشر فى الهواء وتفرق وجئ بصيغة المضارع فى قوله : { يُوفُونَ } للدلالة على تجدد وفائهم فى كل وقت وحين .
والتعريف فى " النذر " للجنس ، لأنه يعم كل نذر .
وجاء لفظ اليوم منكراً ، ووصف بأن له شراً مستطيرا . . لتهويل أمره ، وتعظيم شأنه ، حتى يستعد الناس لاستقباله بالإِيمان والعمل الصالح .
القول في تأويل قوله تعالى : { يُوفُونَ بِالنّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَىَ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } .
يقول تعالى ذكره : إن الأبرار الذين يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ، برّوا بوفائهم لله بالنذور التي كانوا ينذرونها في طاعة الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يُوفُونَ بالنّذْرِ قال : إذا نذروا في حق الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يُوفُونَ بالنّذْرِ قال : كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والزكاة ، والحجّ والعمرة ، وما افترض عليهم ، فسماهم الله بذلك الأبرار ، فقال : يُوفُونَ بالنّذْرِ ويَخافُونَ يَوْما كانَ شَرّهُ مُسْتَطِيرا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة يُوفُونُ بالنّذْرِ قال : بطاعة الله ، وبالصلاة ، وبالحجّ ، وبالعمرة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، قوله : يُوفُونَ بالنّذْرِ قال : في غير معصية .
وفي الكلام محذوف اجتزىء بدلالة الكلام عليه منه ، وهو كان ذلك . وذلك أن معنى الكلام : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ، كانوا يوفون بالنذر ، فترك ذكر كانوا لدلالة الكلام عليها والنذر : هو كلّ ما أوجبه الإنسان على نفسه من فعل ومنه قول عنترة :
الشّاتِمَيْ عِرْضِي وَلمْ أشْتُمْهُما *** والنّاذِرَيْنَ إذا لَمْ ألْقَهُما دَمي
وقوله : وَيخافُونَ يَوْما كانَ شَرّهُ مُسْتَطِيرا يقول تعالى ذكره : ويخافون عقاب الله بتركهم الوفاء بما نذروا لله من برّ في يوم كان شرّه مستطيرا ، ممتدّا طويلاً فاشيا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَيخافُونَ يَوْما كانَ شَرّهُ مُسْتَطِيرا استطاروا الله شرّ ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض .
وأما رجل يقول عليه نذر أن لا يصل رحما ، ولا يتصدّق ، ولا يصنع خيرا ، فإنه لا ينبغي أن يكفر عنه ، ويأتي ذلك ، ومنه قولهم : استطار الصدع في الزجاجة واستطال : إذا امتدّ ، ولا يقال ذلك في الحائط ومنه قول الأعشى :
فَبانَتْ وَقد أثأرَتْ فِي الفُؤَا *** دِ صَدْعا عَلى نَأَيِها مُسْتَطِيرَا
اعتراض بين جملة { يَشْربون من كأس } [ الإنسان : 5 ] الخ وبين جملة { ويطاف عليهم بآنية من فضة } [ الإنسان : 15 ] الخ . وهذا الاعتراض استئناف بياني هو جواب عن سؤال من شأن الكلام السابق أن يثيره في نفسه السامع المغتبِط بأن ينال مثل ما نالوا من النعيم والكرامة في الآخرة . فيهتم بأن يفعل مثل ما فعلوا ، فذكر بعض أعمالهم الصالحة التي هي من آثار الإِيمان مع التعريض لهم بالاستزادة منها في الدنيا .
والكلام إخبار عنهم صادر في وقت نزول هذه الآيات ، بعضُه وصف لحالهم في الآخرة وبعضه وصف لبعض حالهم في الدنيا الموجب لنوال ما نالوه في الآخرة ، فلا حاجة إلى قول الفراء : إن في الكلام إضماراً وتقديره : كانوا يُوفُون بالنذر .
وليست الجملة حالاً من { الأبرار } [ الإنسان : 5 ] وضميرهم لأن الحال قيد لعاملها فلو جعلت حالاً لكانت قيداً ل { يشربون } [ الإنسان : 5 ] ، وليس وفاؤهم بالنذر بحاصل في وقت شربهم من خمر الجنة بل هو بما أسلفوه في الحياة الدنيا .
والوفاء : أداء ما وجب على المؤدي وافياً دون نقص ولا تقصير فيه .
والنذر : ما يعتزمه المرء ويعقد عليه نِيته ، قال عنترة :
والنَّاذِرَيْنِ إذا لم ألْقهما دَمي
والمراد به هنا ما عقدوا عليه عزمهم من الإِيمان والامتثال وهو ما استحقوا به صفة { الأبرار } [ الإنسان : 5 ] . r
ويجوز أن يراد { بالنذر } ما ينذرونه من فعل الخير المتقرَّب به إلى الله ، أي ينشئون النذور بها ليوجبوها على أنفسهم .
وجيء بصيغة المضارع للدلالة على تجدد وفائهم بما عقدوا عليه ضمائرهم من الإِيمان والعمل الصالح ، وذلك مشعر بأنهم يكثرون نذر الطاعات وفعل القربات ولولا ذلك لما كان الوفاء بالنذر موجباً الثناء عليهم .
والتعريف في ( النذر ) تعريف الجنس فهو يعم كل نذر .
وعطف على { يوفون بالنذر } قوله : { ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً } لأنهم لما وصفوا بالعمل بما ينذرونه أتبع ذلك بذكر حسن نيتهم وتحقق إخلاصهم في أعمالهم لأن الأعمال بالنيات فجمع لهم بهذا صحة الاعتقاد وحسن الأعمال .
وخوفهم اليوم مجاز عقلي جرى في تعلق اليوم بالخوف لأنهم إنما يخافون ما يجري في ذلك اليوم من الحساب والجزاء على الأعمال السيئة بالعقاب فعلق فعل الخوْف بزمان الأشياء المخوفة .
وانتصب { يوماً } على المفعول به ل { يخافون } ولا يصح نصبه على الظرفية لأن المراد بالخوف خوفهم في الدنيا من ذنوب تجر إليهم العقاب في ذلك اليوم ، وليس المراد أنهم يخافون في ذلك اليوم فإنهم في ذلك اليوم آمنون .
ووُصِف اليومُ بأن له شرّاً مستطيراً وصفاً مشعراً بعلة خوفهم إياه . فالمعنى : أنهم يخافون شر ذلك اليوم فيتجنبون ما يُفضي بهم إلى شره من الأعمال المتوعد عليها بالعقاب .
والشر : العذاب والجزاء بالسوء .
والمستطير : هو اسم فاعل من استطار القاصر ، والسين والتاء في استطار للمبالغة وأصله طار مثل استكبر . والطيران مجازي مستعار لانتشار الشيء وامتداده تشبيهاً له بانتشار الطير في الجو ، ومنه قولهم : الفجر المستطير ، وهو الفجر الصادق الذي ينتشر ضوؤه في الأفق ويقال : استطار الحريق إذا انتشر وتلاحق .
وذكر فعل { كان } للدلالة على تمكن الخبر من المخبر عنه وإلاّ فإن شر ذلك اليوم ليس واقعاً في الماضي وإنما يقع بعد مستقبل بعيد ، ويجوز أن يجعل ذلك من التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه .
وصيغة { يخافون } دالة على تجدد خوفهم شّر ذلك اليوم على نحو قوله : { يوفون بالنذر } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.