{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ْ } أي : يصطفيك ويختارك بما يمنُّ به عليك من الأوصاف الجليلة والمناقب الجميلة ، . { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ْ } أي : من تعبير الرؤيا ، وبيان ما تئول إليه الأحاديث الصادقة ، كالكتب السماوية ونحوها ، { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ْ } في الدنيا والآخرة ، بأن يؤتيك في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، { كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ْ } حيث أنعم الله عليهما ، بنعم عظيمة واسعة ، دينية ، ودنيوية .
{ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ } أي : علمه محيط بالأشياء ، وبما احتوت عليه ضمائر العباد من البر وغيره ، فيعطي كلا ما تقتضيه حكمته وحمده ، فإنه حكيم يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها .
ثم حكى - سبحانه - ما توقعه يعقوب لابنه يوسف من خير وبركة فقال :
{ وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
والكاف في قوله { وكذلك } حرف تشبيه بمعنى مثل ، وهى داخله على كلام محذوف .
وقوله { يَجْتَبِيكَ } من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والاختيار ، مأخوذ من جبيت الشئ إذا اخترته لما فيه من النفع والخير .
و { تَأْوِيلِ الأحاديث } معناه تفسيرها صحيحا ، إذا التأويل مأخوذ من الأَوْل بمعنى الرجوع ، وهو رد الشئ إلى الغاية المرادة منه .
والأحاديث جمع تكسير مفرده حديث ، وسميت الرؤى أحاديث باعتبار حكايتها والتحدث بها .
والمعنى : وكما اجتباك ربك واختارك لهذه الرؤيا الحسنة ، فإنه - سبحانه - يجتبيك ويختارك لأمور عظام في مستقبل الأيام ، حيث يهبك من صدق الحسَّ ، ونفاذ البصيرة ، ما يجعلك تدرك الأحاديث إدراكا سليما ، وتعبر الرؤى تعبيرا صحيحا صادقاً .
" ويتم نعمته عليك " بالنبوة والرسالة والملك والرياسة " وعلى آل يعقوب " وهم إخوته وذريتهم ، بأن يسبغ عليهم الكثير من نعمه .
{ كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ } أى : من قبل هذه الرؤيا أو من قبل هذا الوقت .
وقوله " إبراهيم وإسحاق " بيان لأبويه .
أى : يتم نعمته عليك إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك من قبل ، وهما إبراهيم وإسحاق بأن وهبهما - سبحانه - النبوة والرسالة .
وعبر عنهما بأنهما أبوان ليوسف ، مع أن إبراهيم جد أبيه ، وإسحاق جده ، للإِشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم السلام - وللمبالغة في إدخال السرور على قلبه ، ولأن هذا الاستعمال مألوف في لغة العرب ، فقد كان أهل مكة يقولون للنبى - صلى الله عليه وسلم - يا ابن عبد المطلب ، وأثر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أنا النبى لا كذب - أنا ابن عبد المطلب " وجملة { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } مستأنفة لتأكيد ما سبقها من كلام .
أى : إن ربك عليم بمن يصطفيه لحمل رسالته ، وبمن هو أهل لنعمه وكرامته ، حكيم في صنعه وتصرفاته .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد نوهت بشأن القرآن الكريم ، وساقت بأسلوب حكيم ما قاله يعقوب لابنه يوسف - عليهما السلام - بعد أن قص ما رآه في المنام .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبّكَ وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىَ آلِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمّهَآ عَلَىَ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنّ رَبّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل يعقوب لابنه يوسف لما قصّ عليه رؤياه : { وكذلكَ يَجْتَبِيكَ رَبّكَ } : وهكذا يجتبيك ربك . يقول : كما أراك ربك الكواكب والشمس والقمر لك سجودا ، فكذلك يصطفيك ربك . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو العنقزي ، عن أبي بكر الهذليّ ، عن عكرمة : { وكذلكَ يَجْتَبيكَ رَبّكَ } ، قال : يصطفيك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وكذلكَ يَجْتَبِيكَ رَبّكَ وَيُعَلّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ } ، فاجتباه ، واصطفاه ، وعلمه من عَبر الأحاديث ، وهو : تأويل الأحاديث .
وقوله : { وَيُعَلّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ } ، يقول : ويعلمك ربك من علم ما يؤول إليه أحاديث الناس عما يرونه في منامهم ، وذلك تعبير الرؤيا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَيُعَلّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ } ، قال : عبارة الرؤيا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { وَيُعَلّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحادِيثِ } ، قال : تأويل الكلام : العلم والحلم ، وكان يوسف أعبر الناس . وقرأ : { ولَمّا بَلَغَ أشُدّهُ آتَيْناهُ حُكْما وَعِلْما } .
وقوله : { ويُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } ، باجتبائه إياك ، واخيتاره ، وتعليمه إياك تأويل الأحاديث . { وَعلى آلِ يَعْقُوبَ } ، يقول : وعلى أهل دين يعقوب وملته من ذرّيته وغيرهم . { كمَا أتَمّها على أبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إبْرَاهِيمَ وإسْحاقَ } ، باتخاذه هذا خليلاً ، وتنجيته من النار ، وفدية هذا بذبح عظيم . كالذي :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : أخبرنا أبو إسحاق ، عن عكرمة ، في قوله : { وَيُتمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعلى آلِ يَعْقُوبَ كمَا أتَمّها على أبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إبْرَاهِيمَ وَإسْحاقَ } ، قال : فنعمته على إبراهيم أن نجاه من النار ، وعلى إسحاق أن نجاه من الذبح .
وقوله : { إنّ رَبّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ، يقول : إن ربك عليم بمواضع الفضل ، ومن هو أهل للاجتباء والنعمة ، حكيم في تدبيره خلقه .
وقوله : { وكذلك يجتبيك } الآية ، ف { يجتبيك } معناه : يختارك ويصطفيك ، ومنه : جبيت الماء في الحوض ، ومنه : جباية المال ، وقوله : { ويعلمك من تأويل الأحاديث }{[6563]} قال مجاهد والسدي : هي عبارة الرؤيا . وقال الحسن : هي عواقب الأمور . وقيل : هي عامة لذلك وغيره من المغيبات . وقوله : { ويتم نعمته } يريد النبوءة وما انضاف إليها من سائر النعم . وقوله : { آل يعقوب } يريد في هذا الموضع الأولاد والقرابة التي هي من نسله ، أي يجعل فيهم النبوءة ، ويروى أن ذلك إنما علمه يعقوب من دعوة إسحاق له حين تشبه له بعيصو - والقصة كاملة في كتاب النقاش لكني اختصرتها لأنه لم ينبل ألفاظها{[6564]} وما أظنه انتزعها إلا من كتب بني إسرائيل ، فإنها قصة مشهورة عندهم ، وباقي هذه الآية بيّن . و «النعمة » على يوسف كانت تخليصه من السجن وعصمته والملك الذي نال ؛ وعلى { إبراهيم } هي اتخاذه خليلاً ؛ وعلى { إسحاق } فديته بالذبح العظيم{[6565]} ، مضافاً ذلك كله إلى النبوءة . و { عليم حكيم } مناسبتان لهذا الوعد .