يخبر تعالى أنه المنفرد بعلم غيب السماوات والأرض كقوله تعالى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } وكقوله : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ } إلى آخر السورة .
فهذه الغيوب ونحوها اختص الله بعلمها فلم يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وإذا كان هو المنفرد بعلم ذلك المحيط علمه بالسرائر والبواطن والخفايا فهو الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، ثم أخبر تعالى عن ضعف علم المكذبين بالآخرة منتقلا من شيء إلى ما هو أبلغ منه فقال : { وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : وما يدرون { أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي : متى البعث والنشور والقيام من القبور أي : فلذلك لم يستعدوا .
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن علم الله - تعالى - الذى غيبه عن عباده ، وعن أقوال المشركين فى شأن البعث والحساب ، وعن توجيهات الله - تعالى - لنبيه فى الرد عليهم . . . فقال - تعالى - : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن . . . } .
ذكر بعض المفسرين أن كفار مكة سألوا النبى صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة ، فنزل قوله - تعالى - : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله . . } .
والغيب : مصدر غاب يغيب ، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب ، ومعناه : مالا تدركه الحواس ، ولا يعلم ببداهة العقل .
و " من " اسم موصول فى محل رفع على أنه فاعل " يعلم " و " الغيب " مفعوله فيكون المعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لكل من سألك عن موعد قيام الساعة : لا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة فى السموات والأرض ، الغيب إلا الله - تعالى - وحده ، فإنه هو الذى يعلمه .
ويجوز أن يكون لفظ " من " فى محل نصب علىالمفعولية و " الغيب " بدل منه ، ولفظ الجلالة " الله " فاعل " يعلم " فيكون المعنى : قل لا يعلم الأشياء التى تحدث فى السموات والأرض الغائبة عنا ، إلا الله - تعالى - .
قال القرطبى : وفى صحيح مسلم عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم يعلم ما فى غد ، فقد أعظم على الله الفرية " .
وقوله - سبحانه - : { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } تأكيد لانفراد الله - تعالى - بعلم الغيوب ، ولفظ " إيان " ظرف زمان متضمن معنى متى .
أى : وما يشعر هؤلاء الكافرون الذين سألوا عن وقت قيام الساعة ، ولا غيرهم ، متى يكون بعثهم من قبورهم للحساب ، إذ علم وقت قيام الساعة لا يعلمه إلى الله وحده .
فالجملة الكريمة تنفى عنهم العلم بموعد قيام الساعة فى أدق صورة وأخفاها ، فهم لا يشعرون ولا يحسون بقيام الساعة ، { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { قُل لاّ يَعْلَمُ مَن فِي السّمَاواتِ والأرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ اللّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الاَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لسائليك من المشركين عن الساعة متى هي قائمة : لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ الذي قد استأثر الله بعلمه ، وحجب عنه خلقه غيره والساعة من ذلك ، وَما يَشْعَرُونَ يقول : وما يدري من في السموات والأرض من خلقه متى هم مبعوثون من قبورهم لقيام الساعة . وقد :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، قال : قالت عائشة : من زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد ، فقد أعظم على اللّهِ الفِرْيَةَ ، والله يقول : لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السّمَواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلاّ اللّهُ .
واختلف أهل العربية في وجه رفع الله ، فقال بعض البصريين : هو كما تقول : إلا قليل منهم . وفي حرف ابن مسعود : قليلاً بدلاً من الأوّل ، لأنك نفيته عنه وجعلته للاَخر . وقال بعض الكوفيين : إن شئت أن تتوهم في «من » المجهول ، فتكون معطوفة على : قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله . قال : ويجوز أن تكون «من » معرفة ، ونزل ما بعد «إلا » عليه ، فيكون عطفا ولا يكون بدلاً ، لأن الأوّل منفي ، والثاني مثبت ، فيكون في النسق كما تقول : قام زيد إلا عمرو ، فيكون الثاني عطفا على الأوّل ، والتأويل جحد ، ولا يكون أن يكون الخبر جحدا ، أو الجحد خبرا . قال : وكذلك مَا فَعَلُوهُ إلاّ قَلِيلٌ وقليلاً من نَصَب ، فعلى الاستثناء في عبادتكم إياه ، ومن رَفَع فعلى العطف ، ولا يكون بدلاً .
{ قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } لما بين اختصاصه تعالى بالقدرة التامة الفائقة العامة اتبعه ما هو كاللازم له ، وهو التفرد بعلم الغيب والاستثناء منقطع ، ورفع المستثنى على اللغة التميمية للدلالة على انه تعالى إن كان ممن في السماوات والأرض ففيها من يعلم الغيب مبالغة في نفيه عنهم ، أو متصل على أن المراد ممن في السماوات والأرض من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها ، فإنه يعم الله تعالى وأولي العلم من خلقه وهو موصول أو موصوف . { وما يشعرون أيان يبعثون } متى ينشرون مركبة من " أي " " وآن " ، وقرئت بكسر الهمزة والضمير لمن وقيل للكفرة .
ثم أمر عز وجل نبيه أن يوقفهم على أن { الغيب } مما انفرد الله بعلمه ولذلك سمي غيباً لغيبه عن المخلوقين ، ويروى أن هذه الآية من قولهم { قل لا يعلم } ، إنما نزلت لأن الكفار سألوا وألحوا عن وقت القيامة التي يعدهم محمد فنزلت هذه الآية فيها التسليم لله تعالى وترك التحديد ، فأعلم عز وجل أنه لا يعلم وقت الساعة سواه فجاء بلفظ يعم الساعة وغيرها ، وأخبر عن البشر أنهم لا يشعرون { أيان يبعثون } وبهذه الآية احتجت عائشة رضي الله عنها على قولها ومن زعم أن محمداً يعلم الغيب فقد أعظم على الله الفرية{[9051]} ، والمكتوبة في قوله تعالى : { إلا الله } بدل من { من }{[9052]} ، وقرأ جمهور الناس «أيان » بفتح الهمزة ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «إيان » بكسرها وهما لغتان{[9053]} .