ثم أخبر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بأن حرصه على هداية المصرين على ضلالهم ، لن يغير من واقع أمرهم شيئا ، فقال - تعالى - { إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ . . } .
والفعل المضارع { تحرص } بكسر الراء ، ماضيه " حرص " بفتحها كضرب يضرب .
والحرص : شدة الرغبة فى الحصول على الشئ ، والاستئثار به .
وقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } تعليل لجواب الشرط المحذوف ، والتقدير :
إن تحرص - أيها الرسول الكريم - على هداية هؤلاء المصرين على كفرهم لن ينفعهم حرصك . فإن الله - تعالى - قد اقتضت حكمته أن لا يهدى من يخلق فيه الضلالة بسبب سوء اختياره ، وفساد استعداده .
وفى الجملة الكريمة إشارة إلى ما جبل عليه النبى صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق ، فإنه مع ما لقيه من مشركى قومه من أذى وعناد وتكذيب . . . كان حريصا على ما ينفعهم ويسعدهم .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله { فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } جواب الشرط على معنى فاعلم ذلك ، أو علة للجواب المحذوف ، أى : إن تحرص على هداهم لن ينفع حرصك شيئا ، فإن الله لا يهدى من يضل .
والمراد بالموصول : كفار قريش المعبر عنهم قبل ذلك بالذين أشركوا ، ووضع الموصول موضع ضميرهم ؛ للتنصيص على أنهم ممن حقت عليهم الضلالة وللإِشعار بعلة الحكم .
ومعنى الآية : أنه - سبحانه - لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره . و " من " على هذا . مفعول { يهدى } وضمير الفاعل فى { يضل } لله - تعالى - والعائد محذوف ، أى من يضله .
وقرأ غير واحد من السبعة { فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي . . } بضم الياء وفتح الدال - على البناء للمفعول .
و " من " على هذا نائب فاعل ، والعائد وضمير الفاعل كما مر . . " .
والمعنى على هذه القراءة : إن تحرص على هداهم - يا محمد - لن ينفعهم حرصك ، فإن من أضله الله - تعالى - لا يهديه أحد .
وقوله : { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } تذييل مؤكد لما قبله .
أى : وليس لهؤلاء الضالين من ناصر يدفع عنهم عذاب الله - تعالى - إن نزل بهم ، أو يصرفهم عن سبيل الغى الذى آثروه على سبيل الرشد .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - :
{ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً . . }
{ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك مقولة أخرى من مقولاتهم الباطلة ، التى أكدوها بالأَيمان المغلظة ، ورد عليها بما يدمغها ، فقال - تعالى - : { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ . . . } .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِن تَحْرِصْ عَلَىَ هُدَاهُمْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلّ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء المشركين إلى الإيمان بالله واتباع الحقّ فإنّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الكوفيين : فإنّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ يَضِلّ بفتح الياء من «يهدي » ، وضمها من «يضلّ » . وقد اختلف في معنى ذلك قارئوه كذلك ، فكان بعض نحويي الكوفة يزعم أن معناه : فإن الله من أضله لا يهتدي ، وقال : العرب تقول : قد هُدي الرجل يريدون قد اهتدى ، وهُدي واهتدى بمعنى واحد . وكان آخرون منهم يزعمون أن معناه : فإن الله لا يهدي من أضله ، بمعنى : أن من أضله الله فإن الله لا يهديه . وقرأ ذلك عامّة قرّاء المدينة والشام والبصرة : «فإنّ اللّهَ لاَ يُهْدَى » بضم الياء من «يُهدى » ومن «يُضل » وفتح الدال من «يُهدَى » بمعنى : من أضله الله فلا هادي له .
وهذه القراءة أولى القراءتين عندي بالصواب ، لأن يَهْدي بمعنى يهتدى قليل في كلام العرب غير مستفيض ، وأنه لا فائدة في قول قائل : من أضله الله فلا يهديه ، لأن ذلك مما لا يجهله أحد . وإذ كان ذلك كذلك ، فالقراءة بما كان مستفيضا في كلام العرب من اللغة بما فيه الفائدة العظيمة أولى وأحرى .
فتأويل الكلام لو كان الأمر على ما وصفنا : إن تحرص يا محمد على هداهم ، فإن من أضله الله فلا هادي له ، فلا تجهد نفسك في أمره وبلغه ما أرسلت به لتتمّ عليه الحجة . وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يقول : وما لهم من ناصر ينصرهم من الله إذا أراد عقوبتهم ، فيحول بين الله وبين ما أراد من عقوبتهم .
وفي قوله : إنْ تَحْرِصْ لغتان : فمن العرب من يقول : حَرَصَ يَحْرِصُ بفتح الراء في فعَل وكسرها في يفعل . وحَرِصَ يَحْرَصُ بكسر الراء في فعِل وفتحها في يفعَل . والقراءة على الفتح في الماضي والكسر في المستقبل ، وهي لغة أهل الحجاز .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.