فأول ذلك ، لما أوجد اللّه رسوله موسى ، الذي جعل استنقاذ هذا الشعب الإسرائيلي على يديه وبسببه ، وكان في وقت تلك المخافة العظيمة ، التي يذبحون بها الأبناء ، أوحى إلى أمه أن ترضعه ، ويمكث عندها .
{ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } بأن أحسست أحدا تخافين عليه منه أن يوصله إليهم ، { فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ } أي نيل مصر ، في وسط تابوت مغلق ، { وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } فبشرها بأنه سيرده عليها ، وأنه سيكبر ويسلم من كيدهم ، ويجعله اللّه رسولا .
وهذا من أعظم البشائر الجليلة ، وتقديم هذه البشارة لأم موسى ، ليطمئن قلبها ، ويسكن روعها ، فإنها خافت عليه ، وفعلت ما أمرت به ، ألقته في اليم ، فساقه اللّه تعالى .
ثم فصل - سبحانه - الحديث عن موسى - عليه السلام - فذكر ما ألهمه لأمه عند ولادته . وما قالته امرأة فرعون له عند التقاط آل فرعون لموسى ، وما كانت عليه أم موسى من حيرة وقلق ، وما قالته لأخته ، وكيف رد الله - تعالى - بفضله وكرمه موسى إلى أمه . .
لنستمع إلى السورة الكريمة ، وهى تفصل هذه الأحداث ، بأسلوبها البديع المؤثر فتقول : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ . . . } .
قال الإمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما قال : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا } ابتدأ بذكر أوائل نعمه فى هذا الباب فقال : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } .
والوحى إلى أم موسى ، يجوز أن يكون عن طريق الإلهام ، كما فى قوله - تعالى - : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل . . } أو عن طريق المنام ، أو عن طريق إرسال ملك أخبرها بذلك .
قال الآلوسى : والظاهر أن الإيحاء إليها كان بإرسال ملك ، ولا ينافى ذلك الإجماع على عدم نبوتها ، لما أن الملائكة - عليهم السلام - قد ترسل إلى غير الأنبياء وتكلمهم .
والظاهر - أيضا - أن هذا الإيحاء كان بعد الولادة . . وقيل : كان قبلها . . .
و { أَنْ } فى قوله { أَنْ أَرْضِعِيهِ } مفسرة ، لأن الوحى فيه معنى القول دون حروفه .
والخوف : حالة نفسية تعترى الإنسان ، فتجعله مضطرب المشاعر ، لتوقعه حصول أمر يكرهه .
والحزن : اكتئاب نفسى يحدث للإنسان من أجل وقوع ما يكرهه ، كموت عزيز لديه . أو فقده لشىء يحبه .
وفى الكلام حذف يعرف من السياق ، والتقدير : وحملت أم موسى به فى الوقت الذى كان فرعون يذبح الأبناء ، ويستحيى النساء ، وأخفت حملها عن غيرها ، فلما وضعته اصابها ما أصابها من خوف وفزع على مصير ابنها ، وهنا ألهمناها بقدرتنا وإرادتنا . وقذفنا فى قلبها أن أرضعيه فى خفاء وكتمان { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } من فرعون وحاشيته أن يقتلوه كما قتلوا غيره من أبناء بنى إسرائيل .
{ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } أى : فى البحر والمراد به نهر النيل ، وسمى بحرا لاتساعه ، وإن كان الغالب إطلاق البحر على المياه غير العذبة .
{ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } أى : ولا تخافى عليه من حصول مكروه له ، ولا تحزنى لمفارقته لك ، فهو فى رعايتنا وحمايتنا ، ومن رعاه الله - تعالى - وحماه ، فلا خوف عليه ولا حزن .
وجملة { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } تعليل لنهى عن الخوف والحزن ، وتبشير لها بأن ابنها سيعود إليها ، وسيكون من رسل الله - عز وجل - .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما المراد بالخوفين - فى الآية - حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر ؟
قلت : أما الأول ، فالخوف عليه من القتل ، لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته ، فينموا عليه . وأما الثانى : فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع ، ومن الوقوع فى يد بعض العيون المبثوتة من قبل فرعون لى تطلب الولدان .
فإن قلت : ما الفرق بين الخوف والحزن ؟ قلت : الخوف ، غم يلحق الإنسان لشىء متوقع .
والحزن : غم يلحقه لشىء وقع ، فنهيت عنهما جميعا وأومنت بالوحى إليها ، ووعدت بما يلسيها ، ويمطئن قلبها ، ويملؤها غبطة وسرورا ، وهو رده إليها . وجعله من المرسلين .
وهكذا نجد الآية الكريمة قد اشتملت على أبلغ الأساليب وأبدعها ، فى بيان قدرة الله - تعالى - ورعايته لمن يريد رعايته .
قالوا : مدح الأصمعى امرأة لإنشادها شعرا حسنا ، فقرأت هذه الآية الكريمة قم قالت له : أبعد هذه الآية فصاحة ، لقد اشتملت على أمرين وهما { أَرْضِعِيهِ } { فَأَلْقِيهِ } ونهيين وهما { لاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } وخبرين { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } وبشارتين فى ضمن الخبرين وهما : الرد والجعل المذكوران .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ أُمّ مُوسَىَ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِيَ إِنّا رَآدّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وأوْحَيْنا إلى أُمّ مُوسَى حين ولدت موسى أنْ أرْضِعِيهِ .
وكان قَتادة يقول ، في معنى ذلك وأوْحَيْنا إلى أُمّ مُوسَى : قذفنا في قلبها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وأوْحَيْنا إلى أُمّ مُوسَى وحيا جاءها من الله ، فقذف في قلبها ، وليس بوحي نبوّة ، أن أرضعي موسى فإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمّ ، وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي . . . الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله وأوْحَيْنا إلى أُمّ مُوسَى قال : قذف في نفسها .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أمر فرعون أن يذبح من ولد من بني إسرائيل سنة ، ويتركوا سنة فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت بموسى فلما أرادت وضعه ، حزنت من شأنه ، فأوحى الله إليها أنْ أرْضِعِيهِ فإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَألْقِيهِ فِي اليَمّ .
واختلف أهل التأويل في الحال التي أمرت أمّ موسى أن تلقي موسى في اليم ، فقال بعضهم : أُمرت أن تلقيه في اليمّ بعد ميلاده بأربعة أشهر ، وذلك حال طلبه من الرضاع أكثر مما يطلب الصبيّ بعد حال سقوطه من بطن أمه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : أنْ أرْضِعِيهِ فإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ قال : إذا بلغ أربعة أشهر وصاح وابتغى من الرضاع أكثر من ذلك فأَلْقِيهِ حينئذٍ في اليَمّ فذلك قوله : فإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله ، قال : لم يقل لها : إذا ولدتيه فألقيه في اليمّ ، إنما قال لها أنْ أرْضِعيهِ ، فإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقيهِ فِي الْيَمّ بذلك أُمرت ، قال : جعلته في بستان ، فكانت تأتيه كلّ يوم فترضعه ، وتأتيه كلّ ليلة فترضعه ، فيكفيه ذلك .
وقال آخرون : بل أُمِرت أن تلقيه فِي اليم بعد ولادها إياه ، وبعد رضاعها . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما وضعته أرضعته ثم دعت له نجارا ، فجعل له تابوتا ، وجعل مفتاح التابوت من داخل ، وجعلته فيه ، فألقته في اليّم .
وأولى قول قيل في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر أمّ موسى أن ترضعه ، فإذا خافت عليه من عدوّ الله فرعون وجنده أن تلقيه في اليمّ . وجائز أن تكون خافتهم عليه بعد أشهر من ولادها إياه وأيّ ذلك كان ، فقد فعلت ما أوحى الله إليها فيه ، ولا خبر قامت به حجة ، ولا فطرة في العقل لبيان أيّ ذلك كان من أيٍّ ، فأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يُقال كما قال جلّ ثناؤه . واليمّ الذي أُمِرَت أن تلقيه فيه هو النيل . كما :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فَألْقِيهِ فِي الْيَمِ قال : هو البحر ، وهو النيل . وقد بيّنا ذلك بشواهده ، وذكر الرواية فيه فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
وقوله : وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي يقول : لا تخافي على ولدك من فرعون وجنده أن يقتلوه ، ولا تحزني لفراقه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي قال : لا تخافي عليه البحر ، ولا تحزني لفراقه إنّا رَادّوه إلَيْكِ .
وقوله : إنّا رَادّوهُ إلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ يقول : إنا رادّو ولدك إليك للرضاع لتكوني أنت ترضعيه ، وباعثوه رسولاً إلى من تخافينه عليه أن يقتله ، وفعل الله ذلك بها وبه . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق إنّا رَادّوهُ إلَيْكِ وباعثوه رسولاً إلى هذه الطاغية ، وجاعلو هلاكه ونجاة بني إسرائيل مما هم فيه من البلاء على يديه .