فلم ينجع فيهم هذا الكلام ، ولا نفع فيهم الملام ، فقالوا قول الأذلين : { يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }
فما أشنع هذا الكلام منهم ، ومواجهتهم لنبيهم في هذا المقام الحرج الضيق ، الذي قد دعت الحاجة والضرورة إلى نصرة نبيهم ، وإعزاز أنفسهم .
وبهذا وأمثاله يظهر التفاوت بين سائر الأمم ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم -حين شاورهم في القتال يوم " بدر " مع أنه لم يحتم عليهم : يا رسول الله ، لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، ولو بلغت بنا برك الغماد ما تخلف عنك أحد . ولا نقول كما قال قوم موسى لموسى : { اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، من بين يديك ومن خلفك ، وعن يمينك وعن يسارك .
ولكن هذه النصيحة الحكيمة من هذين الرجلين المؤمنين ، لم تصادف من بني إسرائيل قلوبا واعية ، ولا آذانا صاغية بل قابلوها بالتمرد والعناد وكرروا لنبيهم موسى عليه السلام - نفيهم القاطع للإِقدام على دخول الأرض المقدسة ما دام الجبارون فيها فقالوا - كما حكى القرآن عنهم : { ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا } .
أي : قالوا غير عابئين بالنصيحة . بل معلنين العصيان والمخالفة : يا موسى إنا لن ندخل هذه الأرض التي أمرتنا بدخولها في أي وقت من الأوقات ، ما دام أولئك الجبارون يقيمون فيها ، لأننا لا قدرة لنا على مواجهتهم .
وقد أكدوا امتناعهم عن دخول هذه الأرض في هذه المرة بثلاث مؤكدات ، هي : إن ، ولن ، وكلمة أبدا .
أي : لن ندخلها بأي حال من الأحوال ما دام الجبارون على قيد الحياة ويسكنون فيها .
ثم أضافوا إلى هذا القول الذي يدل على جبنهم وخورهم ، سلاطة في اللسان ، وسوء أدب في التعبير ، وتطاولا على نبيهم فقالوا : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } .
أي : إذا كان دخول هذه الأرض يهمك أمره ، فاذهب أنت وربك لقتال سكانها الجبابرة وأخرجاهم منها لأنه - سبحانه - ليس ربا لهم - في زعمهم - إن كانت ربوبيته تكلفهم قتال سكان تلك الأرض .
وقولهم : { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } تأكيد منهم لعدم دخولهم لتلك الأرض المقدسة .
أي : إنا ها هنا قاعدون في مكاننا لن نبرجه ، ولن نتقدم خطوة إلى الأمام لأن كل مجد وخير يأتينا عن طريق قتال الجبارين فنحن في غنى عنه ، ولا رغبة لنا فيه .
وإن هذا الوصف الذي وصفوا به أنفسهم ، ليدل على الخسة وسقوط الهمة ، لأن القعود في وقت وجوب النشاط للعمل الصالح يؤدي بصاحبه إلى المذمة ، والمذلة ، قال - تعالى - ذمٍّا لأمثالهم : { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين } قال الآلوسي ما ملخصه : وقوله - تعالى - حكاية عنهم : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا } قالوا ذلك استهانة واستهزاء به - سبحانه - وبرسوله موسى وعدم مبالاة . وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبئ عنه غاية جهلهم ، وقسوة قلوبهم والمقابلة : { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } .
ولم يذكروا أخه هارون ولا الرجلين اللذين قالا ، كأنهم لم يجزموا بذهابهم ، أو يعبأوا بقتالهم وأرادوا بالعقود عدم التقدم لا عدم التأخر ثم قصت علينا السورة الكريمة أن موسى - عليه السلام -
{ قَالُواْ يَامُوسَىَ إِنّا لَنْ نّدْخُلَهَآ أَبَداً مّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلآ إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } . .
وهذا خبر من الله جلّ ذكره عن قول الملإ من قوم موسى لموسى ، إذ رغبوا في جهاد عدوّهم ، ووعدوا نصر الله إياهم ، إن هم ناهضوهم ، ودخلوا عليهم باب مدينتهم أنهم قالوا له : إنّا لَنْ نَدْخُلَها أبَدا يعنون : إنا لن ندخل مدينتهم أبدا . والهاء والألف في قوله : إنّا لَنْ نَدْخُلَها من ذكر المدينة . ويعنون بقولهم : أبدا : أيام حياتنا ما داموا فيها ، يعني : ما كان الجبارون مقيمين في تلك المدينة التي كتبها الله لهم وأُمروا بدخولها . فاذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ لا نجيء معك يا موسى إن ذهبت إليهم لقتالهم ، ولكن نتركك تذهب أنت وحدك وربك فتقاتلانهم .
وكان بعضهم يقول في ذلك : ليس معنى الكلام : اذهب أنت وليذهب معك ربك فقاتلا ، ولكن معناه : اذهب أنت يا موسى ، وليُعِنْك ربك ، وذلك أن الله لا يجوز عليه الذهاب . وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له لو كان الخبر عن قوم مؤمنين ، فأما قوم أهل خلاف على الله عزّ ذكره وسوله ، فلا وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في الله عزّ وجلّ وافترَوا عليه إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم . وقد ذكر عن المقداد أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قال قوم موسى لموسى .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، وحدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن مخارق ، عن طارق : أن المقداد بن الأسود قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكم مقاتلون .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية ، حين صدّ المشركون الهدي وحيل بينهم وبين مناسكهم : «إنّى ذَاهِبٌ بالهَدْي فَناحِرُهُ عِنْدَ البَيْتِ » . فقال له المقداد بن الأسود : أما والله لا نكون كالملإ من بني إسرائيل ، إذ قالوا لنبيهم : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ، ولكن : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون فلما سمعها أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم تتابعوا على ذلك .
وكان ابن عباس والضحاك بن مزاحم وجماعة غيرهما يقولون : إنما قالوا هذا القول لموسى عليه السلام حين تبين لهم أمر الجبارين وشدة بطشهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : أمر الله جلّ وعزّ بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدسة مع نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم ، فلما كانوا قريبا من المدينة قال لهم موسى : ادخلوها فأبوا وجبنوا ، وبعثوا اثني عشر نقيبا لينظروا إليهم . فانطلقوا فنظروا ، فجاءوا بحبة فاكهة من فاكهتهم بوقر الرجل ، فقالوا : قدروا قوّة قوم وبأسهم هذه فاكهتهم فعند ذلك قالوا لموسى : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبّكَ فَقاتِلا إنّا هَهُنا قاعِدُونَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس نحوه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.