ثم مدح من غض صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأن الله امتحن قلوبهم للتقوى ، أي : ابتلاها واختبرها ، فظهرت نتيجة ذلك ، بأن صلحت قلوبهم للتقوى ، ثم وعدهم المغفرة لذنوبهم ، المتضمنة لزوال الشر والمكروه ، والأجر العظيم ، الذي لا يعلم وصفه إلا الله تعالى ، وفي الأجر العظيم وجود المحبوب{[795]} وفي هذا ، دليل على أن الله يمتحن القلوب ، بالأمر والنهي والمحن ، فمن لازم أمر الله ، واتبع رضاه ، وسارع إلى ذلك ، وقدمه على هواه ، تمحض وتمحص للتقوى ، وصار قلبه صالحًا لها ومن لم يكن كذلك ، علم أنه لا يصلح للتقوى .
{ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } نزلت في ثابت ابن قيس بن شماس وكان جهوري الصوت وربما كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينادي بصوته فأمروا بغض الصوت عند مخاطبته { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } لاتنزلوه منزلة بعضكم من بعض فتقولوا يا محمد ولكن خاطبوه بالنبوة والسكينة والإعظام { أن تحبط أعمالكم } كي لا تبطل حسناتكم { وأنتم لا تشعرون } أن خطابه بالجهر ورفع الصوت فوق صوته يحبط العمل فلما نزلت هذه الآية خفض أبو بكر وعمر رضي الله عنهما صوتهما فما كلما النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار فأنزل الله تعالى { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } أي اختبرها وأخلصها للتقوى
قوله تعالى : " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله " أي يخفضون أصواتهم عنده إذا تكلموا إجلالا له ، أو كلموا غيره بين يديه إجلالا له . قال أبو هريرة : لما نزلت " لا ترفعوا أصواتكم " قال أبو بكر رضي الله عنه : والله لا أرفع صوتي إلا كأخي السِّرَارِ{[14061]} . وذكر سنيد قال : حدثنا عباد بن العوام عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة قال : لما نزلت : " لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " [ الحجرات : 1 ] قال أبو بكر : والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعد هذا إلا كأخي السِّرَارِ . وقال عبد الله بن الزبير : لما نزلت : " لا ترفعوا أصواتكم " ما حدث عمر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض ، فنزلت : " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى " . قال الفراء : أي أخلصها للتقوى . وقال الأخفش : أي اختصها للتقوى . وقال ابن عباس : " امتحن الله قلوبهم للتقوى " طهرهم من كل قبيح ، وجعل في قلوبهم الخوف من الله والتقوى . وقال عمر رضي الله عنه : أذهب عن قلوبهم الشهوات . والامتحان افتعال من محنت الأديم محنا حتى أوسعته . فمعنى أمتحن الله قلوبهم للتقوى وسعها وشرحها للتقوى . وعلى الأقوال المتقدمه : امتحن قلوبهم فأخلصها ، كقولك : امتحنت الفضة أي اختبرتها حتى خلصت . ففي الكلام حذف يدل عليه الكلام ، وهو الإخلاص . وقال أبو عمرو : كل شيء جهدته فقد محنته . وأنشد :
أتتْ رذايا باديًا كَلاَلها *** قد محنت واضطربت آطالُها{[14062]}
ولما تقدم سبحانه في الإخلال بشيء من حرمته صلى الله عليه وسلم ونهى عن رفع الصوت والجهر الموصوف ، أنتج المخافة عنده على سبيل الإجلال ، فبين ما لمن حافظ على ذلك الأدب العظيم ، فقال مؤكداً لأن-{[60697]} في المنافقين وغيرهم من{[60698]} يكذب بذلك ، وتنبيهاً . على أنه لمحبة الله له ورضاه به أهل لأن يؤكد أمره ويواظب على فعله : { إن الذين يغضون } أي يخفضون ويلينون لما وقع عليهم من السكينة من هيبة حضرته ، قال الطبري{[60699]} : وأصل الغض الكف في{[60700]} لين { أصواتهم } تخشعاً وتخضعاً ورعاية للأدب وتوقيراً .
ولما كان المبلغ ربما أنساه اللغط{[60701]} ورفع الأصوات ما كان-{[60702]} يريد أن يبلغه " {[60703]}إنه بينت لي{[60704]} ليلة القدر فخرجت لأخبركم بها فتلاحى رجلان فأنسيتها وعسى أن يكون خيراً لكم " قال : { عند رسول الله } أي الذي من شأنه أن يعلو كلامه على كل كلام ، لأنه {[60705]}مبلغ من{[60706]} الملك الأعظم وعبر بعند التي للظاهر إشارة إلى أن أهل حضرة الخصوصية لا يقع منهم إلا أكمل الأدب .
ولما ابتدأ ذكرهم مؤكداً تنبيهاً على عظيم ما ندبوا إليه ، زاده إعظاماً بالإشارة إليهم بأداة البعد فقال : { أولئك } أي العالو الرتب{[60707]} لما لهم من علو الهمم بالخضوع لمن أرسله مولاهم{[60708]} الذي لا إحسان عندهم{[60709]} إلا منه { الذين امتحن الله } أي فعل المحيط بجميع صفات الكمال فعل المختبر بالمخالطة البليغة بالشدائد{[60710]} على وجه يؤدي إلى المنحة{[60711]} باللين والخلوص من كل درن ، والانشراح والاتساع { قلوبهم } فأخلصها { للتقوى } أي الخوف المؤدي إلى استعداد صاحبه بإقامة ما يقيه من كل مكروه ، والامتحان : اختبار بليغ يؤدي إلى خبر ، فالمعنى أنه طهر قلوبهم ونقاها كما{[60712]} يمتحن الصائغ الذهب والفضة بالإذابة للتنقية والتخليص من كل غش {[60713]}لأجل إظهار{[60714]} ما بطن فيها من التقوى{[60715]} ليصير معلوماً للخلق في عالم الشهادة كما كان معلوماً له سبحانه-{[60716]} في عالم الغيب ، وهو خروجهم عن العادات البشرية ومفارقتهم لما توجبه الطبيعة ، وهو حقيقة التوحيد ، فإن التقوى لا تظهر إلا عند المحن والشدائد بالتكاليف وغيرها ، ولا تثبت إلا بملازمة الطاعة في المنشط والمكره والخروج عن مثل ذلك .
ولما كان الإنسان وإن اجتهد في الإحسان محلاًّ للنقصان ، استأنف الإخبار عن جزائهم بقوله : معرباً له من فاء السبب ، إشارة إلى-{[60717]} أن ذلك بمحض إحسانه : { لهم مغفرة } أي لهفواتهم وزلاتهم { وأجر عظيم * } أي جزاء لا يمكن وصفه على محاسن ما فعلوه .
{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم }
ونزل فيمن كان يخفض صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر وغيرهما رضى الله عنهم :
{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن } اختبر { الله قلوبهم للتقوى } أي لتظهر منهم { لهم مغفرة وأجر عظيم } الجنة ، ونزل في قوم جاءُوا وقت الظهيرة والنبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم في منزله فنادوه .