فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّـٰبِرِينَ} (126)

{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ( 126 ) }

ثم لما كانت الدعوة تتضمن تكليف المدعوين بالرجوع إلى الحق فإن أبوا قوتلوا ، أمر الداعي بأن يعدل في العقوبة فقال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ } ، أي : بمثل ما فعل بكم لا تجاوزوا ذلك .

قال ابن جرير : نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداها إلى غيرها ونحوه في البيضاوي ، وهذا صواب ؛ لأن الآية وإن قيل إن لها سببا خاصا كما سيأتي فالاعتبار بعموم اللفظ وعمومه يؤدي هذا المعنى الذي كرره ، وسمى سبحانه الفعل الأول الذي هو فعل البادئ بالشر عقوبة مع أن العقوبة ليست إلا فعل الثاني وهو المجازي ، للمشاكلة وهي باب معروف وقع في كثير من الكتاب العزيز .

ثم حث سبحانه على العفو فقال : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ } عن المعاقبة بالمثل وعن الانتقام بتركه بالكلية ، { لَهُوَ } ، بضم الهاء وسكونها قراءتان سبعيتان ، أي : فالصبر ، { خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } ، من الانتصاف ، ووضع الصابرين موضع الضمير ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد .

وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية محكمة ؛ لأنها واردة في الصبر عن المعاقبة والثناء على الصابرين على العموم ، وفي تعليم حسن الأدب في كيفية استيفاء الحقوق والقصاص وترك التعدي وهو طلب الزيادة ، وهذه الأشياء لا تكون منسوخة ولا تعلق لها بالنسخ ، وقيل هي منسوخة بآيات القتال ، وبه قال ابن عباس والضحاك ولا وجه لذلك .

أخرج الترمذي وحسنه ، والنسائي وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم ، عن أبي ابن كعب قال : لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم ، فقالت الأنصار : لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم ، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله تعالى : { وإن عاقبتم } الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( نصبر ولا نعاقب : كفوا عن القوم إلا أربعة ) {[1069]} .

وأخرج الطبراني والحاكم وصححه البيهقي وغيرهم ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف على حمزة حيث استشهد ، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ، ونظر إليه قد مثل به فقال : ( رحمة الله عليك ، فإنك كنت ما علمت ، وصولا للرحم ، فعولا للخير ، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من أرواح شتى ، أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك ) ، فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم واقف بخواتيم سورة النحل : { وإن عاقبتم } الآية ، فكفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن يمينه ، وأمسك عن الذي أراد وصبر ، وعن ابن عباس مرفوعا نحوه أخرجه الطبراني وابن المنذر وغيرهما{[1070]} .

وهذا القول من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنه باجتهاد منه وعليه فلينظر هل قوله تعالى : { ولئن صبرتم } الخ ، نسخ لهذا الاجتهاد أو تنبيه على خطئه تأمل ، وعنه قال هذا حين أمر الله نبيه أن يقاتل من قاتله ، ثم نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرام فهذا منسوخ .


[1069]:المستدرك كتاب التفسير 2 / 359.
[1070]:المستدرك كتاب حمزة 3 / 197.