وتسمى سورة " سبحان " ، وسورة " الإسراء " . مائة وإحدى عشر آية . وهي مكية ، وبه قال ابن عباس . وعن ابن الزبير مثله ، إلا ثلاث آيات : قوله : { وإن كادوا ليستفزونك } ، نزلت حين جاء رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم وفدُ ثقيف ، وحين قالت اليهود : ليست هذه بأرض الأنبياء ، وقوله : { رب أدخلني مدخل صدق } ، وقوله : { إن ربك أحاط بالناس } ، وزاد مقاتل قوله :{ إن الذين أوتوا العلم من قبله } . وقيل الآيات الثمان .
وعن ابن مسعود قال في هذه والكهف ومريم : " إنهن من العِتاق الأُول ، وهن من تِلادي " . وعن عائشة قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر " .
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ( 1 ) }
{ سُبْحَانَ } هو مصدر سماعي لسبح المشدد أو اسم مصدر ، يقال سبح يسبح تسبيحا وسبحانا أو مصدر قياسي لسبح المخفف ، فإنه يقال سبح في الماء ، ومعناه التنزيه والبعد والبراءة لله سبحانه من كل نقص وسوء ، وعلى كل فهو علم جنس للتنزيه والتقديس .
وقال سيبويه : العامل فيه فعل لا من لفظه ، والتقدير أنزه الله تنزيها ، فوقع سبحان مكان تنزيها فهو على هذا مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء ، وقيل هو علم للتسبيح كعثمان للرجل أي أسبح الله سبحان ثم نزل منزلة الفعل وسد مسده ودل على التسبيح البليغ والتنزيه الكامل ولذا لا يستعمل إلا فيه تعالى .
{ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } الإسراء قيل هو سير الليل يقال سرى وأسرى كسقى وأسقى لغتان بمعنى سار في الليل وهما لازمان لكن مصدر الأول الإسراء ومصدر الثاني سرى بضم السين كهدى فالهمزة ليست للتعدية إلى المفعول وإنما جاءت التعدية هنا من الباء ومعنى أسرى به صيره ساريا في الليل ، وقيل هو سير أول الليل خاصة .
وإذا كان الإسراء لا يكون إلا في الليل فلا بد للتصريح بذكر الليل بعده من فائدة ، فقيل أراد بقوله : { لَيْلاً } تقليل مدة الإسراء وإنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسافة أربعين ليلة ، ووجه دلالة ليلا على تقليل المدة ما فيه من التنكير على البعضية بخلاف ما إذا قلت سريت الليل فإنه يفيد استيعاب السير له جميعا .
وقد استدل صاحب الكشاف على إفادة ليلا للبعضية بقراءة عبد الله وحذيفة من الليل أي في جزء من الليل ، قيل قدر أربع ساعات ، وقيل ثلاث وقيل أقل من ذلك ، والتقليل والتبعيض متقاربان ، فاستعمل في التبعيض ما هو للتقليل وقال الزجاج : معنى الآية سير عبده محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ليلا وعلى هذا معنى أسرى سير فيكون للتقييد بالليل فائدة .
وقد أجمع المفسرون والعلماء والمتكلمون على أن المراد بالعبد محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يختلف أحد من الأمة في ذلك وقال بعبده ولم يقل بنبيه أو برسوله أو بمحمد تشريفا له صلى الله عليه وآله وسلم .
قال أهل العلم : لو كان غير هذا الاسم أشرف منه لسماه الله سبحانه به في هذا المقام العظيم والحالة العلية .
أصم إذا نوديت باسمي وإنني *** إذا قيل لي يا عبدها لسميع
لا تدعني إلا بيا عبدها *** *** فإنه أشرف أسمائي
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : أسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة . وعن ابن شهاب قال : أسري به إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة . وعن عروة نحوه . وقال السدي : قبل مهاجره بستة عشر شهرا .
{ مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } قال الحسن وقتادة : يعني المسجد نفسه ، وهو ظاهر القرآن ، وقال عامة المفسرين : أسري به صلى الله عليه وآله وسلم من دار أم هانئ ، فحملوا المسجد الحرام على مكة أو الحرم لإحاطة كل منهما بالمسجد الحرام أو لأن الحرم كله مسجد .
وفي حديث مالك بن صعصعة أن رسول الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر ) وذكر حديث المعراج بكماله ومن ابتدائية ثم ذكر سبحانه الغاية التي أسرى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليها فقال : { إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى } وهو بيت المقدس ، وسمي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام فهو أبعد بالنسبة إلى من بالحجاز وفي تاريخ القدس أنه سمي به لأنه أبعد المساجد التي تزار من المسجد ، وقيل لبعده عن الأقذار والخبائث ، وقيل لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد ، وفي ذلك من تربية معنى التنزيه والتعجب ما لا يخفى .
وأول من بناه آدم بعد أن بنى الكعبة بأربعين سنة كما في المواهب . فهو أول مسجد بني في الأرض بعد الكعبة ، وتمام حاله في كتابنا لقطة العجلان فيما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان .
وكان الإسراء به ببدنه في اليقظة وكان قبلها في المنام كما أنه رأى فتح مكة سنة ست وتحقق منه سنة ثمان ؛ والحكمة في إسرائه إلى بيت المقدس دون العروج به من مكة لأنه محشر الخلائق فيطؤه بقدمه ليسهل على أمته يوم القيامة وقوفهم ببركة أثر قدمه أو لأنه مجمع أرواح الأنبياء ، فأراد أن يشرفهم بزيارته صلى الله عليه وآله وسلم ، أو ليخبر الناس بصفاته فيصدقوه في الباقي ، قاله الكرخي والوجه الأخير أظهر والله أعلم .
ثم وصف المسجد الأقصى بقوله : { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } بركة دنيوية وهي ليست إلا حول الأقصى ، وأما في الداخل فالبركة في كل من المسجدين بل هي في الحرام أتم ، وهي كثرة الثواب بالعبادة فيهما ، وعبارة الخازن يعني بالثمار والأنهار والأشجار أو بالأنبياء والصالحين لأن قبلتهم قبل نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وسماه مباركا لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي ، وإليه تحشر الخلق يوم القيامة ، فقد بارك الله سبحانه حول المسجد الأقصى ببركات الدنيا والآخرة .
قال السدي : المعنى أنبتنا حوله الشجر وجعل الإسراء إليه كالتوطئة لمعراجه إلى السماء .
ثم ذكر العلة أي أسري به لأجلها فقال : { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا } ما أراه الله سبحانه في تلك الليلة من العجائب التي من جملتها قطع هذه المسافة الطويلة في جزء من الليل ، ومن تبعيضية وإنما أتى بها تعظيما لآيات الله ، فإن الذي رآه صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان جليلا عظيما فهو بعض بالنسبة إلى آيات الله تعالى وعجائب قدرته وجليل حكمته ، قاله أبو شمامة والرؤية هنا بصرية وقيل قلبية ، وإليه نحا ابن عطية .
{ إِنَّهُ } سبحانه { هُوَ السَّمِيعُ } بكل مسموع ، ومن جملة ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { البَصِيرُ } بكل مبصر ، ومن جملة ذلك ذات رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله ، قيل في هذه الآية أربعة التفاتات ، وذلك أنه التفت أولا من الغيبة في قوله الذي أسرى بعبده إلى التكلم في قوله باركنا حوله .
ثم التفت ثانيا من التكلم في باركنا إلى الغيبة في ليريه على قراءة الحسن بالياء ، ثم التفت ثالثا من هذه الغيبة إلى التكلم في آياتنا ، ثم التفت رابعا من هذا التكلم إلى الغيبة في قوله أنه هو على الصحيح في الضمير { إنه } لله تعالى .
وأما على قول نقله أبو البقاء إن الضمير في أنه صلى الله عليه وآله وسلم فلا يجيء ذلك ، ويكون في قراءة العامة واحد وفي قراءة الحسن ثلاثة ، وهذا موضع غريب ، وأكثر ما ورد الالتفات ثلاث مرات على ما قال الزمخشري في قول امرئ القيس :
تطاول ليلك بالأثمد ( الأبيات )
وقيل فيها خمسة التفاتات ، والخامس الالتفات من قوله إنه هو إلى التكلم في قوله الآتي : { وَآتَيْنَا مُوسَى } .
وقد اختلف أهل العلم هل كان الإسراء بجسده صلى الله عليه وآله وسلم مع روحه أو بروحه فقط ، فذهب معظم السلف والخلف إلى الأول ، وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم منهم عائشة ومعاوية والحسن وابن إسحاق ، وحكاه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان .
وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح ، واستدلوا على هذا التفصيل بقوله إلى المسجد الأقصى فجعله غاية للإسراء بذاته صلى الله عليه وآله وسلم فلو كان الإسراء من بيت المقدس إلى السماء وقع بذاته لذكره .
والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من الإسراء بجسده وروحه يقظة إلى بيت المقدس ثم إلى السماوات ولا حاجة إلى التأويل وصرف هذا النظم القرآني وما يماثله من ألفاظ الأحاديث إلى ما يخالف الحقيقة ، ولا مقتضى لذلك إلا مجرد الاستبعاد وتحكيم محض العقول القاصرة عن فهم ما هو معلوم من أنه لا يستحيل عليه سبحانه شيء .
ولو كان ذلك مجرد رؤيا كما يقوله من زعم أن الإسراء كان بالروح فقط وأن رؤيا الأنبياء حق لم يقع التكذيب من الكفرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند إخباره لهم بذلك حتى ارتد ممن لم يشرح بالإيمان صدرا ، فإن الإنسان قد يرى في نومه ما هو مستبعد بل ما هو محال ولا ينكر ذلك أحد .
وأما التمسك لمن قال بأن هذا الإسراء إنما كان بالروح على سبيل الرؤيا بقوله : { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } فعلى تسليم أن المراد بهذه الرؤيا هو الإسراء فالتصريح الواقع هنا بقوله سبحانه الذي أسرى بعبده ليلا ؛ والتصريح في الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأنه أسرى به لا يقصر عن الاستدلال به على تأويل هذه الرؤيا الواقعة في الآية برؤية العين ، فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا .
وكيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريح الأحاديث الصحيحة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركب البراق ، وكيف يصح وصف الروح بالركوب ، وهكذا كيف يصح حمل الإسراء على الرؤيا مع تصريحه صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كان عند أن أسرى به بين النائم واليقظان ، فالأولى ما ذهب إليه الجمهور إذ لا فضيلة للحالم ولا مزية للنائم .
وقد اختلف أيضا في تاريخ الإسراء فروي أن ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة ، وروي أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام ، ووجه ذلك أن خديجة صلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ماتت قبل الهجرة بخمس سنسن ، وقيل بثلاث ، وقيل بأربع ، ولم تفرض الصلاة إلا ليلة الإسراء وقد استدل بهذا ابن عبد البر على ذلك .
وقد اختلفت الرواية عن الزهري وممن قال بأن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة . الزهري في رواية عنه ، وكذلك الحربي فإنه قال : أسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة .
وقال ابن القاسم في تاريخه : كان الإسراء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا ، قال ابن عبد البر : لا أعلم أحدا من أهل السير قال بمثل هذا ، وروي عن الزهري أنه أسري به قبل مبعثه بسبعة أعوام ، وروي عنه أنه قال : كان قبل مبعثه بخمس سنسن ، وروى يونس عن عروة عن عائشة أنها قالت : توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة .
وأعلم أنه أطال كثير من المفسرين كابن كثير والسوطي وغيرهما في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها وما يتعلق بها من الأحكام وما قال أهل العلم فيه وما ظهر بعد المعراج من الآيات الدالة على صدقه .
وليس في ذلك كثير فائدة فهي معروفة في مواضيعها من كتب الحديث ، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى وهو مبحث آخر ، والمقصود في كتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز وذكر أسباب النزول وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية ، وما عدا ذلك فهو فضل لا تدعو إليه حاجة .