3- { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } .
مثلما أوحينا إليك في هذه السورة وغيرها ، أوحينا إلى الذين من قبلك من المرسلين ، مثل نوح وهود وصالح وموسى وعيسى ، فمحمد ليس بدعا من الرسل ، والوحي إليه أصيل وثابت للرسل السابقين عليه ، فالوحي لغة : الإعلام ، وشرعا : إعلام الله تعالى من يختاره من البشر ، ليبلغه بالتشريع والأحكام التي يريد الله أن يبلغها لعباده .
فالموحي هو الله ، والملاك جبريل أمين الوحي ، والوحي هو الرسالة التي ينقلها جبريل عن الله إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وإخوانه السابقين عليه ، ليبلغوها للمرسل إليهم ، والوحي فيه عناية السماء بالأرض ، وتشريف للرسل ، وتشريف لنا نحن المرسل إليهم ، حيث أنزل الله علينا الوحي ، واختار لنا رسولا مبشرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وجعله الله تعالى خاتم النبيين الذين يوحى إليهم ، فالرسول أعم من النبي ، لأن الرسول يوحى إليه بشرع ويكلف بالتبليغ ، والنبي يوحى إليه بشرع ولا يكلف بالتبليغ ، ومن ثم فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا ، فإذا ختم الله النبيين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقد ختم المرسلين أيضا ، فمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، وهو أيضا خاتم المرسلين .
وقد قرأ حفص ( خاتَم ) بفتح التاء ، وقرأ الستة الباقون من القراء ( خاتِم ) بكسر التاء .
قال تعالى : { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما } . ( الأحزاب : 40 ) .
فالوحي شرف للبشرية ، وهداية من السماء ، وعناية عليا من الله بعباده ، حيث يختار بعض خلقه ليحملوا هدى السماء وتشريع الله ، وآداب الوحي ، وأخبار الأمم ، ومعالم القيامة ليوصلوا كل ذلك إلى البشر ، حتى تبلغهم الحجة ، ويصل إليهم الدليل على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .
وفي سورة النساء الآيات ( 163-166 ) يقول تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ( 163 ) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( 164 ) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 165 ) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( 166 ) } .
وخلاصة ما تشير إليه الآية الثالثة من سورة الشورى أن الله تعالى ذكر معاني هذه السورة في القرآن الكريم وفي جميع الكتب السماوية ؛ لما فيها من الإرشاد إلى الحق ، وهو { العزيز } . الغالب في انتقامه ، { الحكيم } . في أقواله وأفعاله .
وقوله تعالى : { كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإلى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم } كلام مستأنف وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعيف الكتب المنزلة على سائر الرسل المتقدمين في الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق أو أن إيحاءها بعد تنويهها بذكر اسمها والتنبيه على فخامة شأنها ، والكاف مفعول { يُوحَى } على الأول : أي يوحى مثل ما في هذه السورة من المعاني أو نعت لمصدر مؤكد على الثاني : أي يوحى إيحاء مثل إيحائها إليك وإلى الرسل أي بواسطة الملك ، وهي في الوجهين اسم كما هو مذهب الأخفش وإن شئت فاعتبرها حرفاً واعتبر الجار والمجرور مفعولاً أو متعلقاً بمحذوف وقع نعتاً ، وقول العلامة الثاني في التلويح : إن جار الله لا يجوز الابتداء بالفعل ويقدر المبتدأ في جميع ما يقع فيه الفعل ابتداء كلام غير مسلم وقد ترددوا فيه حتى قيل : إنه لم يظهر له وجه .
وجوز أبو البقاء كون { كذلك } مبتدأ { ويوحى } الخبر والعائد محذوف أي مثل ذلك يوحيه إليك الخ وحذف مثله شائع في الفصيح ، نعم هذا الوجه خلاف الظاهر ، والإشارة كما أشرنا إليه إلى ما في السورة أو إلى إيحائها ، والدلالة على البعد لبعد منزلة المشار إليه في الفضل ، وصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمراره في الأزمنة الماضية وأن إيحاء مثله عادته عز وجل ، وقيل : إنها على التغليب فإن الوحي إلى من مضى مضى وإليه عليه الصلاة والسلام بعضه ماض وبعضه مستقبل ، وجوز أن تكون على ظاهرها ويضمر عامل يتعلق به { تَرَ إلى الذين } أي وأوحى إلى الذين وهو كما ترى ، وفي جعل مضمون السورة أو إيحائها مشبهاً به من تفخيمها ما لا يخفي .
وقرأ مجاهد . وابن كثير . وعياش . ومحبوب كلاهما عن أبي عمرو { يُوحَى } مبنياً للمفعول على أن { كذلك } مبتدأ { ويوحى } خبره المسند إلى ضميره أو مصدر و { لِمَا يُوحَى } مسند إلى { إِلَيْكَ } و { الله } مرتفع عند السكاكي على الفاعلية ليوحى الواقع في جواب من يوحى ؟ نحو ما قرروه في قوله تعالى : { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ } [ النور : 36 ، 37 ] على قراءة { يُسَبّحُ } بالبناء للمفعول ، وقوله :
ليبك يزيد ضارع لخصومة *** ومختبط مما تطيح الطوائح
وقال الزمخشري : رافعه ما دل عليه { يُوحَى } كأن قائلاً قال : من الموحي ؟ فقيل : الله وإنما قدر كذلك على ما قاله صاحب الكشف ليدل على أن الإيحاء مسلم معلوم وإنما الغرض من الإخبار إثبات اتصافه بأنه تعالى من شأنه الوحي لا إثبات أنه موح ، ولم يرتض القول بعدم الفرق بين هذا وقوله تعالى : { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ } بل أوجب الفرق لأن الفعل المضارع هنالك على ظاهره لم يؤت به للدلالة على الاستمرار ولهم فيه مقال .
و { العزيز الحكيم } صفتان له تعالى عند الشيخين ، وجوز أبو حيان كون الاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبر له وقيل : { الله العزيز الحكيم } إلى آخر السورة قائم مقام فاعل { يُوحِى } أي هذه الكلمات .
وقرأ أبو حيوة . والأعشى عن أبي بكر . وأبان { نُوحِى } بنون العظمة فالله مبتدأ وما بعده خبر أو { العزيز الحكيم } صفتان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.