8- { ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير } .
لو أراد الله أن يختار الناس جميعا الإسلام لهداهم إليه ، ولو أراد أن يختاروا جميعا الكفر لما أرسل الرسل ، ولما أنزل الكتب ، لكنه إله عادل ، ولا يعذب الناس إلا بعد إعذار وإنذار : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } . ( الإسراء : 15 ) .
فلو شاء الله أن يقسر الناس على الهدى لفعل ، ولو شاء أن يتركهم أمة واحدة لفعل ، لكنه سبحانه حكيم عادل ، خلق آدم بالعقل والإرادة ، وجعله أهلا لتحمل المسؤولية ، واستخلف بني آدم في الأرض ، وأعطاهم العقول والإرادة والاختيار ، وأرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وقص على البشرية أخبار المكذبين ، وأنعم الله على المؤمنين ، عندئذ من آمن استحق رحمة الله عن جدارة ، ومن كفر استحق العذاب والعقاب ، ولن يجد أحدا ينصره أو يمنعه من عقاب الله تعالى .
المتأمل في حالة الكون قبل الرسالة الإسلامية يجد أن العالم كانت تسيطر عليه إمبراطوريات أربع ، هي : الرومانية ، والفارسية ، والهندية ، والصينية .
وكانت بلاد العرب أفضل مكان لقيام دين جديد ، فليس فيها ملك يوحد البلاد ، وليس فيها دين له أسس ونظام وهيمنة ، والبلاد تخضع لحكم رؤساء القبائل ، وهناك أديان شتى ومذاهب متعددة ، ولكن بدون قناعة أو يقين .
وقد وقفت مكة موقف المعارضة للدين الإسلامي ، لا عن قناعة بالوثنية أو بعبادة الأصنام ، بل حرصا على تميزها وغناها ، وخوفها من ترك هذا التميز .
قال تعالى : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } . ( الأنعام : 33 ) .
ولحكمة أرادها الله ، اختار سبحانه بلاد العرب ، فقد كانت بها بقايا من المروءة وحماية الجار والانتصار للقبيلة ، فمكث الإسلام بمكة حينا ، وانتقل للمدينة المنورة ، ثم تتابعت الغزوات من بدر حتى فتحت مكة ، وشمل الإسلام بلاد العرب في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم امتد إلى فارس والروم ومصر وشمال أفريقيا ، وتقدم إلى سائر المعمورة ، قال تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالته . . . } ( الأنعام : 124 ) .
وكانت الجزيرة العربية بها أعداد من الشباب والرجال ، يشتاقون إلى فجر جديد ونور جديد ودعوة جديدة ، فدخلوا في الإسلام ، وحملوا رايته ، ورفعوا شأنه ، وكانوا جنودا مخلصين مؤهلين لتقبل رسالة الإسلام ، والتحرك بها إلى جهات متعددة ، يقدمون حياتهم وأموالهم فداء لهذا الدين ، ومن طبيعة الإسلام أنه دين عالمي ينهى عن العصبية ، ويحبذ الأخوة الإسلامية ، وحين دخل الفرس وغيرهم في الإسلام اتسع صدر الإسلام لهم ، وتعلموا اللغة العربية ، وبرزوا في العلوم الإسلامية ، فكان منهم الفقهاء والأدباء والمحدثون والنحاة والبلغاء والشعراء والكتاب .
قال صلى الله عليه وسلم : ( ليست العربية لأحدكم بأب ولا أم ، ولكن العربية اللسان ، فمن تكلم العربية فهو عربي )3 .
{ وَلَوْ شَاء الله } جعلهم أمة واحدة { لَجَعَلَهُمْ } أي في الدنيا { أُمَّةً وَاحِدَةً } مهتدين أو ضالين وهو تفصيل لما أجمله ابن عباس في قوله : على دين واحد ، فمعنى قوله تعالى : { ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَاء في رَحْمَتِهِ } أنه تعالى يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها ويدخل من يشاء في عذابه أن يدخله فيه ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول ما أدخله ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب اختلاف حال الداخلين فيهما قطعاً فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة بل جعلهم فريقين وإنما قيل { والظالمون مَا لَهُمْ مّن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ } وكان الظاهر أن يقال ويدخل من يشاء في عذابه ونقمته للإيذان بأن الإدخال في العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم لا من جهته عز وجل كما في الإدخال في الرحمة ، واختار الزمخشري كون المراد أمة واحدة مؤمنين وهو ما قاله مقاتل على دين الإسلام كما في قوله تعالى : { وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى } [ الأنعام : 35 ] وقوله سبحانه : { وَلَوْ شِئْنَا لآتينا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [ السجدة : 13 ] والمعنى ولو شاء الله تعالى مشيئة قدرة لقسرهم على الإيمان ولكنه سبحانه شاء مشيئة حكمة وكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بقوله تعالى : { مَن يَشَآء } وترك الظالمين بغير ولي ولا نصير ، والكلام متعلق بقوله تعالى : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } [ الشورى : 6 ] كالتعليل للنهي عن شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمانهم ، فالظالمون مظهر أقيم مقام ضمير المتخذين ليفيد أن ظلمهم علة لما بعده أو هو للجنس ويتناولهم تناولاً أولياً ، وعدل عن الظاهر إلى ما في «النظم الجليل » إذ الكلام في الإنذار وهو أبلغ في تخويفهم لإشعاره بأن كونهم في العذاب أمر مفروغ منه وإنما الكلام في أنه بعد تحتمه هل لهم من يخلصهم بالدفع أو الرفع فإذا نفي ذلك علم أنهم في عذاب لا خلاص منه .
وتعقب بأن فرض جعل الكل مؤمنين يأباه تصدير الاستدراك بإدخال بعضهم في رحمته تعالى إذ الكل حينئذٍ داخلون فيها فكان المناسب حينئذٍ تصديره بإخراج بعضهم من بينهم وإدخالهم في عذابه ، وربما يقال : حيث أن الآية متعلقة بما سمعت كان المراد ولو شاء الله تعالى لجعل الجميع مؤمنين كما تريد وتحرص عليه ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك بل جعل بعضهم مؤمناً كما أردت وجعل بعضهم الآخر وهم أولئك المتخذون من دونه أولياء كفاراً لا خلاص لهم من العذاب حسبما تقتضيه الحكمة وكان التصدير بما صدر به مناسباً كما لا يخفي على من له ذوق بأساليب الكلام إلا أن الظاهر على هذا أدخل من شاء دون «يدخل من يشاء » لكن عدل عنه إليه حكاية للحال الماضية ، وقال شيخ الإسلام : الذي يقتضيه سباق النظم الكريم وسياقه أن يراد الاتحاد في الكفر كما في قوله تعالى :
{ كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فَبَعَثَ الله النبيين } [ البقرة : 213 ] الآية على أحد الوجهين ، فالمعنى ولو شاء الله تعالى لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولاً لينذرهم ما ذكر من يوم الجمع وما فيه من ألوان الأهوال فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ولكن يدخل من يشاء في رحمته سبحانه أي شأنه عز شأنه ذلك فيرسل إلى الكل من ينذرهم ما ذكر فيتأثر بعضهم بالإنذار فيصرفون اختيارهم إلى الحق فيوفقهم الله تعالى للإيمان والطاعات ويدخلهم في رحمته عز وجل ولا يتأثر به الآخرون ويتمادون في غيهم وهم الظالمون فيبقون في الدنيا على ما هم عليه من الكفر ويصيرون في الآخرة إلى السعير من غير ولي يلي أمرهم ولا نصير يخلصهم من العذاب انتهى .
ولا يخفي أن بين قوله تعالى : { كَانَ الناس أُمَّةً واحدة } الآية ، وقوله سبحانه : { وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة } بالمعنى الذي اختاره هنا فيهما نوع تناف فتدبر جميع ذلك والله تعالى الموفق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.