إن كل نفس : ما كل نفس ، وهذه الجملة جواب القسم .
حافظ : رقيب ، وهو الله أو الملائكة تحفظ عملها من خير وشر .
4- إن كل نفس لمّا عليها حافظ .
ما كل نفس إلا عليها حافظ ، أي مهيمن ورقيب وهو الله تعالى ، كما في قوله سبحانه : وكان الله على كل شيء رقيبا . ( الأحزاب : 52 ) .
وقيل : معنى حافظ . الملائكة الكرام الذين يحفظون الإنسان من النوائب والمصائب ، ويسجلون عليه أعماله ، خيرها وشرها .
كما في قوله تعالى : وإن عليكم لحافظين* كراما كاتبين . ( الانفطار : 10 ، 11 ) .
أي : كل نفس عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات . اه .
قال تعالى : له معقّبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله . . . ( الرعد : 11 ) .
وجواب القسم يقوله : { إن كل نفس . . . } أي ما كل نفس إلا عليها مهيمن قائم عليها في إيجادها وبقائها ؛ وهو الله سبحانه . أو من يحفظ عملها من الملائكة ، ويحصى عليها ما تكتسب من خير أو شر . وعدي " حافظ " بعلى لتضمنه معنى القيام والإحصاء . وقرئ " لما " بالتخفيف ، " وما " زائدة للتوكيد ، " وإن " مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ؛ أي إنه .
قال قتادة : حفظة يحفظون عليك رزقك وعملك وأجلك . وعنه أيضا قال : قرينه يحفظ عليه عمله : من خير أو شر . وهذا هو جواب القسم . وقيل : الجواب " إنه على رجعه لقادر " في قول الترمذي : محمد بن علي . و " إن " : مخففة من الثقيلة ، و " ما " : مؤكدة ، أي إن كل نفس لعليها حافظ . وقيل : المعنى إن كل نفس إلا عليها حافظ : يحفظها من الآفات ، حتى يسلمها إلى القدر . قال الفراء : الحافظ من اللّه ، يحفظها حتى يسلمها إلى المقادير ، وقال الكلبي . وقال أبو أمامة : قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : [ وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك البصر ، سبعة أملاك يذبون عنه ، كما يذب عن قصعة العسل الذباب . ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين ] . وقراءة ابن عامر وعاصم وحمزة " لما " بتشديد الميم ، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ ، وهي لغة هذيل : يقول قائلهم : نشدتك لما قمت . الباقون بالتخفيف ، على أنها زائدة مؤكدة ، كما ذكرنا . ونظير هذه الآية قوله تعالى : " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " {[15924]} [ الرعد : 11 ] ، على ما تقدم . وقيل : الحافظ هو اللّه سبحانه ، فلولا حفظه لها لم تبق . وقيل : الحافظ عليه عقله ، يرشده إلى مصالحه ، ويكفه عن مضاره .
قلت : العقل وغيره وسائط ، والحافظ في الحقيقة هو اللّه جل وعز ، قال اللّه عز وجل : " فالله خير حافظا{[15925]} " [ يوسف : 65 ] ، وقال : " قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن{[15926]} " [ الأنبياء : 52 ] . وما كان مثله .
ولما ذكر الذي دل به على حفظ القرآن عن التلبيس وعلى حفظ الإنسان ، ذكر جوابه في حفظ النفوس التي جعل فيها قابلية لحفظ القرآن في الصدور ، ودل على حفظ ما خلق لأجلها من هذه الأشياء المقسم بها على حفظ الإنسان لأنها إذا كانت محفوظة عن أدنى زيغ وهي مخلوقة لتدبير{[72608]} مصالحه فما{[72609]} الظن به ؟ فقال مؤكداً غاية التأكيد-{[72610]} لما للكفرة{[72611]} من إنكار ذلك والطعن فيه-{[72612]} { إن } بالتخفيف من الثقيلة في قراءة الجمهور أي-{[72613]} أن الشأن{[72614]} { كل نفس } أي من الأنفس مطلقاً لا سيما نفوس الناس { لما عليها } أي بخصوصها {[72615]}لا مشارك لها في ذاتها{[72616]} { حافظ * } أي رقيب عتيد لا يفارقها ، والمراد به الجنس من الملائكة ، فبعضهم لحفظها من الآفات ، وبعضهم لحفظها من الوساوس{[72617]} ، وبعضهم لحفظ أعمالها وإحصائها بالكتابة ، وبعضهم لحفظ ما كتب لها من رزق وأجل و{[72618]}شقاوة أو{[72619]} سعادة {[72620]}ومشي ؟ ونكاح وسفر وإقامة{[72621]} ، فلا يتعدى شيئاً{[72622]} من ذلك {[72623]}نحن قسمنا نحن قدرنا{[72624]} ، فإن قلت : إن الحافظ الملائكة ، صدقت ، وإن قلت : إنه الله ، صدقت ، لأنه الآمر لهم والمقدر على الحفظ{[72625]} ، والحافظ لهم-{[72626]} من الوهن والزيغ ، فهو الحافظ الحقيقي ، واللام في هذه القراءة هي الفارقة بين المخففة والنافية " وما " مؤكدة بنفي صدر-{[72627]} ما أثبتته الجملة ، " وحافظ " خبر " إن " ويجوز أن يكون الظرف الخبر ، و " حافظ " مرتفع به ، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بتشديد " لما " على أنها بمعنى " إلا " و " إن " نافية بمعنى " ما " ، والمستثنى منه " كل نفس " وخبر النافية محذوف تقديره : كائنة أو موجودة أو نحوهما-{[72628]} ، والمستثنى " نفس " موصوفة ب " عليها حافظ " ويحتمل أن يكون حالاً فمحله يحتمل الرفع بأنه خبر النافي في-{[72629]} هذا الاستثناء المفرغ عند{[72630]} بني تميم ، والنصب بأنه خبر {[72631]}عند غيرهم{[72632]} ، أو حال من " نفس " ، لأنها عامة ، والتقدير : ما كل نفس موجودة إلا نفس كائناً أو كائن عليها حافظ ، والنسبة بين مفهومي القراءتين{[72633]} أن المشدد أخص لأنها دائمة مطلقة ، والمخففة مطلقة عامة ، ولا يظن أن المشددة غير مساوية للمخففة ، فضلاً عن أن تكون أخص لأن حرف النفي دخل على " كل " وهو من أسوار السلب الجزئي كما تقرر{[72634]} في موضعه فينحل إلى أن بعض النفوس ليس إلا عليها حافظ وإنما-{[72635]} كان لا يظن ذلك لأنها تنحل لما فيها من الحصر المتضمن للنفي والإثبات إلى جملتين ، إحداهما إثبات الحفظ-{[72636]} للنفس{[72637]} الموصوفة والأخرى سلب{[72638]} نقيضه عنها ، لأنه من قصر الموصوف على الصفة .
ونقيض الكلية الموجبة الجزئية السالبة أي ليس كل نفس عليها حافظ-{[72639]} والسالبة الجزئية أعم من السالبة الكلية ، فإذا نفيتها قلت : ليس ليس كل نفس عليها حافظ فهو سلب السلب الجزئي ، وإذا سلب السلب الجزئي سلب الكلي-{[72640]} لما تبين أنه أخف . وإذا{[72641]} انتفى الأعم انتفى الأخص فلا شيء من الأنفس ليس عليها حافظ ، فانحل الكلام إلى : لا نفس كائنة إلا نفس عليها حافظ ، وإن كان لفظ " ليس كل " من أسوار الجزئية لما مضى ، فصارت الآية على قراءة التشديد مركبة من مطلقة عامة هي " كل نفس عليها{[72642]} حافظ " بالفعل .
ومن سلب نقيضها وهو{[72643]} الدائمة المطلقة-{[72644]} الذي هو " دائماً ليس كل نفس عليها حافظ-{[72645]} " ورفعه بأن يقال : ليس دائماً ليس كل نفس ليس عليها حافظ ، أي ليس دائماً كل نفس ليس عليها حافظ ، و{[72646]}ذلك على سبيل الحصر وقصر الموصوف على الصفة ، معناه أن الموصوف لا يتعدى صفته التي قصر عليها ، فأقل الأمور أن لا يتجاوزها إلى عدم الحفظ ، وذلك معنى الدائمة المطلقة وهو الحكم بثبوت المحمول للموضوع ما دام ذات الموضوع موجودة ، وهي على قراءة التخفيف مطلقة عامة أي حكم فيها بثبوت المحمول للموضوع بالفعل وهو الجزء الأول مما{[72647]} انحلت إليه قراءة التشديد ، فمفهوم الآية في قراءة التشديد أخص منه في قراءة التخفيف ، لأن كل دائم كائن بالفعل ، ولا ينعكس - هذا إذا نظرنا إلى نفس المفهوم من اللفظ مع قطع النظر{[72648]} عن الدلالة الخارجية ، وأما بالنظر إلى نفس الأمر فالجهة الدوام فلا فرق ، غير أنه دل عليها باللفظ في قراءة التشديد دون قراءة التخفيف والله تعالى أعلم .
وقال الإمام{[72649]} أبو جعفر ابن الزبير رحمه الله تعالى : لما قال الله سبحانه وتعالى في سورة البروج
{ والله على كل شيء شهيد }[ البروج : 9 ]
{ والله من ورائهم محيط }[ البروج : 20 ] وكان {[72650]}في ذلك{[72651]} تعريف العباد بأنه سبحانه وتعالى {[72652]}لا يغيب عنه{[72653]} شيء ولا يفوته {[72654]}شيء ولا ينجو منه{[72655]} هارب ، أردف ذلك بتفصيل يزيد {[72656]}إيضاح ذلك{[72657]} التعريف الجملي من شهادته سبحانه وتعالى على كل شيء وإحاطته به{[72658]} فقال تعالى { إن كل نفس لما عليها حافظ } [ الطارق : 4 ] فأعلم الله سبحانه وتعالى بخصوص كل نفس ممن يحفظ أنفاسها " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " ليعلم العبد أنه ليس بمهمل ولا مضيع ، وهو سبحانه وتعالى{[72659]} الغني عن كتب الحفظة وإحصائهم {[72660]}وشهادة الشهود من الأعضاء وغيرهم ، وإنما كان ذلك لإظهار عدله سبحانه وتعالى
{ إن الله لا يظلم مثقال ذرة }[ النساء : 40 ] ولا أقل من المثقال{[72661]} ، ولكن هي سنته حتى لا يبقى لأحد حجة ولا تعلق ، وأقسم سبحانه وتعالى على ذلك تحقيقاً وتأكيداً يناسب القصد المذكور - انتهى .