الأذل : في زعمهم : رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لا يعلمون : ذلك من فرط جهلهم وغرورهم .
8- { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْمَلُونَ } .
يقول عبد الله بن أُبي بن سلول رئيس المنافقين لمن حوله لمن المنافقين : إذا رجعنا إلى المدينة فنحن الأعزاء ومعنا المال والأرض ، وهؤلاء المهاجرون مجلوبون عليها ، فقراء أذلاء ، فيجب أن يُخرج الأعزّ الأذلّ . يقصد بالأعزّ نفسه ، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه .
ولكن الله تعالى ردّ على المنافقين فقال : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْمَلُونَ } .
قال تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 26 ) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } . ( آل عمران : 26-27 ) .
والله يمنح عزته لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين المخلصين ، وما أجمل وما أجلّ أن نجد في سطر واحد ومضمون واحد عزة الله يمنحها لرسوله وللمؤمنين ، فيفيض عليهم من عزّته وقدرته ، وجلاله وفضله ، { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ . . . }
وقد أعزّ الله المؤمنين بعد ذلك فعلا ، فنصرهم على العباد وفتح لهم البلاد ، ودانت لهم الدنيا ، وجاء نصر الله والفتح ، ودخل الناس في دين الله أفواجا .
قال تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي . . . } ( المجادلة : 21 ) .
{ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلمُونَ } .
وذلك لخلوّ قلوبهم من الإيمان بالله ، واليقين به .
في الآية السابقة قال : { ولكن المنافقين لا يفقهون . لقلة كياستهم وفهمهم } .
وفي الآية التالية قال : { وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلمُونَ . لكثرة حماقتهم وجهلهم } .
روي أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي – وكان مؤمنا مخلصا – سلّ سيفه على أبيه عندما أشرف على المدينة ، وقال : لله علي ألا أغمده حتى تقول : محمد الأعزّ وأنا الأذل ، فلما رأى الأب الجدّ في وجه ابنه ، قال ذلك .
{ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } وذلك في غزوة المريسيع ، حين صار بين بعض المهاجرين والأنصار ، بعض كلام كدر الخواطر ، ظهر حينئذ نفاق المنافقين ، وأظهروا ما في نفوسهم{[1106]} .
وقال كبيرهم ، عبد الله بن أبي بن سلول : ما مثلنا ومثل هؤلاء -يعني المهاجرين- إلا كما قال القائل : " غذ كلبك يأكلك " {[1107]}
وقال : لئن رجعنا إلى المدينة { لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } بزعمه أنه هو وإخوانه من المنافقين الأعزون ، وأن رسول الله ومن معه{[1108]} هم الأذلون ، والأمر بعكس ما قال هذا المنافق ، فلهذا قال [ تعالى : ] { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فهم الأعزاء ، والمنافقون وإخوانهم من الكفار [ هم ] الأذلاء . { وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } ذلك زعموا أنهم الأعزاء ، اغترارًا بما هم عليه من الباطل ، ثم قال تعالى : } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
القائل ابن أبي كما تقدم . وقيل : إنه لما قال : " ليخرجن الأعز منها الأذل " ورجع إلى المدينة لم يلبث إلا أياما يسيرة حتى مات ، فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وألبسه قميصه ، فنزلت هذه الآية : " لن يغفر الله لهم " . وقد مضى بيانه هذا كله في سورة " التوبة{[15033]} " مستوفى . وروي أن عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول قال لأبيه : والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز وأنا الأذل ، فقاله . توهموا أن العزة بكثرة الأموال والأتباع ، فبين الله أن العزة والمنعة والقوة لله .
ودل على عدم فقههم بقوله تعالى : { يقولون } أي يوجدون هذا القول ويجددونه مؤكدين له لاستشعارهم بأن أكثر قومه ينكره : { لئن رجعنا } أي نحن أيتها العصابة المنافقة{[65551]} من غزاتنا هذه - التي قد رأوا فيها من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يعجز الوصف وهي غزوة بني المصطلق حي{[65552]} من هذيل بالمريسيع{[65553]} وهو ماء من مياههم من ناحية قديد إلى الساحل وفيها تكلم{[65554]} ابن أبي بالإفك وأشاعه - { إلى المدينة } و{[65555]}دلوا على تصميمهم على عدم المساكنة بقولهم : { ليخرجن الأعز } يعنون أنفسهم { منها الأذل } وهم كاذبون في هذا ، لكنهم تصوروا لشدة غباوتهم أن العزة لهم وأنهم يقدرون على إخراج المؤمنين { ولله } أي والحال أن{[65556]} كل من له{[65557]} نوع بصيرة يعلم أن للملك{[65558]} الأعلى الذي له وحده عز الإلهية { العزة } كلها ، فهو قهار لمن دونه وكل ما عداه دونه{[65559]} .
ولما حصر{[65560]} العزة بما دل على ذلك من تقديم المعمول ، أخبر أنه يعطي منها من أراد وأحقهم بذلك من أطاعه فترجم ذلك بقوله : { ولرسوله } لأن{[65561]} عزته من عزته بعز النبوة والرسالة وإظهار الله دينه على الدين كله ، {[65562]}وكذلك أيضاً أن العزة لمن أطاع الرسول بقوله{[65563]} : { وللمؤمنين } أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً لأن عزتهم بعزة الولاية ، ونصر الله إياهم عزة لرسولهم صلى الله عليه وسلم ، ومن تعزز بالله لم يلحقه ذل .
ولما كان جهلهم في هذا أشد لكثرة ما رأوا من نصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ومن تابعه رضي الله عنهم وإعلائهم على كل من ناواهم ، قال منبهاً على ذلك : { ولكن المنافقين } أي الذين استحكم فيهم مرض القلوب .
ولما كانت الدلائل على عزة الله لا تخفى على أحد لما تحقق من قهره للملوك وغيرهم بالموت الذي لم يقدر{[65564]} أحد على الخلاص منه ولا المنازعة فيه ، ومن المنع من أكثر المرادات ، ومن نصر الرسول وأتباعهم بإهلاك أعدائهم بأنواع الهلاك ، وبأنه سبحانه ما قال شيئاً إلا تم ولا قالت الرسل شيئاً إلا صدقهم فيه ، ختم الآية بالعلم الأعم من الفقه فقال : { لا يعلمون * } أي لا {[65565]}لأحد لهم{[65566]} علم الآن ، ولا يتجدد في حين من الأحيان ، فلذلك{[65567]} هم يقولون مثل هذا الخراف ، وروي{[65568]} أنه لما نزلت هذه الآية جاء عبد الله ولد عبد الله بن أبي ابن{[65569]} سلول الذي نزلت بسببه إلى أبيه ، وذلك في غزوة المريسيع لبني المصطلق فأخذ بزمام ناقة أبيه وقال : أنت والله الذليل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز ، ولما دنوا من المدينة الشريفة جر سيفه وأتى أباه فأخذ بزمام ناقته . وزجرها إلى ورائها وقال : إياك وراءك والله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولئن لم تقر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنت الأذل لأضربن عنقك ، قال : أفاعل أنت ؟ قال : نعم ، قال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وشكا ولده{[65570]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يدعه{[65571]} يدخل المدينة ، فأطلقه فدخل .