( سورة المزمل مكية ، وآياتها 20 آية ، نزلت بعد سورة القلم )
وهي سورة تحمل النداء الإلهي للنبي الكريم بقيام الليل ، وقد جعله الله فريضة في حقه ، نافلة في حق أمته .
قال تعالى : ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا . ( الإسراء : 79 ) .
وفي كتب السنة ما يفيد أن هذه السورة من أوائل ما نزل من القرآن الكريم ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش بين قومه في الجاهلية ، ثم حبب الله إليه الخلوة ليتأمل في ملكوت السماوات والأرض ، وليعده الله لتحمل أعباء الرسالة ، ثم فجأة الوحي وهو في غار حراء ، حيث قال له جبريل : اقرأ ، قال النبي : ( ما أنا بقارئ ) ثلاث مرات ، فقال جبريل : اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* اقرأ وربك الأكرم* الذي علّم بالقلم* علّم الإنسان ما لم يعلم . ( العلق : 1-5 ) .
وقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة وأخبرها الخبر ، فقالت له : أبشر يا ابن عمّ واثبت ، فو الذي نفس خديجة بيده ، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة .
ثم فتر الوحي مدة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن كان بالجبل مرة أخرى ، فنظر فإذا جبريل ، فأدركته منه رجفة ، حتى جثا وهوى إلى الأرض ، وانطلق إلى أهله يرجف يقول : ( زملوني ، دثروني ) ، ففعلوا ، وظل يرتجف مما به من الروع ، وإذا جبريل يناديه : يا أيها المزمل ، يا أيها المدثر .
وسورة المزمل تعرض صفحة من تاريخ الدعوة الإسلامية ، إنها تنادي النبي الكريم ، وتأمره بقيام الليل ، والصلاة وترتيل القرآن ، والذكر الخاشع المتبتل ، والاتكال على الله وحده ، والصبر على الأذى ، والهجر الجميل للمكذبين ، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار .
وتنتهي السورة بلمسة الرفق والرحمة ، والتخفيف والتيسير ، والتوجيه للطاعات والقربات ، والتلويح برحمة الله مغفرته . إن الله غفور رحيم . ( المزمل : 20 ) .
والسورة تمثل صفحة من جهاد النبي الكريم ، وصحبه الأبرار في سبيل الدعوة إلى الله ، وحشد جميع الطاقات من أجل هذه الدعوة ، فقد قام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة داعيا إلى الله ، صابرا محتسبا ، مهاجرا ومجاهدا ومربيا ، وناشرا لدعوة الله بكل ما يملك ، منذ قال له القرآن : قم الليل إلا قليلا . ( المزمل : 2 ) .
وكان قيام الليل هو الزاد الروحي ، والتعبئة الإلهية لهذا القلب الكريم ، حتى يصدع بالدعوة ، ويتحمل في سبيلها كل بلاء ، وليصبر ويصابر ، وليحتسب كل جهد في سبيل الله : واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا . ( المزمل : 10 ) .
1-4- أمر الله رسوله أن يقوم من الليل ثلثه أو نصفه أو ثلثيه ، فهو مخير في ذلك ، وأن يقرأ القرآن الكريم على مهل وتؤدة ، مع حضور القلب لتدبر معانيه وفهم مقاصده .
5- والقرآن يسره الله للقراءة ، ولكنه ثقيل في ميزان الحق ، ثقيل في أثره في القلوب ، ثقيل في قيمته الراجحة ، ومعانيه الراقية ، وما فيه من تكاليف وأعباء .
6- إن قيام الليل هو أكبر موافقة بين القلب واللسان ، وأعدل قولا .
7- وفي النهار متسع لشئون المعاش ، ولك فيه تصرف في مهام أمورك ، واشتغال بمشاغلك .
8-9- واتجه إلى الله بالعبادة وحضور القلب ، واذكره وتضرع إليه ، في إنابة وطاعة وإخلاص ، فهو رب الكون كله ، والتوكل عليه هو التوكل على القوة الوحيدة في هذا الوجود .
10- واصبر على ما يقولون في حقك ربك ، واهجرهم هجرا جميلا ، بأن تجانبهم وتغضى عن زلاتهم ولا تعاتبهم .
11- ثم توعد المشركين وتهددهم ، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : اترك عقابهم لي وحدي ، فأنا كفيل بهم ، هؤلاء الذين تنعموا في نعمائي ، أمهلهم وقتا قليلا من الزمن ، وسترى ما يحل بهم .
12 ، 13- إن لدينا أنكالا . أي : قيودا ثقيلة توضع في أرجلهم ، كلما أرادوا أن يرتفعوا جذبتهم إلى أسفل ، ثم هناك الجحيم ، والطعام ذو الغصة ، الذي يمزق الحلوق ، والعذاب الأليم ، وكلها جزاء مناسب لمن كفر بنعمة الله .
14- ويمتد الهول في يوم القيامة إلى الأرض فتضطرب وتهتز ، وإلى الجبال فتتمزق أجزاؤها ، وتصير كالصوف المنفوش أو كومة الرمل المهيلة ، بعد أن كانت حجارة صماء متماسكة .
15 ، 16- ويلتفت القرآن إلى أهل مكة فيخاطبهم ، ويهز قلوبهم هزّا ، ويخلعها خلعا ، بعد مشهد الأرض والجبال وهي ترتجف وتنهار ، فيحذرهم مما أصاب فرعون الجبار ، وقد أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، ومضمون القول : لقد أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه ، فأخذناه أخذا وبيلا ، وأرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم ، فاحذروا أن تعصوه فيصيبكم مثل ما أصابه .
17 ، 18- وهبوا أنكم لا تؤخذون في الدنيا كما أخذ فرعون ، فكيف تتقون عذاب يوم القيامة ، وهو هول يشيب الولدان ، وتنشق السماء من شدته ، وكان وعد الله ثابتا مؤكدا لا خلف فيه ، وهو سبحانه فعال لما يريد .
19- وأمام هول الآخرة لهم : إن هذه الآيات تذكرة وعبرة ، فمن شاء اعتبر بها ، واتخذ طريقا إلى الله وهو آمن سالم ، قبل مجيء هذا الهول العصيب .
20- وفي الآية الأخيرة من السورة نجد لمسة التخفيف الندية ، ودعوة التيسير الإلهي ، فقد لبى النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى قيام الليل ، ولبى المسلمون الدعوة ، وتجافت جنوبهم عن المضاجع ، وقاموا الليل حتى تورمت أقدامهم من طول القيام ، فقال القرآن : إن ربك يعلم أنك تقوم الليل ، ويرى تقلبك في الساجدين ، والله يعلم أنكم لن تحصوا ساعات الليل إحصاء تاما ، فإذا زدتم على المفروض ثقل ذلك عليكم وكلفتم ما ليس بفرض ، وإن نقصتم شق هذا عليكم ، فتاب عليكم ورجع بكم من تثقيل إلى تخفيف ، ومن عسر إلى يسر ، وطلب إليكم أن تصلّوا ما تيسر من الليل على قدر طاقتكم .
وإن لهذا التخفيف حكمة أخرى ، وهي أنه علم أن سيكون منكم مرضى ، وآخرون يسيحون في الأرض يطلبون من فضل الله بالتجارة أو العلم ، وآخرون يقاتلون في سبيل الله ، فقد علم الله أن سيأذن لكم في الانتصار ممن ظلمكم بالقتال ، فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل بدون تقيد بقدر محدد ، وأقيموا الصلاة المفروضة ، وآتوا الزكاة الواجبة ، وتصدقوا بعد ذلك قرضا لله ، يبق لكم خيره ، ويرده الله إليكم أضعافا مضاعفة ، وما تقدموا لأنفسكم من صدقة أو عمل صالح في الدنيا ، تجدوا ثوابه عند الله يوم القيامة ، خيرا مما أوتيتم في دار الدنيا ، وأعظم منه أجرا ، واتجهوا إلى الله مستغفرين ، إن الله غفور رحيم .
إنها لمسة الرحمة والتخفيف بعد عام من الدعوة إلى القيام ، وقد خفف الله عن المسلمين فجعل قيام الليل لهم تطوعا لا فريضة .
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد مضى نهجه مع ربه ، لا يقل قيامه عن ثلث الليل ، يناجي ربه ويستمد منه العون والتوفيق في أداء رسالته . وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب . ( هود : 88 ) .
أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بما يأتي :
1- قيام ثلث الليل أو نصفه أو ثلثيه .
3- ذكر ربه ليلا ونهارا بالتحميد والتسبيح والصلاة .
4- التوكل على الله والاعتماد عليه .
5- الصبر على ما يقول الكفار عنه من أنه ساحر أو شاعر ، وأن يهجرهم هجرا جميلا بمجانبتهم ومداراتهم ، وأن يكل أمرهم إلى ربهم فهو الذي يجازيهم ، وسيرى عاقبة أمرهم .
6- التخفيف من صلاة الليل ، بعد أن شق ذلك عليهم لأعذار كثيرة ، والاكتفاء بما تيسر من صلاة الليل ، ففي الصلاة المفروضة غنية للأمة ، مع إيتاء الزكاة ودوام الاستغفار .
{ يا أيها المزّمل 1 قم الليل إلا قليلا 2 نصفه أو انقص منه قليلا 3 أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا 4 إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا 5 إن ناشئة الليل هي أشدّ وطئا وأقوم قيلا 6 إن لك في النهار سبحا طويلا 7 واذكر اسم ربك وتبتّل إليه تبتيلا 8 رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا 9 }
المزمل : المتلفّف بثيابه ( النبي صلى الله عليه وسلم ) .
الليل : من غروب الشمس إلى طلوع الفجر .
نصفه وانقص منه قليلا : انقص من النصف قليلا إلى الثلث .
أو زد عليه : إلى الثلثين ، والمراد به التخيير بين قيام النصف ، والناقص منه ، والزائد عليه ، فهو صلى الله عليه وسلم مخيّر بين قيام ثلث الليل أو نصفه أو ثلثيه .
رتّل القرآن : اقرأه بتمهّل وتبيين حروف .
1 ، 2 ، 3 ، 4- يا أيها المزّمل* قل الليل إلا قليلا* نصفه أو انقص منه قليلا* أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا .
أول ما بدئ به صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان يخلو في غار حراء ، يتعبد فيه الليالي ذوات العدد ، ثم يعود إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى فجأه الوحي وهو في غار حراء ، حيث ضمّه الملك ضمّا شديدا حتى بلغ منه صلى الله عليه وسلم الجهد ، وأرسله فقال : اقرأ . قال صلى الله عليه وسلم : ما أنا بقارئ ، أي لا يعرف القراءة ، وتكرر ذلك ثلاث مرات .
ثم قال له : اقرأ باسم ربك الذي خلق . ( العلق : 1 ) .
وعاد صلى الله عليه وسلم إلى مكة فدخل على خديجة ، وأخبرها الخبر ، ثم قال : ( زمّلوني ، دثّروني ) . أي : غطوني ولفّوني في ثياب ، ليهدأ روعه صلى الله عليه وسلمi .
وسورة المزمّل هي السورة الرابعة في النزول ، سبقتها سورة العلق ، ثم ن ، ثم المدّثر ، ثم نزلت المزمّل .
وقيل : كان ذلك تذكيرا له باللحظة التي كان فيها بعد نزول الوحي أوّل مرة ، وناداه الله بذلك تأنيسا لقلبه ، وملاطفة له .
وقيل : يا أيها المزمّل بالنبوة ، والملتزم بالرسالة .
شمّر عن ساعد الجدّ ، واهجر المنام ، واستعدّ للقيام بين يدي الملك العلام ، إنها فترة الإعداد لتلقي الوحي ، والجهاد في سبيل تبليغ الرسالة ، وهذه المهمة تحتاج إلى تعبئة روحية ، وشدة اتصال بين المخلوق والخالق ، أي : استعدّ لقيام الليل ، إلا القليل منه تقضيه في النوم والراحة ، للاستعانة بذلك على تبليغ الرسالة .
أي : قم نصف الليل ، أو أقل من النصف قليلا ، وهو الثلث .
أو زد عليه ورتّل القرآن ترتيلا .
أو زد على النصف إلى الثلثين ، فخيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قيام نصف الليل ، أو أقل منه قليلا وهو الثلث ، أو أزيد من النصف وهو الثلثان .
وقيل : خيّر بين قيام نصف الليل ، أو ربعه ، أو ثلاثة أرباعه ، والرأي الأوّل أولى .
اقرأ القرآن في عناية وترتيل وتبيين ، وتجميل للصوت ، وأداء حسن ، فإن ذلك أعون على تبيّن المعاني ، وانشغال القلب مع اللسان .
روى الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( زينوا القرآن بأصواتكم ) .
وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن )ii .
أي : يحسّن صوته ويجمّله ، ويهذّبه ويجوّده ، ليعظّم تأثير القرآن في قلوب سامعيه .
وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى الأشعري : ( لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود ) . iii . فقال أبو موسى الأشعري : يا رسول الله ، لو كنت أعلم أنك تسمع لحبّرته لك تحبيرا .
سورة المزمل مكية وآياتها عشرون ، نزلت بعد سورة القلم . وقد سميت " سورة المزمل " بقوله تعالى { يا أيها المزمل } والمتزمل هو المتلفف بثيابه ، وهذه السورة من أوائل ما نزل من القرآن الكريم . وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم من الليل ثلثه أو نصفه أو ثلثيه ، فهو مخيّر بين هذه الثلاثة . وأمر بأن يرتل القرآن ترتيلا ، أي يقرأه بتؤدة وبيان وهدوء . وأخبره تعالى أنه سيُلقي عليه قولا ثقيلا ، أي قرآنا مشتملا على الأوامر والنواهي والتكاليف الشاقة ، وأن يذكر ربه ليلا ونهارا بالتسبيح والتمجيد ، وأن يجرّد نفسه عما سواه . . ، ويتخذه وكيلا في كل أموره . . وأن يصبر على ما يقولون فيه وفي ربه من أقوال جارحة ( من أنه ساحر أو شاعر ، ومن أن الله له صاحبة وولد ) . كذلك طُلب إليه أن يهجر الكفار هجرا جميلا ، بمجانبتهم ومداراتهم . . ، ويكل أمرهم إلى الله ، وأن يتمهل زمانا قليلا فسيرى عاقبته وعاقبتهم .
وقد تلقى المؤمنون هذه الأوامر فكان الرجل يصلي الليل كله مخافة ألا يصيب ما أمر الله به من القيام . وكان إحصاء الليل شاقا عليهم ، إذ لم يكن عندهم ساعات يضبطون بها أوقاتهم ، فانتفخت أقدامهم من طول القيام . فخفّف الله عنهم ذلك وأمرهم بما تيسّر من صلاة الليل . ثم خفّّف ذلك كله وأمرهم بالصلوات الخمس ، لأن المسلمين منهم المريض والمسافر وغير ذلك . فالصلاة المفروضة كافية للأمة مع إيتاء الزكاة وإدامة استغفار الله والصدقة { فاقرأوا ما تيسّر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا ، وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم } .
المزمل : المتلفف بثيابه ومثله المتزمل ، يقال ازَّمَّل وتزمل بثوبه التفّ به وتغطى ، وزمَّل غيره إذا غطاه . .
هذه الآية والآياتُ التي بعدها من أولِ ما نزلَ من الوحي على الرسولِ الكريم صلى الله عليه وسلم ، وقد روي في الأحاديث الصحيحة أنه لما جاءه جبريلُ وهو في غار حِراء في أول الوحي خافه الرسول ، وظنّ أن به هو مسّاً من الجنّ ، فرجع من غار حِراء مرتعِدا يرجُف فؤادُه ، فقال لأهله : زمِّلوني زملوني ، لقد خشيتُ على نفسي . وأخبر خديجةَ الخبر . فنزلت هذه الآياتُ :
{ يا أيها المزمل قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } .
{ بسم الله الرحمن الرحيم . يا أيها المزمل }أي الملتف بثوبه . وأصله التزمل ، أدغمت التاء في الزاي ، ومثله المدثر أدغمت التاء في الدال ، يقال : تزمل وتدثر بثوبه ، إذا تغطى به . وقال السدي : أراد يا أيها النائم قم فصل . قال الحكماء : كان هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الوحي قبل تبليغ الرسالة ، ثم خوطب بعد بالنبي والرسول .
( مكية ) كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر .
وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين منها : " واصبر على ما يقولون " [ المزمل : 10 ] والتي تليها ، ذكره الماوردي . وقال الثعلبي : قوله تعالى : " إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى " [ المزمل : 20 ] إلى آخر السورة ، فإنه نزل بالمدينة .
الأولى- قوله تعالى : " يا أيها المزمل " قال الأخفش سعيد : " المزمل " {[15495]} أصله المتزمل ، فأدغمت التاء في الزاي وكذلك " المدثر " . وقرأ أبي بن كعب على الأصل " المتزمل " و " المتدثر " . وسعيد : " المزمل " . وفي أصل " المزمل " قولان : أحدهما أنه المحتمل ، يقال : زمل الشيء إذا حمله ، ومنه الزاملة ؛ لأنها تحمل القماش{[15496]} . الثاني أن المزمل هو المتلفف ، يقال : تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى . وزمل غيره إذا غطاه ، وكل شيء لفف فقد زمل ودثر ، قال امرؤ القيس :
كبيرُ أناسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ{[15497]}
الثانية- قوله تعالى : " يا أيها المزمل " هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه ثلاثة أقوال : الأول قول عكرمة : " يا أيها المزمل " بالنبوة والملتزم للرسالة . وعنه أيضا : يا أيها الذي زمل هذا الأمر أي حمله ثم فتر ، وكان يقرأ : " يا أيها المزمَّل " بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها على حذف المفعول ، وكذلك " المدثر " والمعنى المزمل نفسه والمدثر نفسه ، أو الذي زمله غيره . الثاني : " يا أيها المزمل " بالقرآن ، قاله ابن عباس . الثالث المزمل بثيابه ، قال قتادة وغيره . قال النخعي : كان متزملا بقطيفة . عائشة : بمرط طوله أربعة عشر ذراعا ، نصفه علي وأنا نائمة ، ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، والله ما كان خزا ولا قزا ولا مرعزاء{[15498]} ولا إبريسما ولا صوفا ، كان سداه شعرا ، ولحمته وبرا ، ذكره الثعلبي .
قلت : وهذا القول من عائشة يدل على أن السورة مدنية ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن بها إلا في المدينة . وما ذكر من أنها مكية لا يصح . والله أعلم .
وقال الضحاك : تزمل بثيابه لمنامه . وقيل : بلغه من المشركين سوء قول فيه ، فاشتد عليه فتزمل في ثيابه وتدثر ، فنزلت : " يا أيها المزمل " [ المزمل : 1 ] و " يا أيها المدثر " [ المدثر : 1 ] . وقيل : كان هذا في ابتداء ما أوحى إليه ، فإنه لما سمع قول الملك ونظر إليه أخذته الرعدة فأتى أهله فقال : ( زملوني دثروني ) روي معناه عن ابن عباس . وقالت الحكماء : إنما خاطبه بالمزمل والمدثر في أول الأمر ؛ لأنه لم يكن بعد ادثر شيئا من تبليغ الرسالة . قال ابن العربي : واختلف في تأويل : " يا أيها المزمل " فمنهم من حمله على حقيقته ، قيل له : يا من تلفف في ثيابه أو في قطيفته قم . قاله إبراهيم وقتادة . ومنهم من حمله على المجاز ، كأنه قيل له : يا من تزمل بالنبوة . قاله عكرمة . وإنما يسوغ هذا التفسير لو كانت الميم مفتوحة مشددة بصيغة المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأما وهو بلفظ الفاعل فهو باطل . قلت : وقد بينا أنها على حذف المفعول : وقد قرئ بها ، فهي صحيحة المعنى . قال : وأما من قال إنه زمل القرآن فهو صحيح في المجاز ، لكنه قد قدمنا أنه لا يحتاج إليه .
الثالثة- قال السهيلي : ليس المزمل باسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يعرف به كما ذهب إليه بعض الناس وعدوه في أسمائه عليه السلام ، وإنما المزمل اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب ، وكذلك المدثر . وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان : إحداهما الملاطفة ، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنهما ، فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له : ( قم يا أبا تراب ) إشعارا له أنه غير عاتب عليه ، وملاطفة له . وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة : ( قم يا نومان ) وكان نائما ملاطفة له ، وإشعارا لترك العتب والتأنيب{[15499]} . فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : " يا أيها المزمل قم " فيه تأنيس وملاطفة ؛ ليستشعر أنه غير عاتب عليه . والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه ؛ لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة .
سورة المزمل{[1]}
مقصودها الإعلام بأن محاسن الأعمال تدفع الأخطار والأوجال ، وتخفف الأحمال الثقال ، ولا سيما الوقوف بين يدي الملك المتعال ، والتجرد في خدمته في ظلمات الليال ، فإنه نعم الإله لقبول الأفعال والأقوال ، ومحو ظلل الضلال ، والمعين الأعظم على الصبر والاحتمال ، لما يرد{[2]} من الكدورات في دار الزوال ، والقلعة والارتحال ، واسمها المزمل أدل{[3]} ما فيها على هذا المقال { بسم الله } الكافي من توكل عليه في جميع الأحوال { الرحمن } الذي عم بنعمة الإيجاد والبيان{[4]} المهدي والضال{[5]} { الرحيم } الذي خص حزبه بالسداد في الأقوال والأفعال لإيصالهم إلى دار الكمال .
لما تقدم في آخر الجن من تعظيم الوحي وأن من تعظيمه حفظ المرسل به من جميع الآفات المفترة عن إبلاغه بما{[69344]} له سبحانه من إحاطة العلم والقدرة وندب نبيه الذي ارتقاه لرسالته والاطلاع على ما أراده{[69345]} من غيبه صلى الله عليه وسلم أول{[69346]} هذه إلى القيام بأعباء النبوة بالمناجاة بهذا الوحي في وقت الأنس والخلوة بالأحباب ، والبسط والجلوة لمن دق الباب ، للاعتلاء و{[69347]}المتاب ، المهيىء لحمل أعباء الرسالة ، والمقوي على أثقال المعالجة{[69348]} لأهل الضلالة ، فقال معبراً بالأداة الصالحة للقرب والبعد المختصة بأنه لا يقال بعدها إلا الأمور التي هي في غاية العظمة ، أشار إلى أنه صلى الله عليه وسلم يراد به غاية القرب بالأمور البعيدة عن تناول الخلق بكونها خوارق للعادات ونواقض للمألوفات المطردات ، وأما التزمل{[69349]} فهو وإن كان من آلات ذلك إلا أنه من الأمور العادية ، فهو دون ما يراد {[69350]}من التهيئة{[69351]} لذلك الاستعداد ، وبالتزمل{[69352]} لكونه منافياً للقيام في الصلاة : { يا أيها المزمل * } أي الذي أخفى شخصه وستر أمره وما أمرناه به - بما أشار إليه التزمل الذي مدلوله التلفف في الثوب على جميع البدن والاختفاء ولزوم مكان واحد ، ولأنه يكون منطرحاً على الأرض كما قال صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد -{[69353]} " زملوهم بثيابهم ودمائهم " مع الإشارة إلى الإخفاء أيضاً بإدغام تاء التفعل ، وربما أشار الإدغام إلى أن الستر بالثوب لم يعم جميع البدن ، كما يأتي في المدثر على أن فيه مع ذلك إشارة إلى البشارة بالقوة على حمل أعباء ما يراد به ، من قولهم : زمل الشيء - إذا رفعه وحمله ، والازدمال : احتمال الشيء ، وزملت الرجل على البعير وغيره - إذا حملته عليه ، ومن زملت الدابة في عدوها - إذا نشطت ، والزامل من حمر الوحش الذي كأنه يظلع من نشاطه ، ورجل إزميل : شديد ، والزاملة : بعير يستظهر به الرجل لحمل طعامه ومتاعه عليه ، ويقال للرجل العالم{[69354]} بالأمر : هو ابن زوملتها ، وقال ابن عطاء : يا أيها المخفي ما تظهره عليه من آثار الخصوصية ! هذا أوان كشفه ، وقال [ عكرمة-{[69355]} ]{[69356]} : يا أيها الذي حمل هذا الأمر ، وقال السدي{[69357]} : أراد يا أيها النائم ، وقال غيره : {[69358]}كان هذا{[69359]} في ابتداء الوحي بالنبوة ، والمدثر في ابتداء الوحي بالرسالة ،