يغضون أصواتهم : يخفضونها ، و يلينونها .
امتحن الله قلوبهم : طهرها ونقاها ، وكما يمتحن الصائغ الذهب بالإذابة والتنقية من كل غش .
3- { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } .
إن الذين يخفضون أصواتهم عند محادثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو محادثة أحد بجواره ، هؤلاء قوم نقى الله قلوبهم ، وأخلص سريرتهم بالتقوى ، وهي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والاستعداد ليوم الرحيل .
هؤلاء الذين تأدبوا بأدب الإسلام ، واستجابوا لدعوة القرآن ، فراعوا الإجلال والتوقير ، والتعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخفضوا أصواتهم عند مجلسه ، أو أثناء محادثته هؤلاء ، { لهم مغفرة وأجر عظيم } .
لهم مغفرة لذنوبهم ، وستر لعيوبهم ، ومحو لخطيئاتهم ، وتثبيت لحسناتهم ، وثواب عظيم على خفضهم لأصواتهم عند نبيهم .
الامتحان هو الاختبار ، وأصله من اختبار الذهب وإذابته ، ليخلص جيده من خبيثه ، والمراد أن الله أخلص هذه القلوب لمراقبته سبحانه .
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
{ امتحن الله قلوبهم للتقوى . . . } من قولك : امتحن فلان لأمر كذا وجرب له ، ودرب للنهوض به ، فهو مضطلع به ، غير وان عنه ، والمعنى : أنهم صبروا على التقوى ، أقوياء على احتمال مشاقها . اه .
وقد التزم المسلمون بهذا الأدب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد مماته ، فقد سمع عمر بن الخطاب رجلا يرفع صوته في المسجد النبوي ، فقال له : من أين أنت أيها الرجل ؟ فقال : من الطائف ، فقال له عمر : لو كنت من أهل المدينة لأوجعتك ضربا .
امتحنَ الله قلوبهم : طهّرها ونقاها وأخلصها للتقوى .
ثم نوه الله تعالى بتقواهم ، وغضّهم أصواتَهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعبير لطيف فقال :
{ إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } .
هنا يرغّبهم الله ويتلطف بهم بعد ذلك التحذير المخيف ، ويقول : إن الذين يخفضون أصواتهم في مجلس رسول الله ، إجلالاً له ، أولئك قد طهّر الله قلوبهم ونقّاها وأخلصَها للتقوى ، فلهم مغفرةٌ لذنوبهم ، وأجر عظيم لتأدّبهم وغضّ أصواتهم وتقواهم .
{ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } نزلت في ثابت ابن قيس بن شماس وكان جهوري الصوت وربما كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فينادي بصوته فأمروا بغض الصوت عند مخاطبته { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } لاتنزلوه منزلة بعضكم من بعض فتقولوا يا محمد ولكن خاطبوه بالنبوة والسكينة والإعظام { أن تحبط أعمالكم } كي لا تبطل حسناتكم { وأنتم لا تشعرون } أن خطابه بالجهر ورفع الصوت فوق صوته يحبط العمل فلما نزلت هذه الآية خفض أبو بكر وعمر رضي الله عنهما صوتهما فما كلما النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار فأنزل الله تعالى { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } أي اختبرها وأخلصها للتقوى
ولما تقدم سبحانه في الإخلال بشيء من حرمته صلى الله عليه وسلم ونهى عن رفع الصوت والجهر الموصوف ، أنتج المخافة عنده على سبيل الإجلال ، فبين ما لمن حافظ على ذلك الأدب العظيم ، فقال مؤكداً لأن-{[60697]} في المنافقين وغيرهم من{[60698]} يكذب بذلك ، وتنبيهاً . على أنه لمحبة الله له ورضاه به أهل لأن يؤكد أمره ويواظب على فعله : { إن الذين يغضون } أي يخفضون ويلينون لما وقع عليهم من السكينة من هيبة حضرته ، قال الطبري{[60699]} : وأصل الغض الكف في{[60700]} لين { أصواتهم } تخشعاً وتخضعاً ورعاية للأدب وتوقيراً .
ولما كان المبلغ ربما أنساه اللغط{[60701]} ورفع الأصوات ما كان-{[60702]} يريد أن يبلغه " {[60703]}إنه بينت لي{[60704]} ليلة القدر فخرجت لأخبركم بها فتلاحى رجلان فأنسيتها وعسى أن يكون خيراً لكم " قال : { عند رسول الله } أي الذي من شأنه أن يعلو كلامه على كل كلام ، لأنه {[60705]}مبلغ من{[60706]} الملك الأعظم وعبر بعند التي للظاهر إشارة إلى أن أهل حضرة الخصوصية لا يقع منهم إلا أكمل الأدب .
ولما ابتدأ ذكرهم مؤكداً تنبيهاً على عظيم ما ندبوا إليه ، زاده إعظاماً بالإشارة إليهم بأداة البعد فقال : { أولئك } أي العالو الرتب{[60707]} لما لهم من علو الهمم بالخضوع لمن أرسله مولاهم{[60708]} الذي لا إحسان عندهم{[60709]} إلا منه { الذين امتحن الله } أي فعل المحيط بجميع صفات الكمال فعل المختبر بالمخالطة البليغة بالشدائد{[60710]} على وجه يؤدي إلى المنحة{[60711]} باللين والخلوص من كل درن ، والانشراح والاتساع { قلوبهم } فأخلصها { للتقوى } أي الخوف المؤدي إلى استعداد صاحبه بإقامة ما يقيه من كل مكروه ، والامتحان : اختبار بليغ يؤدي إلى خبر ، فالمعنى أنه طهر قلوبهم ونقاها كما{[60712]} يمتحن الصائغ الذهب والفضة بالإذابة للتنقية والتخليص من كل غش {[60713]}لأجل إظهار{[60714]} ما بطن فيها من التقوى{[60715]} ليصير معلوماً للخلق في عالم الشهادة كما كان معلوماً له سبحانه-{[60716]} في عالم الغيب ، وهو خروجهم عن العادات البشرية ومفارقتهم لما توجبه الطبيعة ، وهو حقيقة التوحيد ، فإن التقوى لا تظهر إلا عند المحن والشدائد بالتكاليف وغيرها ، ولا تثبت إلا بملازمة الطاعة في المنشط والمكره والخروج عن مثل ذلك .
ولما كان الإنسان وإن اجتهد في الإحسان محلاًّ للنقصان ، استأنف الإخبار عن جزائهم بقوله : معرباً له من فاء السبب ، إشارة إلى-{[60717]} أن ذلك بمحض إحسانه : { لهم مغفرة } أي لهفواتهم وزلاتهم { وأجر عظيم * } أي جزاء لا يمكن وصفه على محاسن ما فعلوه .
{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم }
ونزل فيمن كان يخفض صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم كأبي بكر وعمر وغيرهما رضى الله عنهم :
{ إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن } اختبر { الله قلوبهم للتقوى } أي لتظهر منهم { لهم مغفرة وأجر عظيم } الجنة ، ونزل في قوم جاءُوا وقت الظهيرة والنبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم في منزله فنادوه .