لمستقر لها : لحد معين من فلكها تنتهي إليه في آخر السنة ، والشمس حجمها يبلغ نحو مليون ضعف حجم أرضنا ، وهي تجري في الفضاء لا يسندها شيء ، سوى قدرة القدير سبحانه وتعالى .
38 { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } .
الشمس تتحرك حركة سريعة في مدارها الذي حدده السميع العليم ، وقدَّره العزيز الغالب ، الذي نظم وأبدع كل شيء ، فالقمر له مساره ، والشمس كذلك ، والأرض والأفلاك والشموس والأقمار ، كل شيء يَسْبح في الفضاء بنظام بديع متكامل ، تحرِّكه يد السميع العليم ، الذي أحسن كل شيء خلقه ، " ونلاحظ أن الشمس تدور حول نفسها ، وكان الظن أنها ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها ، ولكن عرف أخيرا أنها ليست مستقرة في مكانها ، إنما هي تجري ، تجري فعلا ، تجري في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل ، بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلا في الثانية ، أي قرابة ( 43000 ) ثلاثة وأربعين ألف ميل في الساعة الواحدة ، والله ربها الخبير بها وبجريانها وبمصيرها يقول :
{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا . . . }
وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف حجم أرضنا هذه ، وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك وتجري في الفضاء ، لا يسندها شيء ، ندرك طرفا من صفة القدرة التي تصرّف هذا الوجود ، عن قوة وعن علم " 14 { ذَالِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } .
قوله تعالى : { والشمس تجري لمستقر لها } يجوز أن يكون تقديره وآية لهم الشمس . ويجوز أن يكون { الشمس } مرفوعا بإضمار فعل يفسره الثاني . ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء { تجري } في موضع الخبر أي جارية . وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل : { والشمس تجري لمستقر لها } قال : ( مستقرها تحت العرش ) . وفيه عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما :
( أتدرون أين تذهب هذه الشمس ) ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : ( إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها : ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها : ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتدرون متى ذلكم ؟ ذاك حين { لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا } [ الأنعام :158 ] ) . ولفظ البخاري عن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس : ( تدري أين تذهب ) قلت الله ورسوله أعلم ، قال : ( فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها : ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ، فذلك قوله تعالى : { والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم } ) . ولفظ الترمذي عن أبي ذر قال : دخلت المسجد حين غابت الشمس والنبي صلى الله عليه وسلم جالس . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه ) قال قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( فإنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها اطلعي من حيث جئت فتطلع من مغربها ) قال : ثم قرأ " ذلك{[13211]} مستقر لها " قال :وذلك قراءة عبد الله . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وقال عكرمة : إن الشمس إذا غربت دخلت محرابا تحت العرش تسبح الله حتى تصبح ، فإذا أصبحت استعفت ربها من الخروج فيقول لها الرب : ولم ذاك ؟ قالت : إني إذا خرجت عبدت من دونك . فيقول الرب تبارك وتعالى : أخرجي فليس عليك من ذاك شيء ، سأبعث إليهم جهنم مع سبعين ألف ملك يقودونها حتى يدخلوهم فيها .
وقال الكلبي وغيره : المعنى تجري إلى أبعد منازلها في الغروب ، ثم ترجع إلى أدنى منازلها ، فمستقرها بلوغها الموضع الذي لا تتجاوزه بل ترجع منه ؛ كالإنسان يقطع مسافة حتى يبلغ أقصى مقصوده فيقضي وطره ، ثم يرجع إلى منزله الأول الذي ابتدأ منه سفره . وعلى تبليغ الشمس أقصى منازلها ، وهو مستقرها إذا طلعت الهنعة ، وذلك اليوم أطول الأيام في السنة ، وتلك الليلة أقصر الليالي ، فالنهار خمس عشرة ساعة والليل تسع ساعات ، ثم يأخذ في النقصان وترجع الشمس ، فإذا طلعت الثريا استوى الليل والنهار ، وكل واحد ثنتا عشرة ساعة ، ثم تبلغ أدنى منازلها وتطلع النعائم ، وذلك اليوم أقصر الأيام ، والليل خمس عشرة ساعة ، حتى إذا طلع فرس الدلو المؤخر استوى الليل والنهار ، فيأخذ الليل من النهار كل يوم عشر ثلث ساعة ، وكل عشرة أيام ثلث ساعة ، وكل شهر ساعة تامة ، حتى يستويا ويأخذ الليل حتى يبلغ خمس عشرة ساعة ، ويأخذ النهار من الليل كذلك . وقال الحسن : إن للشمس في السنة ثلاثمائة وستين مطلعا ، تنزل في كل يوم مطلعا ، ثم لا تنزله إلى الحول ، فهي تجري في تلك المنازل وهي مستقرها . وهو معنى الذي قبله سواء . وقال ابن عباس : إنها إذا غربت وانتهت إلى الموضع الذي لا تتجاوزه استقرت تحت العرش إلى أن تطلع .
قلت : ما قاله ابن عباس يجمع الأقوال فتأمله . وقيل : إلى انتهاء أمدها عند انقضاء الدنيا ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس { والشمس تجري لا مستقر لها } أي : إنها تجري في الليل والنهار لا وقوف لها ولا قرار ، إلى أن يكورها الله يوم القيامة . وقد احتج من خالف المصحف فقال : أنا أقرأ بقراءة ابن مسعود وابن عباس . قال أبو بكر الأنباري : وهذا باطل مردود على من نقله ؛ لأن أبا عمرو روى عن مجاهد عن ابن عباس وابن كثير روى عن مجاهد عن ابن عباس { والشمس تجري لمستقر لها } فهذان السندان عن ابن عباس اللذان يشهد بصحتهما الإجماع - يبطلان ما روي بالسند الضعيف مما يخالف مذهب الجماعة ، وما اتفقت عليه الأمة .
قلت : والأحاديث الثابتة التي ذكرناها ترد قوله ، فما أجرأه على كتاب الله ، قاتله الله . وقوله : { لمستقر لها } أي : إلى مستقرها ، والمستقر موضع القرار . { ذلك تقدير } أي : الذي ذكر من أمر الليل والنهار والشمس تقدير { العزيز العليم } .
ولما ذكر الوقتين ، ذكر آيتيهما فقال : { والشمس } أي التي سلخ النهار من الليل بغيبوبتها { تجري } ولما كان غيابها بالليل مثل سكون الإنسان في مبيته ، وجعلها على خط قدر لسيرها كل يوم بتقدير لا زيع فيه ومنهاج لا يعوج ، قال : { لمستقر } أي عظيم { لها } وهو السير الذي لا تعدوه جنوباً ولا شمالاً ذاهبة وآئبة ، وهي فيه مسرعة - بدليل التعبير باللام في موضع " إلى " ويدل على هذا قراءة " لا مستقر لها " بل هي جارية ابداً إلى انقراض الدنيا في موضع مكين محكم هو أهل للقرار ، وعبر به مع أنها لا تستقر ما دام هذا الكون لئلا يتوهم أن دوام حركتها لأجل أن موضع جريها لا يمكن الاستقرار عليه ، ولا ينافي هذا ما في صحيح البخاري وفي كتاب الإيمان من صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مستقرها تحت العرش ، وأنها تذهب فتستأذن في السجود فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها : ارجعي من حيث جئت ، فتطلع من مغربها " - هذا لفظ مسلم ، وسيأتي لفظ البخاري ، ويمكن أن يكون المستقر آخر جريها عند إبادة هذا الوجود .
ولما كان هذا الجري على نظام لا يختل على مر السنين وتعاقب الأحقاب تكل الأوهام عن استخراجه ، وتتحير الأفهام في استنباطه ، عظمه بقوله : { ذلك } أي الأمر الباهر للعقول ؛ وزاد في عظمه بصيغة التفعيل في قوله : { تقدير } وأكد ذلك لافتاً القول عن مطلق مظهر العظمة إلى تخصيصه بصفتي العزة والعلم تعظيماً لهذه الآية تنبيهاً على أنها أكبر آيات السماء فقال : { العزيز } أي الذي لا يقدر أحد في شيء من أمره على نوع مغالبة ، وهو غالب على كل شيء { العليم * } أي المحيط علماً بكل شيء الذي يدبر الأمر ، فيطرد على نظام عجيب ونهج بديع لا يعتريه وهن ولا يلحقه يوماً نوع خلل إلى أن يريد سبحانه إبادة هذا الكون فتسكن حركاته وتفنى موجوداته ، روى البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال : " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال : يا أبا ذر ! أتدري أين تذهب ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها ، فيقال لها : ارجعي من حيث جئت ، فذلك قوله تعالى : { والشمس تجري لمستقر لها } " .