{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا( 23 ) ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما( 24 ) }
صدقوا ما عاهدوا : من الثبات في القتال مع الرسول صلى الله عليه وسلم حتى الاستشهاد أو النصر ووفوا بذلك .
قضى نحبه : مات أو قتل في سبيل الله شهيدا ووفى نذره كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر والنحب : النذر فجعل كناية عن الموت .
من ينتظر : الشهادة كعثمان وطلحة .
وما بدلوا : العهد ولا نقضوا شيئا منه .
{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا }
من المؤمنين الصادقين الأوفياء رجال أي رجال قد أخلصوا أنفسهم لله وعاهدوه على الصدق في الحرب والجد في طلب الشهادة ، ونصرة الإسلام فلما جد الجد وكشرت الحرب عن أنيابها خاضوا غمار الحرب واصطلوا بنارها غير هيابين فمنهم من قتل شهيدا قد أدى واجبه وقدم روحه لله ومنهم من عاد سليما معافى ينتظر دوره في الشهادة والفداء ولم يغيروا عهدهم مع الله ولم ينكصوا على أعقابهم كما فعل بعض المنافقين .
ولما ذكر أن المنافقين ، عاهدوا اللّه ، لا يولون الأدبار ، ونقضوا ذلك العهد ، ذكر وفاء المؤمنين به ، فقال : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ } أي : وفوا به ، وأتموه ، وأكملوه ، فبذلوا مهجهم في مرضاته ، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته .
{ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } أي : إرادته ومطلوبه ، وما عليه من الحق ، فقتل في سبيل اللّه ، أو مات مؤديًا لحقه ، لم ينقصه شيئًُا .
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } تكميل ما عليه ، فهو شارع في قضاء ما عليه ، ووفاء نحبه ولما يكمله ، وهو في رجاء تكميله ، ساع في ذلك ، مجد .
{ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } كما بدل غيرهم ، بل لم يزالوا على العهد ، لا يلوون ، ولا يتغيرون ، فهؤلاء ، الرجال على الحقيقة ، ومن{[701]} عداهم ، فصورهم صور رجال ، وأما الصفات ، فقد قصرت عن صفات الرجال .
قوله تعالى :{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } أي : قاموا بما عاهدوا الله عليه ووفوا به ، { فمنهم من قضى نحبه } أي : فرغ من نذره ، ووفى بعهده ، فصبر على الجهاد حتى استشهد ، والنحب : النذر ، والنحب : الموت أيضاً ، قال مقاتل : قضى نحبه يعني : أجله فقتل على الوفاء ، يعني حمزة وأصحابه . وقيل : قضى نحبه أي : بذل جهده في الوفاء ، بالعهد من قول العرب : نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع ، إذا مد فلم ينزل ، { ومنهم من ينتظر } الشهادة . وقال محمد بن إسحاق : فمنهم من قضى نحبه من استشهد يوم بدر وأحد ، ومنهم من ينتظر يعني : من بقي بعد هؤلاء من المؤمنين ينتظرون أحد الأمرين ، إما الشهادة أو النصر ، { وما بدلوا } عهدهم { تبديلاً } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن سعيد الخزاعي ، أنبأنا عبد الأعلى ، عن حميد قال : سألت أنساح وحدثني عمرو بن زرارة ، أنبأنا زياد ، حدثني حميد الطويل ، عن أنس قال : " غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني : أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني : المشركين ، ثم تقدم ، فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد " ، قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع ، قال أنس : فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه ، قال أنس : كنا نظن أو نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } إلى آخر الآية .
أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي نصر ، أنبأنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، أنبأنا محمد بن سليمان الجوهري بأنطاكية ، أنبأنا مسلم بن إبراهيم ، أنبأنا الصلت بن دينار ، عن أبي نصرة ، عن جابر بن عبد الله قال : " نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى طلحة بن عبيد الله فقال : من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى هذا " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد الله بن أبي شيبة ، أنبأنا وكيع بن إسماعيل ، عن قيس قال : " رأيت يد طلحة شلاء " وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد .
ولما كان كل من{[55367]} آمن بائعاً{[55368]} نفسه وماله لله ، لأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ، وكان بعض الراسخين في الإيمان لم يعط الإيمان حقه في القتال في نفسه وماله ، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه ، أما في ماله فبالخروج عنه كله ، وأما في نفسه فيما يقحمها من الأهوال ، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول له في بعض المواطن : " الزم مكانك وأمتعنا بنفسك " ، " ويقول له ولعمر رضي الله عنهما أنهما من الدين بمنزلة السمع والبصر " وكان أبو بكر رضي الله عنه في ليلة الغار يذكر الطلب فيتأخر ، والرصد فيتقدم ، وما عن الجوانب{[55369]} فيصير إليها ، ومنهم من وفى هذه الغزوة وما قبلها فأراد الله التنويه بذكرهم والثناء عليهم توفية لما يفضل به في حقهم ، وترغيباً لغيرهم{[55370]} فأظهر ولم يضمر لئلا يتقيد بالمذكورين سابقاً فيخص هذه الغزوة فقال : { من المؤمنين } أي الكمل { رجال } أي في غاية العظمة عندنا ، ثم وصفهم بقوله : { صدقوا } .
ولما كان العهد عند ذوي الهمم العلية ، والأخلاق الزكية ، لشدة ذكرهم له{[55371]} ومحافظتهم على الوفاء به ، وتصوره{[55372]} لهم حتى كأنه رجل عظيم قائم تجاههم ، يتقاضاهم الصدق ، عدى الفعل إليه فقال : { ما عاهدوا الله } المحيط علماً وقدرة وجلالاً وعظمة { عليه } أي من{[55373]} بيع أنفسهم وأموالهم له بدخولهم في هذا الدين الذي بنى على ذلك فوفوا به أتم وفاء ، وفي هذا إشارة إلى أبي لبابة بن{[55374]} المنذر رضي الله عنه ، وكان من أكابر المؤمنين الراسخين في صفة الإيمان حيث زل في إشارته إلى بني قريظة بأن المراد بهم الذبح ، كما تقدم في الأنفال في قوله تعالى : (
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم }{[55375]}[ الأنفال : 27 ] فذهب من حينه وربط نفسه تصديقاً لصدقه{[55376]} في سارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه وحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة .
ولما ذكر الصادقين ، وكان ربما فهم{[55377]} أن الصدق لا يكون إلا بالقتل ، قسمهم قسمين{[55378]} مشيراً إلى خلاف ذلك بقوله : { فمنهم من قضى } أي أعطى { نحبه } أي نذره{[55379]} في معاهدته ، أنه ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم و{[55380]} يموت دونه ، وفرغ من ذلك وخرج من عهدته بأن قتل شهيداً ، فلم يبق عليه نذر كحمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وسعد بن الربيع وأنس بن النضر{[55381]} الذي غاب عن{[55382]} غزوة بدر فقال : غبت عن أول قتال قاتل فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، لئن أشهدني الله قتالاً ليرين الله ما أصنع ، فلما انهزم من انهزم{[55383]} في غزوة أحد قال : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين - ومما صنع هؤلاء - يعني المنهزمين من المسلمين . وقاتل حتى قتل بعد بضع وثمانين جراحة{[55384]} من ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورمية بسهم ، وروى البخاري{[55385]} عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " نرى{[55386]} هذه الآيات نزلت في أنس بن النضر { من المؤمنين رجال } " - انتهى ، وغير هؤلاء ممن قتل قبل هذا في غزوة أحد وغيرها ، وسعد بن معاذ ممن جرح في هذه الغزوة وحكم في بني قريظة بالقتل والسبي{[55387]} ، ولم يرع لهم حلفهم لقومه ، ولا أطاع قومه في الإشارة عليه باستبقائهم كما استبقى عبد الله بن أبي المنافق بني قينقاع ولا أخذته بهم رأفة غضباً لله ولرسوله{[55388]} رضي الله عنه ، وممن لم يقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن {[55389]}عبيد الله أحد العشرة رضي الله عنهم ثبت{[55390]} في أحد وفعل ما لم يفعله غيره ، لزم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يفارقه ، وذب عنه ووقاه{[55391]} بيده حتى شلت إصبعه فشهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه ممن قضى نحبه ، فالمراد بالنحب هنا العهد الذي هو كالنذر المفضي إلى الموت ، وأصل النحب الاجتهاد في العمل ، ومن هنا{[55392]} استعمل في النذر لأنه الحامل على ذلك { ومنهم } أي الصادقين { من ينتظر } قضاء النحب إما بالنصرة ، أو الموت على الشهادة ، أو مطلق المتابعة الكاملة .
ولما كان{[55393]} المنافقون ينكرون أن يكون أحد صادقاً فيما يظهر من الإيمان ، أكد قوله تعريضاً بهم : { وما بدلوا تبديلاً } أي وما أوقعوا شيئاً من تبديل بفترة أو توان ، فهذا تصريح بمدح أهل الصدق ، وتلويح بذم أهل النفاق عكس ما تقدم ، روى البخاري{[55394]} عن زيد بن ثابت{[55395]} رضي الله عنه قال : لما نسخنا الصحف{[55396]} بالمصاحف{[55397]} فقدت آية من سورة الأحزاب كنت كثيراً أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأها ، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري - رضي الله عنه - الذي جعل{[55398]} رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } . وقوله : " نسخنا الصحف " التي كانت عند حفصة رضي الله عنها بعد موت عمر رضي الله عنه " في المصاحف " التي أمر بها عثمان رضي الله عنه ، وقوله : " لم أجدها " أي مكتوبة بدليل حفظه لها ، وهذا يدل على أنه لما نسخ المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه لم يقتنعوا بالصحف . بل ضموا{[55399]} إليها ما هو مفرق عند الناس مما كتب بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحضرته كما فعلوا حين جمعوا الصحف على عهد أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين{[55400]} .