( سورة الجمعة مدنية ، وآياتها 11 آية ، نزلت بعد سورة يوسف )
وقد عُنيت السورة بتربية المسلمين وجمعهم على الحق والإيمان ، ودعوتهم إلى المحافظة على صلاة الجمعة ، والامتناع عن الانشغال بغيرها من اللهو أو البيع ، وقد مهدت لذلك ببيان أن كل شيء يسبح بحمد الله . وقد منّ الله على العرب بإرسال نبي الهدى والرحمة ليرشدهم إلى الخير ، ويأخذ بأيديهم إلى الطهارة والفضيلة ، وقارنت السورة بين المسلمين واليهود ، وعيَّرت اليهود بإهمالهم تعاليم التوراة وإعراضهم عنها ، وشبههم القرآن بالحمار يحمل كتب العلم ولا يستفيد بها ، وهو تشبيه رائع يفيد أن التوراة بشرت بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم ، ودعت أهلها إلى الإيمان به ، لكنهم لم يستفيدوا بهداية التوراة ، فحرموا أنفسهم من الانتفاع بأبلغ نافذ مع قرب هذا الانتفاع منهم .
بدأت السورة بمطلع رائع ، يقرر حقيقة التسبيح المستمر من كل ما في الوجود . ( الآية : 1 ) .
وجاء في تفسير النسفي : التسبيح إما أن يكون تسبيح خلقة ، يعني إذا نظرت إلى كل شيء دلتك خلقته على وحدانية الله وتنزيهه عن الأشباه ، أو تسبيح معرفة بأن يجعل الله بلطفه في كل شيء ما يعرف به الله تعالى وينزهه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم . . . } ( الإسراء : 44 ) .
أو تسبيح ضرورة بأن يجري الله التسبيح على كل جوهر من غير معرفته بذلك . i
وبينت السورة أن الله قد اختار العرب ليرسل فيهم نبيّ آخر الزمان ، ليطهرهم ويعلمهم القرآن والأحكام الشرعية ، وحسن تقدير الأمور بعد أن كانوا في الجاهلية في ضلال وكفر وانحلال . ( آية : 2 ) .
وقد وصف جعفر بن أبي طالبii ضلال الجاهلية للنجاشي ملك الحبشة ، فقال : أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونُسيء الجوار ، ويأكل القويّ منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام .
لقد اختار الله الجزيرة العربية لتحمل رسالة الإصلاح ، وليمتدّ هذا النور الهادي إلى ممالك الفرس والروم ، حيث كانت هذه البلاد العريقة قد انغمست في الترف والانحلال . .
وبين مظاهر الفساد الشامل وُلد الرجل الذي وحّد العالم جميعهiii . وقد كان اليهود يزعمون أنهم شعب الله المختار ، وأنهم أولياؤه من دون الناس ، فبينت الآيات أنهم لم يعودوا صالحين لحمل رسالة السماء ، فقد أخلدوا إلى الدنيا ، وكرهوا الموت لأنهم لم يقدّموا عملا صالحا ، بل قدّموا الدسّ والخداع والوقيعة : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } . ( الجمعة : 7 ) . مطّلع عليهم وسيجزيهم على عملهم . ( الآيات : 5-8 ) .
والمقطع الأخير من السورة يتحدث عن صلاة الجمعة ، وهي فريضة أسبوعية يتلاقى المسلمون فيها لتعلم أمور دينهم ، وتنظيم حياتهم ، وتفقّد شئونهم ، وهي وسيلة للعبادة والطاعة ، وصفاء النفس ، وطهارة الروح .
والإسلام دين ودنيا ، وعقيدة وسلوك ، وشرائع وآداب ، وعلم وعمل ، وعبادة وسيادة .
فإذا انتهت صلاة الجمعة خرج المسلم باحثا عن رزقه ، نشيطا في عمله فعبادة الله تكون في المسجد بالصلاة ، وتكون خارج المسجد بالتجارة والزراعة وطلب القوت من حلال .
وفي الحديث الصحيح : " إن لربك عليك حقا ، وإن لبدنك عليك حقا ، وإن لزوجك عليك حقا ، فأعط كل ذي حق حقه " iv .
وكان عِراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد ، فقال : اللهم إني أجبت دعوتك ، وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين . v .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 ) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ( 2 ) وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 3 ) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 4 ) }
يسبح لله : ينزّهه ويمجّده ويدلّ عليه .
القدّوس : البليغ في النزاهة عن النقائص ، البالغ غاية الطهر .
العزيز : القادر ، الغالب ، القاهر .
1- { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } .
تأتي مادة التسبيح بالفعل الماضي ، كما سبق قريبا في سورة الحديد ، وتأتي بالفعل المضارع للدّلالة على الحدوث والتجدد ، والاستمرار في التسبيح في الحال والاستقبال .
وتأتي بصيغة الأمر ، مثل قوله تعالى : سبِّح باسم ربّك الأعلى . ( الأعلى : 1 ) .
وفي ذلك دلالة على أنّ هذا الكون العظيم ناطق بالتسبيح والتنزيه والحمد لله ، سواء أكان ذلك بلسان الحال أم بلسان المقال .
قال تعالى : وإن من شيء إلاّ يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم . . . ( الإسراء : 44 ) .
أي : يسبح وينزه الله ويقدّسه ما في السماوات : من الملائكة والنجوم والأفلام ، والشموس والأقمار ، وما في الأرض : من نبات وحيوان ، وإنسان وجماد ، وبحار وأنهار ، وطيور ووحوش وحشرات ، وليل ونهار ، وغير ذلك .
الْقُدُّوسِ : المنزّه عن النقائص ، البالغ غاية الطهر .
الْعَزِيزِ : القادر الغالب القاهر .
الْحَكِيمِ : المتقن للأمور ، بديع السماوات والأرض ، في غاية الإتقان والحكمة ، والتقدير الحسن لجميع ما خلق ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا .
{ 1 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ }
أي : يسبح لله ، وينقاد لأمره ، ويتألهه ، ويعبده ، جميع ما في السماوات والأرض ، لأنه الكامل الملك ، الذي له ملك العالم العلوي والسفلي ، فالجميع مماليكه ، وتحت تدبيره ، { الْقُدُّوسُ } المعظم ، المنزه عن كل آفة ونقص ، { الْعَزِيزُ } القاهر للأشياء كلها ، { الْحَكِيمُ } في خلقه وأمره .
فهذه الأوصاف العظيمة مما تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له .
مدنية في قول الجميع ، وهي إحدى عشرة آية . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة ) . وعنه قال : قال رسول الله :( نحن الآخرون الأولون{[1]} يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد{[2]} أنهم أوتوا الكتاب بن قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له - قال - يوم الجمعة فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى ) .
تقدم الكلام فيه . وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم " الملك القدوس العزيز الحكيم " كلها رفعا ، أي هو الملك .
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 1 ) }
ينزِّه الله تعالى عن كل ما لا يليق به كلُّ ما في السموات وما في الأرض ، وهو وحده المالك لكل شيء ، المتصرف فيه بلا منازع ، المنزَّه عن كل نقص ، العزيز الذي لا يغالَب ، الحكيم في تدبيره وصنعه .