45- { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمان آلهة يعبدون } .
إن التوحيد والإقرار لله تعالى بالوحدانية هو رسالة جميع الرسل ، دعا إليه نوح وإبراهيم وهود وصالح وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، والتوحيد فطرة تنطق بها الأرض والسماء .
سل الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ، وجنى ثمارك ، سل السماء من نجم نجومها ، وسخر شمسها وقمرها ، وأضاء نهارها وأظلم ليلها .
قال أبو حيان : والسؤال هنا مجاز عن النظر في أديان الأنبياء ، هل جاءت عبادة الأوثان في ملة من مللهم ؟
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت . . . } ( النحل : 36 ) .
ويصح أن يكون السؤال في الآية موجها إلى كل واحد من قريش .
وكأنه قيل : وليسأل كل واحد منكم أمم من أرسلنا قبلك من رسلنا ، هل شرع لأي أمة عبادة الأوثان أو الأصنام أو غيرها من دون الله تعالى .
أي : إنك يا محمد لم تأت قومك حين دعوتهم إلى التوحيد بأمر ابتدعته من عند نفسك ، بل هو أمر مجمع عليه من سائر المرسلين قبلك ، وهذا يدل على وحدة الدين الحق في أصوله ، ووحدة مهمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
ومن المفسرين من قال : سبب هذه الآية أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك ، فأمره الله بسؤال الأنبياء على جهة التوقيف والتقرير والتأكيد ، لا لأنه كان في شك منه .
دين التوحيد قديم ، ونبذ الشرك قديم ، فلذا سئلت أمم الرسل عليهم الصلاة والسلام :
والسبب الأقوى في بغض الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم وعداوتهم له هو إنكاره لأصنامهم ، فبين الله أنه غير مخصوص بهذا الإنكار ، ولكنه دين كل الأنبياء .
وإذا استعرضنا سورة ( هود ) ، فسنجد أنها ذكرت قصة نوح عليه السلام وهو يدعو قومه إلى التوحيد ، ثم نجد مثل ذلك في الآية ( 50 ) من نفس السورة : { وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . }
وفي الآية ( 61 ) : { وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . }
ثم نجد في الآية ( 84 ) من نفس السورة : { وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . }
أي أن الدعوة إلى توحيد الله تعالى ، والتوجه إليه وحده بالعبادة والطاعة ، والبعد عن ارتكاب المعاصي ، كانت رسالة جميع الرسل والأنبياء .
قال صلى الله عليه وسلم : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )9 .
{ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } حتى يكون للمشركين نوع حجة ، يتبعون فيها أحدا من الرسل ، فإنك لو سألتهم واستخبرتهم عن أحوالهم ، لم تجد أحدا منهم يدعو إلى اتخاذ إله آخر مع الله مع أن كل الرسل ، من أولهم إلى آخرهم ، يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له . قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وكل رسول بعثه الله ، يقول لقومه : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، فدل هذا أن المشركين ليس لهم مستند في شركهم ، لا من عقل صحيح ، ولا نقل عن الرسل .
ولما أبطل سبحانه إلهية غيره التي أدى إليها الجهل ، واستمر إلى أن ختم بالعلم الموجب لمعرفة الحق ، فكان التقدير إبطالاً لشبهتهم الوهمية القائلة { لو شاء الرحمن ما عبدناهم } : فاستحضر جميع ما أوحى إليك وتأمله غاية التأمل ، هل ترى فيه خفاء في الإلهية لشيء دون الله ، عطف عليه قوله نفياً لدليل سمعي كما أشير إليه بقوله { أم آتيناهم كتاباً } { واسأل من أرسلنا } أي على ما لنا من العظمة . ولما كان الممكن تعرفه من آثار الرسل إنما هو لموسى وعيسى ومن بينهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام الحافظ لسنتهم من التوراة والإنجيل والزبور وسفر الأنبياء ، قال مثبتاً للجار المفهم لبعض الزمان : { من قبلك } .
ولما كان أتباعهم قد غيروا وبدلوا فلم تكن بهم ثقة ، عبر بالرسل فقال : { من رسلنا } أي بقراءة أتباعهم لكتبهم التي حرفوا بعضها ، وجعلت كتابك مهيمنا عليها فإنهم إذا قرأوها بين يديك وعرضوها عليك علمت معانيها وفضحت تحريفهم وبينت اتفاق الكتب كلها برد ما ألبس عليهم من متشابهها إلى محكمها ، فالمراد من هذا نحو المراد من آية يونس{ فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك }[ رقم : 94 ] ومن آية الأنبياء{ هذا ذكر من معي وذكر من قبلي }[ رقم : 24 ] مع زيادة الإشارة إلى تحريفهم ، فالمسؤول في الحقيقة القرآن المعجز على لسان الرسول الذي شهدت له جميع الرسل الذين أخذ عليهم العهد بالإيمان به والمتابعة له ، وبهذا التقرير ظهر ضعف قول من قال : إن المراد سؤال الرسل حقيقة لما جمعوا له صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس ليلة الإسراء ، فإنه ليس المراد من هذا إلا تبكيت الكفار من العرب وممن عزهم من أهل الكتاب بقولهم : دينكم خير من دينه وأنتم أهدى سبيلاً منه ، فإنهم إذا أحضروا كتبهم علمت دلالتها القطعية على اختصاصه سبحانه بالعبادة كما بينته في كتابي هذا يرد المتشابه منها إلى المحكم ، وجعلها ابن جرير مثل قوله تعالى
{ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر }[ النساء : 59 ] وقال : ومعلوم أن معنى ذلك : فردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال : فاستغنى بذكر الرسل عن ذكر الكتب . وهو عين ما قلته ، ولو كان المراد حقيقة السؤال وسؤال جميع الرسل لقال " قبلك " بإسقاط " من " ليستغرق الكل - والله أعلم .
ولما ذكر المسؤول مفخماً له بما اقتضته العبارة من الإرسال والإضافة إليه ، ذكر المسؤول عنه بقوله تعالى : { أجعلنا } أي أبحنا وأمرنا ورضينا على ما لنا من العظمة والقدرة التامة ، مما ينافي ذلك ، وقرر حقارة ما سواه بقوله : { من دون } وزاد بقوله : { الرحمن } أي الذي رحمته عمت جميع الموجودات { آلهة } ولما كان قد جعل لكل قوم وجهة يتوجهون في عبادتهم إلهاً ، وشيئاً محسوساً بغلبة الأوهام على الأفهام يشهدونه وكان ربما تعنت به متعنت ، قال محترزاً : { يعبدون } أي من عابد ما بوجه ما .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.