تفيضون : تندفعون وتخوضون فيه .
8- { أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم } .
في هذه الآية رد على الكفار ، وبيان لعظمة الألوهية ، وإطلاع الله على كل شيء ، وأنه منتقم ممن كذب عليه ، وهو الحكم بين النبي وقومه ، وهو سبحانه غفور لمن تاب ، وقد جمعت الآية بين تعظيم الله جل جلاله والرد على اتهام الكفار للرسول ، وفتح الباب أمام توبة التائبين منهم .
بل أيقولن إن محمدا افترى هذا القرآن واختلقه من عند نفسه ، وثم نسبه زورا إلى الله ؟
ثم يلقن الله رسوله الحجة ليقول لهم :
{ إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا . . . }
أي : لمن أفتري ؟ ألأجل أن أكسب أتباعا يؤمنون برسالتي من البشر ؟ إن الله أقوى من كل قوي ، وهو على كل شيء قدير ، وإذا كذبت عليه فمن يعصمني من بطشه وأخذه وقوته .
والخلاصة : أنا لا أكسب مخلوقا وأسخط خالقا ، لأن هذا الخالق إذا غضب علي فلن يملك أحد منكم أن يعصمني من عقوبته لي .
{ هو أعلم بما تفيضون فيه . . . }
لقد أحاط علم الله بكل شيء ، وبما تندفعون فيه من القول ، واتهامكم للقرآن بأنه سحر أو شعر أو أساطير الأولين ، واتهامكم لمحمد صلى الله عليه وسلم بصنوف الفِرى .
{ كفى به شهيدا بيني وبينكم . . . }
إن الله تعالى يشهد لي بالصدق ، وبأنه أنزل القرآن من عنده على محمد صلى الله عليه وسلم ، وكفى بشهادة الله تعالى شهادة تكفيني وتشرفني ، وقد رضيت بحكمه بيني وبينكم ، وفي ذلك من تعظيم الله والرضا بشهادته وإطلاعه ، وتهديد الكافرين بما يستحقونه من عقوبة الله الشهيد على كل نفس بما كسبت .
من قصد بابه تائبا غفر له وشمله برحمته وفضله ، ونعمته وقبوله ، فما أوسع فضله ، وما أوسع رحمته لمن تاب إليه ورجع إلى مرضاته .
قال تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء . . . } ( الأعراف : 156 ) .
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } أي : افترى محمد هذا القرآن من عند نفسه فليس هو من عند الله .
{ قُلْ } لهم : { إِنِ افْتَرَيْتُهُ } فالله علي قادر وبما تفيضون فيه عالم ، فكيف لم يعاقبني على افترائي الذي زعمتم ؟
فهل { تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } إن أرادني الله بضر أو أرادني برحمة { كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فلو كنت متقولا عليه لأخذ مني باليمين ولعاقبني عقابا يراه كل أحد لأن هذا أعظم أنواع الافتراء لو كنت متقولا ، ثم دعاهم إلى التوبة مع ما صدر منهم من معاندة الحق ومخاصمته فقال : { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي : فتوبوا إليه وأقلعوا عما أنتم فيه يغفر لكم ذنوبكم ويرحمكم فيوفقكم للخير ويثيبكم جزيل الأجر .
قوله تعالى : " أم يقولون افتراه " الميم صلة ، التقدير : أيقولون افتراه ، أي تقوله محمد . وهو إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا . ومعنى الهمزة في " أم " الإنكار والتعجب ، كأنه قال : دع هذا واسمع قولهم المستنكر المقضي منه العجب . وذلك أن محمدا كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه على الله ، ولو قدر عليه دون أمة العرب لكانت قدرته عليه معجزة لخرقها العادة ، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من الله له ، والحكيم لا يصدق الكاذب فلا يكون مفتريا ، والضمير للحق ، والمراد به الآيات . " قل إن افتريته " على سبيل الفرض . " فلا تملكون لي من الله شيئا " أي لا تقدرون على أن تردوا عني عذاب الله ، فكيف أفتري على الله لأجلكم . " هو أعلم بما تفيضون فيه " أي تقولونه ، عن مجاهد . وقيل : تخوضون فيه من التكذيب . والإفاضة في الشيء : الخوض فيه والاندفاع . أفاضوا في الحديث أي اندفعوا فيه . وأفاض البعير أي دفع جرته من كرشه فأخرجها ، ومنه قول الشاعر :
وأفضن بعد كُظُومِهنَّ بجرّة{[13816]}
وأفاض الناس من عرفات إلى منى أي دفعوا ، وكل دفعة إفاضة . " كفى به شهيدا بيني وبينكم " " كفى به شهيدا " نصب على التمييز . " بيني وبينكم " أي هو يعلم صدقي وأنكم مبطلون . " وهو الغفور " لمن تاب " الرحيم " بعباده المؤمنين .
ولما دلت هذه الآيات بعظيم {[58570]}حججها وزخار ما{[58571]} أغرق من لججها ، على أن ما يدينون به أوهى{[58572]} من الخيال ، وأن هذا الكتاب في صدقه وكل شيء من أمره أثبت من الجبال{[58573]} ، فكانوا أجدر الخلق بأن يقولوا : رجعنا عما كنا فيه وآمنا{[58574]} ، كان موضع أن يقال : هل أقروا بأنك صادق في نسبة هذا الكتاب إلى الله ، فعادله بقوله دليلاً عليه : { أم يقولون } مجددين لذلك متابعين{[58575]} له { افتراه } أي تعمد كذبه ، فيكون ذلك من قولهم عجباً لأنه قول مقرون بما يكذبه ويبطله كما يأتي في تقريره .
ولما كان كأنه قيل : إنهم ليقولون ذلك ، وقد قرحوا القلوب به فماذا يردهم عنه ؟ قيل-{[58576]} : { قل } ما هو أشد عليهم من وقع النبل ، وهو ما يرد ما رموك به عليهم بحجة هي أجلى من الشمس في الظهيرة صحواً{[58577]} ليس دونها سحاب . ولما كان من عادة الملوك أنه متى كذب عليهم أحد {[58578]}عاجلوه بالعقوبة{[58579]} قال : { إن افتريته } أي تعمدت كذبه على زعمكم{[58580]} وأنا إنما أريد به-{[58581]} نصيحتكم ، فالذي{[58582]} أفتريه عليه وأنسبه إليه يعاقبني على ذلك ولا يتركني أصلاً ، وذلك هو معنى قوله : { فلا تملكون } أي أيها المنصوحون في وقت من الأوقات بوجه من الوجوه { لي من الله } أي الملك الأعظم العزيز المتكبر الحكيم { شيئاً } مما يرد عني انتقامه مني لأن الملك لا يترك من كذب عليه مطلق كذب ، فكيف بمن يتعمد{[58583]} الكذب عليه في الرسالة بأمور عظيمة ويلازمه مساء وصباحاً غدواً ورواحاً ، فأي {[58584]}حامل لي حينئذ{[58585]} على افترائه ، والمقصود به-{[58586]} لا ينفعني ، والمكذوب عليه لا يتركني ؛ ثم علل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام بقوله : { هو أعلم } أي منكم ومن كل أحد { بما تفيضون فيه } من نسبتي إلى الكذب ، فلو أنه كما تقولون ما ناظرني فضلاً عن أنه يؤيدني وينصرني ، وفيه على ذلك تهديد لهم وتسلية له وتفريج عنه .
ولما كان الإملاء وحده ليس قاطعاً في ذلك وإن كان ظاهراً فيه ، فكان لا بد في دعوى الصدق من دليل قاطع وبرهان ساطع ، وكانت شهادة الملك الذي الكلام فيه أعظم الأدلة لأنه الأعلم ، ومدار الشهادة العلم ، فأنتج الكلام قطعاً قوله : { كفى } وأكد الكلام بما قرن بالفاعل من حرف الجر تحقيقاً للفعل ونفياً للمجاز{[58587]} فقال : { به شهيداً } أي شاهداً بليغ الشهادة لأنه الأعلم بجميع أحوالنا { بيني وبينكم } يشهد بنفسه الأقدس للصادق منا وعلى الكاذب ، وقد شهد بصدقي بعجزكم عن معارضة شيء من هذا الكتاب الذي أتيت به فثبت بذلك أنه كلامه لأني لا أقدر وحدي على ما لا تقدرون عليه فرادى ولا مجتمعين وأنتم عرب مثلي ، بل وأنا أمي وفيكم أنتم-{[58588]} الكتبة والذين خالطوا العلماء وسمعوا أحاديث الأمم وضربوا - بعد بلاد العجم - في بلاد العرب ، فظهر بذلك ظهور الشمس أنكم كاذبون { وهو الغفور } الذي من شأنه أن يمحو الذنوب كلها{[58589]} {[58590]}أعيانها وآثارها{[58591]} فلا يعاقب عليها ولا يعاتب { الرحيم * } الذي يكرم بعد المغفرة ويفضل بالتوفيق لما يرضيه ، ففي هذا الختام ترغيب للنبي صلى الله عليه وسلم في الصفح عنهم فيما{[58592]} نسبوه إليه في افتتاحها من الافتراء ، وندب إلى الإحسان إليهم ، وترغيب لهم في التوبة ، ومنع من أن يقولوا : فلم لا يعاجلنا بالعقوبة على نسبتنا لك إلى-{[58593]} الكذب إن كنت صادقاً بأنه يجوز أن يمهل الكاذب ، وأما أنه يؤيده بما{[58594]} يشد به كذبه اللازم منه أنه يزيد فيه فلا يجوز ، لأن ذلك قادح في الحكمة وفي-{[58595]} الكبرياء وفي الملك .