تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسۡـُٔولٗا} (36)

{ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( 36 }

المفردات :

ولا تقف : أي : لا تتبع من قولك : قفوت فلانا أي : اتبعت أثره ومنه قافية الشعر ؛ لأنها تقفو كل بيت ، والقبيلة المشهورة بالقافة ؛ لأنهم يتبعون آثار أقدام الناس ويستدلون بها على أحوالهم في النسب .

التفسير :

36- { ولا تقف ما ليس لك به علم . . . }

والمراد : النهي على أن يقول الرجل ما لا يعلم ، وأن يعمل بما لا علم له به ، وهذه قضية كلية ولكن المفسرين حملوها على صور مخصوصة .

( أ ) قال ابن عباس : لا تشهد إلا بما رأت عيناك وسمعته أذناك ووعاه قلبك .

( ب ) قال قتادة : لا تقل : سمعت ولم تسمع ، ولا رأيت ولم تر ، ولا علمت ولم تعلم .

( ج ) وقيل : المراد : النهي عن القول بلا علم بل بالظن والتوهم كما قال تعالى : { اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم } . ( الحجرات : 12 ) .

وفي الحديث ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) وفي سنن أبي داود : ( بئس مطية الرجل زعموا ) .

( د ) وقيل : المراد : نهي المشركين عن تقليد أسلافهم في الإلهيات والنبوات والتحليل والتحريم ؛ إتباعا للهوى وتقليدا للآباء بدون تثبت من صوابه أو خطئه كما قال تعالى : { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } . النجم : 23 } .

{ هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن } ( الأنعام : 148 ) .

( ه ) وقيل : القفو هو : البهت وهو في معنى الغيبة ؛ لأنه قول يقال في قفاه أي : خلف ظهره ، ومن ورائه . ومنه الحديث ( من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة {[400]} الخبال حتى يأتي بالمخرج ) .

( و ) أراد النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء {[401]} .

قال الطبري :

وأولى الآراء في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : لا تقل للناس وفيهم ما لا علم لك به فترميهم بالباطل وتشهد عليهم بغير الحق فذلك هو القفو ، وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب ؛ لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القفو فيه ، وأما قوله : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } . فإن معناه : أن الله سائل هذه الأعضاء عما قال صاحبها من أنه سمع أو أبصر أو علم ، تشهد عليه جوارحه عند ذلك بالحق . 1 ه .

وقريب من ذلك قوله سبحانه : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } . ( النور : 24 ) .

وقد وردت الآثار من القرآن والسنة تحث المؤمن على التثبت في أقواله وأحكامه واستقرائه ؛ حتى يكون قوله صادقا وحكمه سليما ورأيه صوابا .

قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم } . ( الحجرات : 12 ) .

وقال سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا . . . } ( الحجرات : 6 } .

وفي الحديث : ( أن أفري الفري {[402]} أن يرى الرجل عينيه ما لم تريا ) {[403]} .

وفي الصحيح ( من تحلم {[404]} حلما ؛ كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتي وليس بفاعل ) {[405]} .


[400]:- الردغة: بفتح الدال وسكونها: الماء والطين والوحل الشديد، الخبال: الفساد ويطلق على الجنون. وفي تفسير النيسابوري: وردغة الخبال: هي غسالة أهل النار من القيح والصديد. 1 هـ. ومعنى الحديث الشريف: من اتهم مؤمنا كذبا وزورا عاقبه الله في الدنيا بأن يجعل سمعته ممرغة في الوحل والطين حتى يتوب. أو عاقبه في الآخرة بأن يضعه في غسالة أهل النار من القبح والصديد حتى يأتي بالدليل والبرهان على دعواه وما هو بقادر على ذلك.
[401]:- ورد جل هذه الآراء في تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري 15/37، 38 طبعة بولاق.
[402]:- أي: أن أكذب الكذب أن يدعى: أنه رأى رؤيا في المنام كذبا.
[403]:- إن من أفرى الفرى أن يُرى عينيه: رواه أحمد في مسنده (5278، 5962) من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أفرى الفرى أن يرى عينيه في المنام ما لم تريا). ورواه أحمد في مسنده (16535، 16532) من حديث وائلة بن الأسقع يقول: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أعظم الفرى أن يدعى الرجل إلى غير أبيه، أو يرى عينيه في المنام ما لم تريا أو يقول على رسول الله ما لم يقل).
[404]:- تحلم حلما: اختلق الحلم من عند نفسه، شعيرتين أي: حبتين من شعير، ولما كانت الرؤيا من عند الله كما ورد في الحديث: الرؤيا من الله فمن قال: رأيت مناما كذبا يكون مفتريا على الله فيكلف بالعمل العسير كأن يعقد عقدة بين حبتين من شعير ولن يستطيع ذلك).
[405]:- من تحلم بحلم لو يره كلف أن يعقد: رواه البخاري في التعبير (7042) وأبو داود في الأدب (5024) والترمذي في الرؤيا (2283) وابن ماجة في تعبير الرؤيا (3916) وأحمد في مسنده (1869) من حديث بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ). ورواه أحمد في مسنده (10171) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صور صورة عذب يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فيها. ومن استمع إلى حديث قوم ولا يعجبهم أن يستمع حديثهم أذيب في أذنه الآنك. ومن تحلم كاذبا دفع إليه شعيرة وعذب حتى يعقد بين طرفها وليس بعاقد).