تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

المفردات :

أكالون : كثيرالأكل .

لسحت : السحت ؛ الحرام . كالربا ونحوه .

بالقسط : بالعدل

التفسير :

42- سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ . . . . إن هؤلاء المنافقين واليهود من صفاتهم-أيضا- أنهم كثيرو السماع للكذب ، وكثير الأكل للمال الحرام بجميع صوره وألوانه ، ومن كان هذا شأنه فلا تنتظر منه خيرا ولا تؤمل فيه رشدا .

وجاءت هاتان الصفتان- سماعون وأكالون - بصيغة المبالغة للإيذان ، بأنهم محبون حبا جما لما يأباه الدين والخلق الكريم ، فهم يستمرئون سماع الباطل من القول ، كما يستمرئون أكل أموال الناس بالباطل .

قال ابن الجوزي :

وفي المراد بالسحت ثلاثة أقوال :

أحدها : الرشوة في الحكم .

والثاني : الرشوة في الدين .

والثالث : انه كل كسب لا يحل .

فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ . أي : فإن جاءك اليهود متحاكمين إليك ، فأنت بالخيار بين أن تحكم بينهم . لأنهم اتخذوك حكما ، أو تعرض عنهم ؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك إتباع الحق .

قال الشوكاني في فتح القدير :

وقد أجمع العلماء على انه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم ، واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم ، فقيل : يجب الحكم بينهم ، وقيل : هو جائز وله أن يردهم ، ولا يحكم بينهم بشيء .

وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا . أي : وإن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم فلن يقدروا على الإضرار بك ؛ لأن الله عاصمك من الناس .

وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ . أي : وإن اخترت الحكم بينهم ، فالواجب ان يكون الحكم بينهم بالعدل ، الذي أمرك الله به وانزله عليك .

قال تعالى : إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ . ( النساء : 58 ) .

وقال سبحانه : وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ . ( المائدة : 49 ) .

وقريب منه قوله تعالى : يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ . ( ص : 26 )

إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ : وهو ختام للآية مقرر لما قبله من وجوب الحكم بالعدل إذا ما اختار أن يقضي بينهم .

يقال : أقسط الحاكم في حكمه : إذا عدل وقضى بالحق فهو مقسط أي : عادل ، ومنه : إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ .

روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن وكالتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " {[241]} .

في أعقاب الآية :

1- ذهب فريق من العلماء إلى أن هذه الآية منسوخة وان النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيرا بين الحكم بين اليهود أو الإعراض عنهم ثم نسخ ذلك بقوله تعالى :

وأن احكم بينهم بنا أنزل الله . والراجح أن الآية غير منسوخة ، وان التخيير لا يزال قائما ، أما قوله تعالى : وان احكم بينهم بما أنزل الله . فهو بيان لكيفية الحكم عند اختياره له .


[241]:إن المقسطين على منابر من نور: رواه مسلم في الإمارة(1827) والنسائي في آداب القضاة (5379) وأحمد في مسنده (6456) من حديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المقسطين عند الله على منابر نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم واهليهم وما ولوا.