السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَفِرۡعَوۡنَ ذِي ٱلۡأَوۡتَادِ} (10)

وأما القصة الثالثة : فهي في قوله تعالى : { وفرعون } ، أي : وفعل بفرعون { ذي الأوتاد } واختلف في تسميته بذلك على وجهين :

أحدهما : أنه سمي بذلك عل كثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا .

والثاني : أنه كان يتد أربعة أوتاد يشدّ إليها يدي ورجلي من يعذبه وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إنّ فرعون إنما سمي ذا الأوتاد لأنه كانت امرأة وهي امرأة خازنه حزقيل ، وكان مؤمناً كتم إيمانه مائة سنة وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذا سقط المشط من يدها فقالت : تعس من كفر بالله ، فقالت بنت فرعون : وهل لك إله غير أبي ؟ فقال : إلهي وإله أبيك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي ، قال : ما يبكيك ؟ فقالت : الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهك وإلهها وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له ، فأرسل إليها فسألها عن ذلك ، فقالت : صدقت . فقال لها : ويحك اكفري بإلهك وأقرّي بأني إلهك ، قالت : لا أفعل فمدّها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب ، وقال لها : اكفري بالله وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين فقالت له : لو عذبتني سبعين شهراً ما كفرت بالله ، وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها ، وقال لها : اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على فيك وكانت رضيعة فقالت : لو ذبحت من في الأرض على فيّ ما كفرت بالله عز وجل ، فأتى بابنتها فلما اضجعت على صدرها وأراد ذبحها جزعت المرأة فانطق الله تعالى لسان ابنتها فتكلمت ، وهي من الأربعة الذين تكلموا أطفالاً وقالت : يا أمّاه لا تجزعي فإن الله تعالى قد بنى لك بيتاً في الجنة فاصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله تعالى وكرامته ، فذبحت فلم تلبث أن ماتت فاسكنها الله تعالى الجنة قال : وبعث في طلب زوجها حزقيل : فلم يقدروا عليه ، فقيل : لفرعون : إنه قد زوى في موضع كذا في جبل كذا فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلي ويليه صفوف من الوحوش خلفه يصلون خلفه ، فلما رأيا ذلك انصرفا فقال حزقيل : اللهم أنت تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ولم يظهر عليّ أحد فأيما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجل في عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى النار ، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن ، وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رؤوس الملأ فقال له فرعون : وهل معك غيرك ؟ قال : نعم فلان فدعى به ، فقال : حق ما يقول هذا ؟ قال : لا ما رأيت كما قال شيئاً فأعطاه فرعون فأجزل وأما الآخر فقتله ثم صلبه . قال : وكان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت : وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي من فرعون وأنا مسلمة وهو كافر ، فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريباً منها ، فقالت : يا فرعون أنت أشر الخلق وأخبثه عمدت على الماشطة فقتلتها ، فقال : لعل بك الجنون الذي كان بها ؟ قالت : ما بي من جنون ، وإن إلهي وإلهها وإلهك وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له فمزق ما عليها وضربها وأرسل على أبويها فدعاهما فقال لهما : ألا تريان أنّ الجنون الذي كان بالماشطة أصابها . قالت : أعوذ بالله من ذلك إني أشهد أن ربي وربك ورب السماوات والأرض واحد لا شريك له ، فقال أبوها : يا آسية ألست من خير نساء العماليق وزوجك إله العماليق ، قالت : أعوذ بالله من ذلك إن كان ما يقول حقاً فقولا له أن يتوّجني تاجاً تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله ، فقال لهما فرعون : أخرجاها عني فمدّها بين أربعة أوتاد يعذبها ففتح الله لها باباً إلى الجنة ليهون عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت : { رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله } [ التحريم : 11 ] فقبض الله تعالى روحها وأدخلها الجنة . وروي عن أبي هريرة أنّ فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وجعل على صدرها رحاً واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء ، وقالت : { رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة } ففرج الله تعالى عن بيتها في الجنة فرأته .