إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ يَوۡمٞ لَّا بَيۡعٞ فِيهِ وَلَا خِلَٰلٌ} (31)

{ قُل لعبادي الذين آمَنُواْ } خصهم بالإضافة إليه تنويهاً لهم وتنبيهاً على أنهم المقيمون لوظائفِ العبودية الموفون بحقوقها ، وتركُ العاطف بين الأمرين للإيذان بتباين حالِهما باعتبار المقول تهديداً وتشريفاً ، والمقولُ هاهنا محذوفٌ دل عليه الجوابُ أي قل لهم أقيموا وأنفقوا { يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي يداوموا على ذلك ، وفيه إيذانٌ بكمال مطاوعتِهم الرسولَ صلى الله عليه وسلم وغايةِ مسارعتِهم إلى الامتثال بأوامره ، وقد جوّزوا أن يكون المقولُ يقيموا وينفقوا بحذف لام الأمرِ عنهما ، وإنما حسُن ذلك دون الحذف في قوله : [ الوافر ]

محمدُ تَفدِ نفسَك كلُّ نفس *** إذا ما خِفْتَ من أمر تَبالا{[467]}

لدلالة قل عليه ، وقيل : هما جوابا أقيموا وأنفقوا قد أقيما مُقامهما وليس بذاك { سِرّا وَعَلاَنِيَةً } منتصبان على المصدرية من الأمر المقدرِ لا من جواب الأمر المذكور أي أنفقوا إنفاق سرَ وعلانية ، والأحبُّ في الإنفاق إخفاءُ المتطوَّع به وإعلانُ الواجب ، والمرادُ حث المؤمنين على الشكر لنعم الله سبحانه بالعبادة البدنية والماليةِ وتركِ التمتعِ بمتاع الدنيا والركونِ إليها كما هو صنيعُ الكفرة { من قَبْلِ أَن يأتي يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ } فيبتاعَ المقصِّر ما يتلافى به تقصيرَه أو يفتدي به نفسَه ، والمقصودُ نفيُ عقدِ المعارضة بالمرة ، وتخصيصُ البيعِ بالذكر للإيجاز مع المبالغة في نفي العقدِ إذ انتفاءُ البيع يستلزم انتفاءَ الشراء على أبلغ وجهٍ ، وانتفاؤُه ربما يتصور مع تحقق الإيجابِ من قبل البائع { وَلاَ خلال } ولا مخالّةٌ فيشفعَ له خليلٌ أو يسامحَه بمال يفتدي به نفسه أو من قبل أن يأتي يومٌ لا أثرَ فيه لما لهَجوا بتعاطيه من البيع والمخالّة ولا انتفاعَ بذلك ، وإنما الانتفاعُ والارتفاقُ فيه بالإنفاق لوجه الله سبحانه ، والظاهرُ أن من متعلقة بأنفِقوا وتذكيرُ إتيانِ ذلك اليوم لتأكيد مضمونِه كما في سورة البقرة من حيث إن كلاًّ من فقدان الشفاعةِ وما يُتدارك به التقصير معاوضةً وتبرعاً ، وانقطاعُ آثار البيع والخِلالِ الواقعَيْن في الدنيا وعدمُ الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائدُه وتدوم فوائدُه من الإنفاق في سبيل الله عز وجل ، أو من حيث أن ادخارَ المال وتركَ إنفاقِه إنما يقع غالباً للتجارات والمُهاداة فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة فلا وجهَ لادّخاره إلى وقت الموت ، وتخصيصُ التأكيد بذلك لميل الطباعِ إلى المال وكونها مجبولةً على حبه والضَّنةِ به ، ولا يبعُد أن يكون تأكيداً لمضمون الأمرِ بإقامة الصلاة أيضاً من حيث إن تركَها كثيراً ما يكون بالاشتغال بالبياعات والمُخالاّت كما في قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة ، الآية 11 ] وقرئ بالفتح فيهما على إرادة النفي العام ودَلالةِ الرفعِ على ذلك باعتبار خطابيَ هو وقوعُه في جواب هل فيه بيعٌ أو خلال ؟


[467]:البيت لأبي طالب في شرح شذور الذهب ص 275؛ وله أو للأعشى في خزانة الأدب 9/11؛ وللأعشى أو لحسان أو لمجهول في الدرر 5/61؛ وبلا نسبة في أسرار العربية ص 309؛ والإنصاف 2/530؛ والجنى الداني ص 113؛ ورصف المباني ص 256؛ وسر صناعة الإعراب 1/391؛ ومغني اللبيب 1/224؛ والمقاصد النحوية 4/418.